من احمد بوزفور الى عبد القادر وساط

يابركات المنسرح.... ويانحاة البصرة وشعراءها وعلماءها وتلاميذها ومحبيها... جاءكم المنقذ. من دخل دار المنسرح فهو آمن.أما أنا فلا يعجبني إلا الشعر رجزا كان أو منسرحا... صحيحا أصيلا كان أو موضوعا.. ويعجبني خلف الواضع أكثر مما يعجبني خلف الأصيل، وليت شعري من يميز بينهما؟ وإن أعجبْ فعجب من خلف لا يكف عن الوضع حتى وهو على شفا السجن فيقلب شعر أبي نواس من الرجز إلى المنسرح مع أن العكس هو الصحيح، فقد روى أبو بكر الصولي في شرحه لديوان أبي نواس، بعد أن عرض قصيدته في رثاء خلف على المنسرح، والتي تبدأ بقوله:
( لا تئل العُصْمُ في الهضاب ولا/ شغواءُ تغذو فرخين في لَجَفِ... )
إلى أن يقول في خلف:
( كان يُسَنِّي برفقه غَلِقَ الـ = ــأفهام لا في خُرْق ولا عُنُفِ
يحوب عنك التي عشيتَ لها = من قبلُ حتى يشفيك في لَطَف
لا يهِمُ الحاء في القراءة بالـــ = ـــخاء ولا لامها مع الألف
ولا مضلا سبل الكرام ولا = يكون إسنادُه عن الصحُف
وكان ممن مضى لنا خلفا = فليس منه إذ مات من خَلَفِ )
فقيل لأبي نواس: القصيدة ليست لك.. لجودتها وصحة معانيها وألفاظها وشبهها بكلام من تقدم من الشعراء الفصحاء، فقلبها أبو نواس أرجوزة، ورد معانيها وألفاظها ليدل على أن القصيدة له دون غيره، وليبين موضعه من قول الشعر واقتداره عليه، فقال:
( لو كان حي وائلا من التلف = لوألت شغواء في أعلى شعف... ) الخ
والشغواء هي العُقاب.. وسميت كذلك لخروج منقارها الأعلى على الأسفل، واللجف والشعف أعلى الجبل..

***

ويعجبني مما وضع خلف أو قيل إنه وضع قول الشاعر على الرمل:
( قل لعمرو يابن هند = لو رأيتَ اليوم شَنَّا "
وشن هنا قبيلة
"لرأت عيناك منهم = كل ما كنتَ تَمَنَّى
إذ أتت فيلق شهــ = ــباءُ من هَنَّا وهَنَّا
ومشى القوم إلى القو = م أُحادا وأُثَنَّى
وثُلاثا ورُباعا = وخُماسا فاطَّعَنَّا
وسُداسا وسُباعا = وثُمانا فاجتلدنا
وتُساعا وعُشارا = فأَصبنا واُصِبنا
لا ترى إلا كَمِيّا = قاتلا منهم ومنا )
وكانو يناقشون مع الأصمعي قول عبد مناف ين ربع الجربي الهذلي:
( حتى إذا أسلكوهم في قُتائدةٍ = شلّأ كما تطرد الــ/ــجمّالةُ الشُّردا )
من قصيدة ليس فيها جواب ( إذا ) في البيت... فقال لهم الأصمعي: هذا ليس له جواب، وقد سمعتُ خلفا ينشد عن أبي الجودي:
( لو قد حداهن أبو الجوديِّ
برجز مسحنفر الرّويّ
مستويات كنوى البرنيّ )
لم يجعل له جوابا... وقال أبو عبيدة: هذا مثل قوله تعالى ( ولو أن قرآنا سُيّرت به الجبال أو قُطعت به الأرض.... الرعد:31 .. فتأمل معي هذا الرجز الذي يقول خلف إنه لأبي الجودي ( ويبدو أن أبا الجودي أحد إبدالات أبي محرز ). ألا يبدو فيها خلف كالحادي يحدو بالشعراء ، والحُداء رجز بالضرورة، ولكن رجزه ليس كالرجز، فهو غزير الصب ( مسحنفر ) كالمطر المدرار، وأبياته مستويات كنوى البرنيّ (والبرني، كما يقول اللسان، ضرب من التمر أصفر مدور وهو أجود التمر واحدته برنية )، وهو من تمور المدينة المنورة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحيه ويقول عنه: ( خير تمركم البرني، يخرج الداء ولا داء فيه ).. فلنتصور أنه نوع من التمر يشبه ( المجهول ) عندنا، ولكن لماذا البرني بالذات؟ ولماذا نواه؟ أبيات رجز أبي الجودي مستويات كنوى البرني. كنتُ أشبه الشعر القديم باللوز لأن ألفاظه الغريبة صلبة يابسة لابد من كسرها بالشرح والفهم لنصل إلى النوى الحلو داخلها. وهاهو خلف ( أقصد أبا الجودي ) يشبه رجزه بالتمر.. فهل ذلك يعني أن معناه يسبق لفظه إلى قلوب المستمعين والقراء؟ أو أنه يقلب الصيغة الشائعة في النقد العربي القديم ( اللفظ قشرة والمعنى نواة ) فيجعل المعنى قشرة واللفظ هو النواة؟ عجبي

***

وأخيرا وجدتُ لخلف شعرا ينسب إليه ولا يُتهم بوضعه. قال بعد سماعه بموت أبي جعفر المنصور:
( قد طَرَّقَت ببكرها أم طَبَقْ
فذمّروه خبرا ضخمَ العُنُقْ
موتُ الإمام فِلقةٌ من الفِلَقْ )
وهو شعر يحتاج إلى شرح: طرّقت الحامل إذا خرج من ولدها نصفه ثم نشب، فيقال: طرّقت ثم خلصت. وأم طبق اسم يطلق على الحية لأنها تستدير كالطبق. والتذمير أن يُدخل المذمّر ( المتخصص في هذا ) يده في حياء الناقة ( فرجها ) ليساعدها على الولادة المتعسرة أو ليعرف هل جنينها ذكر أو أنثى. والفِلقة الداهية أو المصيبة. وإذا تجاهلنا ما في هذه الرجز من الغريب ، والرجز هو أم الغريب وخلف أبوه، فإن هذه الاستعارة الغريبة ( خبر ضخم العنق ) لا يقدر عليها إلا أبو تمام الذي لم يكن قد برز بعد. عجبي

***

يقولون إن حمادا اللص نقب ليلة على رجل فأخذ ماله، وكان فيه جزء من شعر الأنصار فقرأه حماد فاستحلاه وتحفظه، ثم طلب الشعر وأيام العرب وترك اللصوصية.. فحماد إذن أول غاو عرفناه يتبع الشعراء، وأول لص هداه الشعر.. أم تراه فطن لما في رواية الشعر من ( الهمزة )، فاستبدل فنا آخر من اللصوصية بفنه القديم؟ وعلى أي حال فلولا حماد لما عرفنا المعلقات أيا كان أصحابها.. وقد كان أصدق الكوفيين لسانا: المفضل الضبي يقول عن حماد الراوية الكوفي: ( لقد سُلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا ). وأخيرا ما رأيكم في هذه الحكاية:
روي أنه اجتمع بدار المهدي بعيساباذ عالم من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب الحاجب فدعا بالمفضل الضبي الراوية فدخل، فمكث ملياً ثم خرج ذلك الرجل بعينه فدعا بحماد الراوية، فمكث ملياً ثم خرج إلينا ومعه حماد والمفضل جميعاً، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط. ثم خرج الحسين الخادم معهما فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس فيها، ووصل المفضل بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته. فمن أراد أن يسمع شعراً محدثاً جيداً فليسمع من حماد، ومن أراد
رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فسألنا عن السبب فأخبرنا أن المهدي قال للمفضل لما دعا به وحده: إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال: دع ذا وعد القول في هرم، ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئاً إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله أو يروي في أن يقول شعراً، فعدل عنه إلى مدح هرم وقال: دع ذا، أو كان مفكراً في شيء من شأنه فتركه وقال:
دع ذا، أي دع ما أنت فيه من = الفكر وعد القول في هرم
ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل فقال: ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟، فأنشده: من الكامل:
المرفل لمن الديار بقنة الحجر = أقوين من حجج ومن عشر
قفر بمندفع النجائب من = ضفوى أولات الضال والسدر
دع ذا وعد القول في هرم = خير الكهول وسيد الحضر
قال: فأطرق المهدي ساعة ثم أقبل على حماد فقال: قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لابد من استحلافك عليه، ثم أحلفه بأيمان البيعة وكل يمين محرجة ليصدقنه عن كل ما يسأله عنه، فلما توثق منه قال له: اصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير، فأقر له حينئذ أنه قالها، فأمر فيه وفي المفضل بما أمر من شهر أمرهما وكشفه.
ألم أقل لك سي عبد القادر؟... الوضع أجمل من الأصل دائما. كأن الأصل طبيعة والوضع فن. وأنتم أيها الباحثون عن الجمال... كذب عليكم الوضع.

1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى