حسن المسعود - الواوات

عـندما كـنتُ في بغـداد كـنت احلم أن اكـون فـنانا على الطريـقة الغـربية لما رأيـته من اعـمال فـنية مغـرية، فمثلا أن المـطبوعات الاوربـية للوحات الفـنان فان كوخ، أو خلال زيارة لمعـرض الفـنان حافـظ الدروبي عام 1962 كانت تـبهرني آنذاك ضربات الفـرشـاة للـزيت الذي يطاوع انـفـعالات الـفـنان.
انا القادم من النجف، تلك المديـنة ذات الألوان الـترابيـة والطيــنيـة. والبـيوت الـنائمة تحت شـلال نور الشـمـس السـاطعة كل ايام السـنة، كنـت منـبهرا بالمـادة الزيـتـية وألوانها الواضحة المتعـددة، وكثافـتها التي تكاد تـلمـسها العـيون، و كنت اتصورها الهدف الفني الذي لابد من الوصول اليه.
ربما انه لم يكن سـوى الانـبهار بالجـديـد والغـير مـعـروف، لأن قاعـدتي اللـونية والتـي هـي في اعـماقي الداخلـية. اريـد او لا اريـد انها بـنـيـت مـنذ طـفـولـتي على تـلك المـواد الرهـيـفـة، الـتي رأتـها عــيـني لأول مرة في النجف: التـراب الناعـم جدا، جدران الطابوق الذهـبية والمـساحات العـريضة من الجــص الابيـض. الجـفاف في النجف بكل شيء. وان الالوان الزيتية وكل ما هو زيـتي كان نادرا في النجف. وهكذا ان جملة اشـياء كونت جوهراحـساسـي الفـني و ســتـبقـى معي أبداً مادمت حيا.
عزلتي عـن الـعـالـم في النجـف كانت تجـعلـني احلـم بعـالم اوسـع، ولما كـنت محاطا ً بالصحراء، هذه الصحراء التي قد تـبدو للاخـرين الحـرية المـطـلقـة. كانـت بالنـسـبة لي آنـذاك سـجـناً بـسـور لامرئي، ولذلـك فأن بغـداد كانت اول مديـنة مفـتوحة على العالم رأتها عيناي.
الانـبهار بالـفن في بغـداد كان كنور في نفـق الظلام الذي كنت اعـيـشـه، وكمنـفـذ مُطَمْـئن داخل عالم من القـلـق. ركضـت خلف هذا الـفـن، اتبـعه، فـقادني بعـيدا بعـيدا حتى ومراسم المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس ـ البوزارـ وقاعات المتاحف والمعارض.
لكنما السنوات الاولى في عاصمة الفن كانت بالنسبة لي تياه مستمر . وعدم الالتزام بنوع من الفنون التي كنت ادرسها. كنت افـسـر الضياع في الـسنوات الاولى بهذه المدرسة بأنه عائد الى سـذاجـتي الآتـية من الـعالم البسيط الذي ولدت فـيه واخـتلافـه عن بلد الحضارات المتـقدمة الذي اعـيـش فـيه. وهكذا امضيت خمـس سـنـوات من التـناقـضات.
ان المادة الزيـتـية التي كانت تـبهـرني في بغـداد لم تعـد تـبهـرني قط، والنـماذج التـقـليـدية لملئ اللوحة بوضع شـخوص او اشـياء، في رسـمـها واعادة رسـمها، لم تعد تـقـنعـني. لأني وجدت نفـسي اقـارن كل ما اعمـله بأعمال فـناني اوربا. وكل ماهو في داخلي من جذور فـنـية اهـملـتها و تركتها تـنـتـظر، وهـكذا في آخر سـنوات دراسـتي الفنية كـنت واعـيا ان ما ابحث عـنه ليـس اسـلوب وطريـقة الفـن الغربي. اوعلى الاقـل ليـس المـقارنة بهـذا الفـن الغـربي، لأن أعـماقي محملة بألوان وأشـكال اخرى. ولـسـت هـنا بـناكر لكل ماتعـلمـته في دراسـتي العـلـيا بفـرنـسـا، انـما هـذه الـدراسـة نفـسـها تطـلب من كل واحد اضافة شيء جديد غـير معـروف، الوان لم تـُرى من قـبل. اشـكال لم تـُــرسمْ بعـد. ايحاءات ورؤى واجواء لم يتطرق الـيها احد. والخ
ولكن اين هـو الطـريـق الـذي اريد ان اسـلـكه للوصول الى هذه الأشـياء في داخلي؟ فأنا لا اعرف الاتجاه بالضـبط. يقول الحكـيم الصـيـني كونفــسـيـوس هناك من يستطيعون ان يعـملوا دورة حول العالم، ولكنهم غير قادرين على الاتجاه بخـطوة واحدة تـجاه انـفـسـهم. كـنت انا واحد منهـم، ولكن ايهـا الجـد كونفـسـيـوس هل تدري ان الخطوة الواحدة باتجاه انفـسـنا هي اصعـب بكـثـيـر من الجـولة حول العالم؟ الفيلسوف سقــراط ايضا كان يصرخ عاليا: اعرف نفـسـك بنفـسـك ولكنه كان واعـيا لصعـوبة هذه المـعـرفة فحفرها على الجدارالصخري للمعـبد الاغريقي.
وفجأة جال في ذهـني ما يمكن ان يلخصه المثـل الافـريـقي: إن لاتـعـرف ايـن تـذهـب تـذكر من ايـن اتـيـت. ولكن التـذكر من أين أتـيـت اسـهـل من القـيام بخـطوة إلى داخل انـفـسـنا. سوى انني الآن قـلـق، لما كنـت اتـخوف منه وهو تصّورالاخرين بأن هذا الرجوع يعني التخـلف الى الوراء.
كنت اعـتـقـد انني جـئـت الى اوروبا كي اكون فـنانا عالـميا. وكان بذهـني آنذاك كوني فنانا عالميا هوالتـقـليـد للمـدارس الغـربـية في الفن، واليـوم اشـعـر بأن من يريد ان يكون فـنانا عالـميا، لابد من أن يجلب اجواء ورموز مصدرها المكان الذي ولد فـيه، وتطويرها على ضوء المعـرفة بالفـنون العالـمية الاخرى. فالمحلية هي شرط الولوج في العالمية.
اكـتـشـفـت فـيما بعد ان مجالات الفـن والادب لمجـتمـعـنا يمـكنها ان تحوي ثراء مهما، قد يجـيـب على تسـاؤلات البـشـر حتى في العالم الصناعي الـمـتــقـدم. واصـبحت مـتأكدا ان التـطورالصـناعي والثراء المادي لا يعـني ايضا ً تطور وعي الانسـان الفني والاخلاقي، وكما يقول غاندي ان التطور لايعـني اتـساع الامتلاك انما العيـش بأتـساع.
العـيـش بأتـساع هذا ما اريد ان اصل اليه عبر الفـن. وادرك الآن ان باريس اعطـتـني شـيـئا مهـما جدا انها تـطـلب مني الرجوع لثـقافـتي الاصلية. بغداد عرفـتـني على الفـن الاوربي، وباريـس عرفـتـني على الفـن الـشـرقي. نعم ان باريس اشارت علي الرجوع لثـقافـتـي العراقـية ومماحكتها على ضوء ماتعرفت عليه هنا. وما أكد لي ذلك هو الحال الذي يعــيـشه الكــثـيـر من الطـلـبة الآخرين. اذ لم يعـد لديهـم تـقـيـيـم اكـيد في طرق آبائهـم من الفـنانيـن الذيـن يعـتــرف بهـم المـجتـمع كـفـنانـين كبار مثـل بـيكاسـو وماتـيـس، أي ان طرق هؤلاء الـفـنانـيـن الكبـار والتي فـتحوها في بداية القـرن العـشـرين لا يمكن سـلكها ولابد من فـتح طرق جديدة. اذن نحن في زمن يختلف عما كان عليه الفن في القرون السابقة. عندما كان التلميذ يسير على نهج استاذه. وانما اليوم لابد لكل فنان ابداع الطريق الذي سوف يسلكه.
ان بعض الطرق الجديدة المـهـيـمنة في الفـن المعاصر في اوربا مشـكوك بها لانها ترفض شيئا جوهريا رافـق الفـن منذ البداية، الا وهو الجانب المهـني للمواد الفـنية والقـدرة على الرسـم بمهارة. انها حركات ذهـنـية ترفض الاحساس وتعـتمد على الأشـياء الغـريـبة، وكل شـخص دون دراسـة ومـمارسـة للـفن يمكنـه ان يكون فـنانا بهذه الطريقة.
لنرجع الى المثـل الافريقـي والتـذكر من اين اتيـت كما يقول. بالنــسـبـة لي سـيـكون رجوعي بأجواء الخـط العـربي، لانني امارسـه منـذ الطـفـولة، وعلى الرغـم من وجود بعـض الافكار عـندي بتـطويره في ذلك الوقـت، لكنها تبقى افكار خجولة وغـير واثـقة من نفـسها. كان هذا في عام 1975 وكانت هناك احاسـيـس وأفكار اخرى تمـر في ذهـني. ماذا سـيـقــول اصـدقائي الفنانيـين؟ الذين يرون على غير حق في الخط العربي شـيـئا ًقـديــما ً يرافـق التـخلف العـربي؟
وماذا ســيـقول اصدقائي الخطاطـين الكلاســيكـيـين، في عدم اتباع القـواعد التي يسير عليها كل الخطاطين؟
في البداية اردت عمل دراسـة شـاملة عن الخط العـربي منـذ بداياته الاولى. ولكن كيـف يمكن ذلك لطالب في باريـس، لاتـسمـح له الامكانـيات المادية للسـفر الى بلدان الخط؟ ثم اقـتـنعت بفـكرة دراسـة كتـب الخط، وبعد ذلك الحلم بالذهاب للقاهرة واسطـنبول لدراسة الخطوط في معالمها ومكـتـباتها.

الحدس يقـودالـفنان دائما، وبداياتي كما قـلت في مجال الخط الحديث كانت خجولة وغـير واثـقة. لكنـما كـنت اســيـر بدافـع داخلي قوي لعـمل خط حديث، وكأنما أرى النهاية الممكنة و كما يقول الحكيم اقـدم على طريقـك لانها لاتوجد الا بمـسـيرتك. وهكذا اقـدمت اقـلب صـفحات هذه الكـتـب انظــم في مخـيلـتي طريـق الخط العـربي منـذ بداياته، وعلى مايقـارب الالـف سـنة. كيـف تطور نـفـس الحرف عـشـرات المـرات بـشـكل مخــتـلـف ولكنه يبـقى يحمل نفــس الصوت في التـلفـظ؟ واحيانا كانت صـفحة واحدة تأخذ مني شـهـورعديدة لدراسـتها وتحلـيلها. مثـلا صـفحة مصورة عن قرآن الحاضنة المخطوط في القيـروان بالـقرن الحادي عـشـر، نوع من الكوفي المتـين البـناء والرائع الـشـكل. هل هناك تاثـيـرات من عالم الفـن الافـريـقي على هذا الكوفي التـونـسي؟ فأن الكـتـل السـوداء للحـروف توحي لي بذلك. اخذت اعـيد رسم كل حروف هذا الاسـلوب واحفـظها عن ظهر قـلب بالتمـرين المتواصل والخط بها، لاني ادركت ان هنالك شيئا ما في هذا الاسـلوب الكوفي يمكن ان يكون معاصرا. وأنني يجب ان اعمـل علـيه لـسـنوات، و سـيـصبح احد عناصر خط حديث .
وها هي الطغـرة ، توقـيع الـسـلاطـين العـثمانيـيـن، عـشـرات منها مـتـشـابهة ومخـــتلـفة. انها ينابـيـع من التـكوينات الجمالية يمكـنني ان اغـرف منها ما اريد في تكويناتي الفـنية المقـبلة. يكفـي ان اعمل تغـيـيرات فيـها. كالـتـبــسـيـط لها، أي وضع كلمة واحدة بدل عـدة كلمات. او خطـها بآلة عريضة جدا على نفـس المـسـاحة، وهكذا سـاحصل على خطوط آتـية من الخط العربي القـديم ولكنها لا تـشــابهه.
هناك شئ آخر وهو زمن الخط العربي، البطيء اعتـياديا، والذي يـمكن ان نـسـتـفيد منه بعـض الاحـيان في عالـمـنا الـسـريع في الغـرب. ومرات اخرى على العكــس يمكن ان ندفـع الخـط الـعـربي للاسـراع والركـض، وهو ما لم يعهـده آنذاك فـنـجـعله يـفـيـق من نومه. ويـسـاير موكب العالم.
وهكذ اقـــلــّب صفحات هذه الكـتب كـمن ينقب تحت الارض عن الآثـار الـقديـمة، احيانا تمر شهـور طويلة بدون ايجاد شــيئا ثـمـيـنا، ولابد من الصبر.
في احد الايام رايـت صـورة صغـيرة سـوداء و غـير واضـحة لخط يشـابه واوات متـعانـقة، كنـت هادئا انذاك وأملك الوقـت الكافي للـتامل، فـقادتـني احـاسـيسي الى تخيلات غير طـبـيعـية عـندي، اذ بدات ارى هذه الحروف كطائر عـملاق في الفـضاء. شـكل ثابت ومتـحرك في آن واحد.
اخـذت اتصـور وأتـخيل وأكلم نـفـسي كم هو حجم هذه الحروف في الفـضاء؟ انه يقاس على عدة امتارحتما، انه ضخم جدا ، ان هذه الحروف هي الفـن الذي ابحث عنه. فرغم قـوة التـكويـن وصلادته فانه يمـتـلـك دينـاميـكية إلى حد الطيران عالياً. وفي قـلـب التكـوين توجد نقـطة تـماسـك وثـبات، بـيـنما تكون الاطراف كالاجـنحة المتحركة تـذهـب لكل مكان. ان هذه الحركة الديـنامـيكـية تبـدو وكأنها ابدية.
هنالك في الاعلى غمـوض يتـطلب من المـشاهد تحليـل ما يجري في تصادم العـيون. شكل العـيون في الاعلى ناتج من تـشـابك رؤوس الواوات. اشكال مخـيـفـة حقا ولكن في اسـفـلها بوسـط التـكوين هنالك شـكل هنـدسي هاديء ويـبـعث على الاطمـئـنان. ان جـسـم كل حرف له قـدرة تعـبـيـرية، وهـنا في هذا التكوين نرى هذا بوضوح عبر كل حرف وحسب طريقة رسمه.
ماهو هدف الخـطـاط من عـمل هذا الخط، وما الذي يريد التعـبـيرعـنه؟ هل انه اراد ان يعـبر عن رؤاه ازاء الحـياة؟
الخط ثابت بمكانه منذ قرن ولا يـتحرك، انما الحركة هي في ذهـن وتخيلات المشاهد. ان ما تراه العـين هو علامة سـوداء على جدار ابيـض، فالحروف فـقـدت شـخـصـيـتها الفردية وانضـمت للمجـموعة لتـكون شكلا موحدا.
التـكوين العام فـيه حروف مرئـية تـقـرأ واخرى لا تـقـرأ. ولكن ما يهـمـني هو الشكل العام والذي اسـاسـه يكون حرف الواو فـقـط، كم هو ماهر وذكي هذا الخطاط الذي عمل هذه اللوحة الرائعة عبر حرف واحد. كنت اتـسـاءل هل يمكن لخطاط في عصرنا ان يعـمل شـيـئا ً بهذه الـقـوة والبـساطة في نـفـس الوقـت؟
عـمل الخطاط اللوحة من حرف واو نهايـته مدورة. وحرف واو آخر نهايـته مدببة حادة كالسـيـف. ثم قـلب الحرفـين على العـكـس، فـنـرى اربع واوات اثـنـين من جهة الـيمـــيـن واثـنـين من جهة اليـسـار. ربما ان ما اعـجـبني ايـضا هو فـكرة وضع ما يرمز للـحنان في الاسـتدارات للواو في الاســفـل، وما يرمز للخطورة في نهاية الواو الآخر كالـسهـم او كالسيف. وهذه ثـنـائـية تعكس طبيـعة العالم البـشـري وقدرالانـسان.
طرحت سـؤالا على نفـسـي: كم هو عـدد الامتار للـمساحة الحقـيـقـية التي يملأها الخط؟ وما ادهـشـني اكثـر هذه المرة وعـلى الرغم من تـخيـلاتي بان الخطوط عـملاقة، فان تصوري للحجم الحـقـيـقـي للخط يصل الى ما يقارب الاربعة امتار طولا. كيف عمل الخطاط هذا الخط على الجدار ، انه حتما واجه وتخطى مشكلات فنـية كـثـيرة.
امـضـيت سنـوات اسـتوحي خطوطا من هذا التـكوين، كواحد من عـشـرات الـينـابـيع الاخرى التي تـغـذي عـمـلي الــفـني، ان هذا الخط بالنـسـبة لي كان كمـفـتاح يفــتح لي بابا كانـت مــغـلـقة. لاٌكـتـشـف حرية واسـعة في عـملي الـفـني. أي كلمة اريد خـطها احاول ان اعـطـيها هذه الديـنامـيكـية. ديـنامـيـكـية لا تأتي الا بـشـرط ان يجاورها ثـبات.
النـتـيجة في خطوطي شئ آخر في كل مرة، أي لاتـشـابه فعلا هذا التـكوين وأنما أجد تكوينا آخر، ولكن هذا مفرح دائما اذ لا اريد ان اقـلد هذا الخط بل اريد فـقـط ان يفجر ما اخزنه في داخلي من رؤى تشـكـيلـية.
ولما لم يتوقف عـندي ذلك الإلحاح الداخلي بالتعاطف مع هذه الجدارية. قررت في عام 1980 ان اسافر الى تركيا لرؤية هذا الخط بمكانه. ومن اسطنـبول ركـبت الباخرة ثم الباص حتى مديـنة بورصة، العاصـمة الاولى للعـثمانـيـين في القرن الرابع عـشـر. والتي تحوي على معالم رائعة من حيث المعمار والـسـيرامـيك. الخط الذي ابحث عـنه انه في الجامع الكبير وسـط الـمديـنة.


ها انا وجها لوجه مع واواتي ! كم هو مؤثر هذا اللـقاء.انه خط محمد شـفـيـق في القـرن التاسـع عـشـر. قررت ان ابقى عـدة ايام اتأمـل هذا العـمل الفـني، فـسكـنت في فـنـدق يقـابل المـسجد. وكل يوم ابقى لعدة سـاعات اتأمل هذا الخط وابحث عن اسـباب تأثـيره علي. لقـد اصـبح عـندي هذا الخط كجـسـريربط مابـيـن الخط القـديم والخــط الحديث الذي اطمح اليه. هنا تذكرت مثلا يابانيا يتكلم عن البـشـر قـبل ان يتـكلم عن الزهر: اذا اردت ان تـتـفـتح الازهار فلا تـقـطع الجذور.
عندما ازور متحف اللوفر لرؤية اللوحات. امر امامها او اتوقـف قليلا. بيـنما هنا أمام الواوات اجلس لزمن طويل. ومن وقـت لآخر يداي تخـط في الهواء نفــس الحروف وكأنـني اريد الدخول الى قـلب التـكوين. يزيد من ذلك انني محاط بعـشـرات الخطوط الكبيرة الاخرى لمحمد شـفـيـق وخطاطين آخرين مما يعـطي للحروف هنا مكانا مسـرحيا مهــيـبا، فـتأخذ فـيـه الكلـمات اقـصى امكانـيات التعـبـير.
الخـط امامي بهـذا الحجم الكـبـير وانا جالـس على الـسـجاد. اراه بعـين اخرى انه الآن محاط بالجمهور، وبمكانه الحـقـيـقي على الجدار المعـماري وليـس صورة صغـيرة في كـتـاب.
وان كان الخطاط قد طـبق طريقـة الخط بالقـصـبة ثم كـبرها. فانه عـمل بعـض التـصـليحات الاضافية مما يعـطي للخط انـســيابـية وليـونة تخفـف من ثـقـل حجمه الكبـير .

كـنت سـابـقا ً اطـلب من الكثـيـريـن قراءة النـص في الصـورة ولكن لم اجد احدا يسـتـطيـع قراءة النـص المـخـطوط في قـلب الواوات. وهي عبارة غامـضة: اتـقـوا الواوت.
لماذا يا محمد شـفـيــق تخط عبارة لاتـقرأ؟ واكاد اسـمع صوته يقـول لي: الخط يقـرأ او لايـقرأ فلـيـس هذا هو المهم. المهم هو المتعة للمـشـاهد، وان الحركة التي يعكسـها التكوين الفـني انما هي ايضا طاقـة تغـذي الانـسان، طاقـة الانتـصار على الفاجعة والمتاعب اليومية.
حتـما ان محمد شـفـيـق يعـبر في هذا الخط عن احاسـيـسـه قـبل كـتابته للعـبارة. فرغم الحركة الـسـريـعة في الاطراف فان الحروف لن تـسـقط ولن تــتـفــكك. وهـناك شـعور بالامان للمـشـاهـد ولو كان العــكس أي لو اعطى الـتكوين ايحاءاً بالسـقـوط، فأن المـشـاهد سـوف يعـيـش احـساسـات الـغم.
اربعة حروف لا اكـثر توقـظ عنـدي اشـياء كـثـيـرة. لأن التـركـيـب ناجح ولأن القـياسـات معـتـدلة ومريحة للـنظر. اننـي متـأكد من ان خطا ً جميلا يمكنه ان يترك تأثـيرا اخلاقـيا وايجابـيا على المـشـاهد.


ان محمد شـفـيـق عـمل تكوينا تجريديا قـبل ان تولد الحركات التجريدية في الفـن الغـربي. ولأيضاح ما أقـول. فالكل يعـرف انه في الخط العربي تياران بشكل عام: الاول هو خط الحروف بشكل واضح للقراءة وهو ما نراه دائما ًفي الكتب. وقد وضع اجيال الخطاطين قواعد صارمة تـتـعلـق بالمواد: الورق وصقـله، الحبر وتحضـــيره، القـلم وبريه. اما الحروف فـلها طول وعرض وبداخلها فروق رهـيـــفة لاترى بالعـين انما بالتـحـسـس فـقط، ومن اسـلوب لآخر فيـها فوارق. وكل هذا يحتـاج سـنوات عديدة لهـضـمه عـبر التـمرين والمـمارسـة. كل تـلميـذ يقـلد اسـتاذه ويـــهـضم تعاليـمه ويـســير على خطاه لمدة سـنوات طويلة. ولا تـبرز في خطوطه إلا فـوارق صغـيرة عن خطوط اسـتاذه.
قواعد الخط في حـقيـقـتها هي افكار جمالية تعكس مفهوم عصرها السـائد، ولأن المجـتمعات الانـسـانـية تـتطور، فأن الجمال اي القواعد سـتـتـغـير ايضا، وهذا لا يعـني رمي كل شيء والتخلص من تركة الماضي، انما لابد من الحفاظ على اكثر الاشـياء نـبلا وتطـوير ما شـاخ وهـرم برداءة واصبح غير ملائم لعـصرنا الحالي. وهذه القاعدة لا تخص الخـط العربي وحده انما سـائر جوانـب المجـتـمع ونـتاجاته الـثـقـافـية والمـهـنـية، اذ لا يمكن اليوم الـسـفـر على ظهر الجمل لـشـهورطويلة ما دامت الطائرة تحقـق نفـس الـسـفـرة بـساعات.
أما النوع الثاني من الخط والذي نراه احيانا في المعالم المعمارية. كخط محمد شـفـيـق للواوات، فأنه ناتج من القـواعد المذكورة في القـسـم الاول يضاف اليها احاسـيـس الـقـلب: الانـفـعالات او الـهدوء الداخلي. والهدف من هذه الخطوط ليس قراءة النص، انما قراءة جمالية هـندسـيـة وموسـيــقـية يمكن لأي شخص يـتـذوق الفـن ان يقرأها على طريـقـته، حتى لو لم يعرف الحروف العربية. وهنا يكمن مجال الابداع في الخط العربي لأن كل ما يعمله الخطاط يكون فريدا ولا يـشـابه أي عـمل آ خر. انه يحطم الحروف ويعـيد بنائها من جديد. واسـتعمـل هنا كلمة البـناء بوعي لانني اعـتـقـد ان الخطاطين الكبار كانوا كالمهندسـين وكل اعمالهم تخضع لدراسة معمارية. ولكن عبر الاحساس وليس عبر الحساب والقياس بالمسطرة والبركار. فأن حرف الواو بهذا الاسلوب معروف منذ قرون بعيدة، ولكن دمج اربعة حروف بهذه الطريقة انه شيء جديد في القرن التاسع عـشـر، انه ابداع الـفـنان محمد شـفـيـــق. وقـد خلق محمد شـفـيـق اشـكال اخرى جديدة في نفس المكان، خطوط تخـفي دائما في داخلها شــيـئا من عالم الصورة. ولكنها صور مبهـمة يـفـسـرها كل واحد حــسب رغــبـتـه. على الضـد تماما من الصور الفوتوغرافـية التي تفـسـر كل شيء ولا تـترك للانـسان امكانيــة الـتخـيـّل.
اعود للواوات التي خطها محمد شــفـيق. وبعد سـنوات من البحث والسـؤال عن الـسـبب في اعطاء القـوة والكـبر لحرف واحد في الالفــباء العربـية، وجـدت بعـض الاجوبة الـشـفـويـة التي قد تكون مقـنعة. وهي ان حرف الواو هو الحرف الذي يمكنه قول شئ ما بمفرده في الالـفباء العـربـية، وان كل الحروف العربيـة الاخرى يجب ان يرافـقها حرف آخر. فانه الحرف الفـريد اذا. ومن جهة اخرى نفـس هذا الحرف يكون حرف الوصل أي الحرف المتعـدد.
و الصـوفـيون الذين يعـطون للخالق 99 اسـما كالنور والكريم والعادل والباقي والعالي والمعمار ....الخ اي تعدد صفات الواحد الاحد ويرمز بعضهم بدل كل هذه الاسـماء بحرف الواو. وبأختـصار اذن انه الحرف المتـكرر وانه الحرف الواحد الفـريد بآن واحد.
وهناك عبارة لخطاط صوفي يقول فيها: اكاد ان ارى الله عندما اخط حرف الواو في كلمة هو.


اما تكوين المرآة التي استـعـملها محمد شـفـيـق فـقد اسـتـخدمها الكــثـيـر من الخطاطين الصوفيـين، بهدف تخطي الثـنائـيات نحو الوحدة، نماذج متـتـعددة متـضادة: الولادة والموت، السـعادة والعـذاب، اللـيل والنهار ...الخ كيـف يمكن الوصول الى وحدة هذه الاشـياء؟ فـيجـيــب الصوفي: كلما هذب الانسان نفـسـه فـسوف يكون لماعا كالمرآة، فالمرآة يمكنها ان تعكس الوحدة بداخلها. ومباديء الصوفية الاساسـية هي معرفة الانسـان لنـفـسه، والبحث عن الحقــيـقـة بداخله، بالتـأمل وممارسـة التـعـبـيـرالفـني: في الرقـص والموسـيـقـى والغـناء والشـعر والخط ...الخ، وقول شيء عبر هذه الفـنون انما يـسـتدعي ايحاء شيء آخر عـند الـسامع او المـشاهد.
والان، انا وهذه اللوحة؟ كيف سـأفـسـر العـطاء الذي حـملـته لي؟ هناك عـبارة للـفـنان الفـرنـسي هـنري ماتـيـس يقول فـيها: انني مكوّن من كل ما رأيـت.
ويـمكن الـقول انه يوجد بشـكل عام نوعان من الخطاطين. فهـناك الخطاط الكلاسـيـكي الذي كان يعـيـش على تعالـيم اسـتـاذه ولا يعـرف غـيـرها . وهـناك من يـشـابهـني في التـجول بالمـتاحف والمعارض. والاخـتلاط بمهن اخرى تـقـترب من الخط في جوهرها كالرقص والموسـيقى والغـناء. فـنحن نرى اليوم فـنون العالم اجمع عبر السـياحة والمطـبوعات ووســائل الاتصال الحديـثة، ولابد ان نسـتـنـتج ما هو خط اليوم في هذا العالم. وما هو المكان الذي يأخذه الخط العربي، فـفي السـابق كانـت الخطوط تغـلـف جدران المعالم المـعـمارية: المـسـجد والقـصر والمكـتـبة والمـدرسـة والحمام ...الخ اليوم لم يعد هنالك مجالا للخط في المعمار. ولكن يمكن ان نبحث عن اماكن جديدة لحضور الخط العربي، وليس بالضرورة ان تكون اماكن ثابـتة، وانما عـبر اسـتخدام التـكنـولوجـيا الحديـثة كأدوات اتصال ثـقـافي وعـبر المطـبوعات وبكل وسائل الفـن الممكنة.
لا يجب ان نقـلد بشكل اعمى فـنون الاخرين، ولكن يجب ان تكون عـيوننا مفـتوحة عليها لتـقـيـيم فـنـنا وتـغـذيـته من ايحاءاتها ان تطلب الامر، الخلاصة لما اريد قوله هنا هو ان نعرف ما نعطي وما نأخذ في تعاملنا مع الفـنون الاخرى. فاعـتـقد ان سـبب ما جـذبنـي للواوات هو اهتمامي بالفـن التجريدي الـغـربي والخط الصيني ، فوجدت عند محمد شـفـيـق تـكوين تجريدي ولكـنه يخـفي ايضا بالاضافة للتجريد معنى ادبي. وبالنـســبة لي ارى مزج الحركات الخطية مع النص الادبي يمكن ان يجـعـل الفائدة اعمواوسع، فمع الكـنوز الشـعـرية التي نملكها، وتعـدد اسـالـيب الخط ولـيونـتها، انها حقـا لثـروة لا تـنـضب. فكما يقول الـشـاعر" كـبـير" في القـرن السادس عـشر:
لا تـذهـب يا صاحبي الى حديـقة الورود ، ان حديـقة الورود هي في داخلك.


حسن المسعود 2006


الواوات ـ بقلم الخطاط حسن المسعود calligraphy, Hassan Massoudy

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى