ناصر الجاسم - سوق الحرام.. قصة قصيرة

انتهت السنة الدراسية، وتمثل ذلك الانتهاء في انتشار الدراجات الهوائية في الشوارع راكبًا عليها الأطفال الناجحين هدية لهم من آبائهم، وقد بدأ الأطفال فوق الدراجات يتعثرون في قيادتها ويسقطون من فوقها كفراخ العصافير في فصل الربيع تتعثر في طيرانها بالسقوط المتكرر..

وتمثل أيضا في الزحف العائلي إلى مكة، وكنتُ ممن زحف إليها ولكن بلا عائلة، لأنني مذنب متخصص، فقد أنهيت سنة عاطفية في غزل النساء، ولو أن الدنيا خَلَتْ من النساء لخلتْ صحيفتي من الذنوب، يا لروعة النساء! كل شيء فيهن يشدّك إلى التغزل بهن، أجسادهن وملابسهن وأصواتهن وأحذيتهن وشعورهن وحليهن، وحتى أسماؤهن التي تنشر في الصحف تجذبك إلى اشتهائهن، وحين دخلتُ الحرم كنت حريصا على أن تنظر عيناي إلى موضع قدمي وأنا أطوف وأسعى خوفا من أن تجرني أنثى إلى التغزل بها، وقد تناهى إلى سمعي صوت عاقد أنكحة يتلو صيغة زواج شاب على شابة حول مقام إبراهيم، فحين قالت الفتاة قبلتك زوجًا، رجف قلبي، فنسيت حرصي، ورفعت رأسي، فذبحتني العينان الحجازيتان، وسألت نفسي: لماذا رجال هذه الأرض أكثر رجال الكون حاجة للأنثى؟ ولماذا نساء هذه الأرض أكثر نساء الكون حاجة للذكر؟ ولماذا نحن أكثر شعوب الأرض غزلا في الهواتف وآذاننا تعشق قبل عيوننا؟ ولماذا أرباح شركات الاتصالات لدينا معتمدة على الغزل الهاتفي والجنس الصوتي؟ ولماذا مكاسب السحرة في البحرين وعمان وسوريه والمغرب ومصر تعتمد على غزلنا الشيطاني وغيرة رجالنا ونسائنا الشوهاء؟

انتهيت من عمرتي وما زلتُ أتذكر أوجاع سنة من الغزل، كنت خلالها رجلاً رطباً كغالبية الرجال في الحسا، ندى الشهوة يرشح من أجسادهم، ويدفعهم إلى أن يدللوا المرأة لتمنحهم الحب، ومن دلالهم أنهم يسمون شهوة الأنثى بالمرق، كناية عن خلاصة طبخ الأشواق في داخل جسدها، ومن أجل هذا المرق كان رأسي في سنة الغزل معبأ بنساء كثيرات رطبات غازلتهن، ولم أشعر بالاكتفاء منه، ذلك أنني كنت أصرخ قبل نومي: أريد نساء! أريد نساء من كل البلدان وبكل ألوانهن، ومن مختلف الحضارات، وبكل اختلافاتهن في الطول، والقصر، واللبس، واللهجات..

وسكنت مضطرًا في شارع محبس الجن بمكة المكرمة، لأنني لم أجد سكنا حول الحرم، وكنت سعيدًا بالعمرة التي قضيتها في وقت متأخر من الليل، ومتباهياً بحلق شعر رأسي على درجة الصفر وبالموسى، وليس بماكينة الحلاقة، التي ظننت أنها ستسلبني الشعور بروحانية الحلق وأنا جالس على الكرسي بعد أشواط السعي السبعة، واحتفاظي برأسي المكتظ بصور النساء وأجسادهن وأصواتهن ومرقهن رهن الغيب، ورهن صحة الحلاق العقلية والنفسية، إذ لا حائل بين عنقي العريض وبين مشرطه الحاد المهيأ على الطاولة أمامه إلا الله، وكان بين فخذي ينمو أبو زليغة مثل حشيش يزهر شوكا، وليذكرني بثقل بدني الذي لم تكن النساء راضية عنه، وإن أحسست أنني صرت خفيفا للشعور الذي غزاني بأن ذنوبي قد تساقطت مع تساقط أنفاسي وعرقي وشعري، وكان قربان الباكستاني الجنسية موظف الاستقبال في العمارة جزءًا من روحانية المكان فأسمه أحالني مباشرة إلى الأضحية، ورسم أمامي مشهد يوم الهدي، فسألته وأنا أضع مفتاح سيارتي الجديدة على طاولته، وأفتح محفظتي لأدفع له رسوم الإقامة، ولأبدد خوفي من الاسم الذي قرأته على الجدار المقابل لمدخل العمارة:
- ماذا سُمّي هذا الشارع باسمِ محبس الجن؟
- كانت الجن قديما قبل مجيء الكهرباء تسكن هذا الشارع وكان أهل مكة يحبسونهم فيه، أما الآن فلا وجود لهم، ويمكنك أن تنام وأنت مطمئن.
مشيت حاملا مفتاح غرفتي، وذيلُ إحرامي يخبّ على الرخام في البهو الضيق قاصدا المصعد، ما إن انفتح باب المصعد حتى تخيلت الزنزانات التي يصفد المكيون القدامى فيها الجن ، وارتفع بي المصعد إلى الدور الذي به غرفتي، خرجت من المصعد الذي لا يعدو أن يكون زنزانة عرضها متر وطولها متران إلى باب غرفتي، وخفتُ إلى حدّ أن إحرامي كاد أن ينزلق من على جسدي، حين قرأت على الباب المغلق هذه العبارة: غرفة فاطمة محمد نرجو عدم الإزعاج، وما أخافني أنني كنت على يقين مسبق أن العمارة سكن للعزاب فقط، وأن لا رائحة للإناث فيها أبدا، وبالتالي فإن التي كتبت هذه اللوحة وعلقتها على باب الغرفة، لن تكون إلا جنية من جنيات شارع محبس الجن ،وليس لي القدرة على حبسها، أو حتى فتح باب الغرفة عليها، فما بالك بالخلوة والمبيت معها في غرفة بالدور السابع؟ عدت إلى قربان الذي يجيد العربية، وحكيت له ما حدث، فضحك وقال: فاطمة محمد حاجة من البحرين، وليست جنية، ونحن في موسم الحج نحول العمارة إلى سكن للعائلات.

مع الصعود والنزول والمشي في البهو الضيق استيقظ أبو زليغة بين فخذي، ولا بد أن أغذيه لينام، فتذكرت غذاءه الدسم، المرهم الذي اشتريته من صيدلية على الطريق، ونسيته في سيارتي الجديدة المتوقفة عند مدخل العمارة، فذهبت لإحضاره منها، وما أن تجاوزت عتبة المدخل، والتفت إلى سيارتي، حتى دبت الرعدة في ساقي ، ذلك أنني رأيت سيارتي معلقة في الفراغ، ومعتمدة على الطابوق المصفوف تحتها وبدون إطاراتها الأربعة ، سرت إليها وأنا أنظر إلى الأرض الجبلية، ولم أقف أثرا لأي قدم، ترسخت في داخلي وأنا عائد إلى قربان والمرهم في يدي حقيقة أن الجن قد قامت بسرقة إطاراتي، ليلهو بها أطفالها بدحرجتها في الشارع الآخذ شكل المنحدر، سردتُ رعدتي وحقيقتي على قربان الذي ابتسم هذه المرة وقال: لا تبلغ الشرطة، اذهب إلى سوق الحرام بجدة غدا صباحا وستجد الإطارات هناك معروضة للبيع واشترهم ممن سرقهم أفضل لك!

في غرفتي وأنا فارج ساقي أنوّم أبا زليغة أخذتُ أشك في أن قربان جني، فأسمه يوحي بالدم، والجن تحب الدماء، وأن فاطمة محمد الذي اختفى اسمها من على باب الغرفة، وما زالت عباءتها معلقة فوق الشمعدان أمامي جنية أيضا، وأن سوق الحرام هو الذي سيثبت ظنوني، أو ينفيها، فأنا أول مرة أسمع عنه، فإن كان له وجود فعلي في جدة ،ووجدت إطاراتي فيه فأنا واهم، وإن لم يكن له وجود فأنا متيقن، إذ إن سرقة إطارات بهذه السرعة ليس فعلا بشريا، ومحال ترك قربان مكانه في الاستقبال في نوبة ليلية، وصعوده إلى الدور السابع، ونزع اللوحة من على باب غرفتي، ونزوله في زمن وجيز جدا، وإن لم يكن مثلي مصابا بأبي زليغة ، ومحال أيضا أن تنسى حاجّة بحرينية رمز سترها التاريخي عباءتها السوداء التي تعلقها فوق رأسها حتى وهي داخل منزلها.

نمتُ من تعب الطواف والسعي، وحلمت بقربان، وبفاطمة محمد، وأطفال الجن، وعند السابعة صباحًا قصدت موقف سيارات الأجرة المتجهة إلى جدة، وسائق التاكسي الأول في الطابور الطويل للسيارات ينادي: راكب واحد وساعة واحدة وتكونون في جدة بلد الرخاء والشدة. أكملتُ نصاب حمولة السيارة فصرتُ الراكب رقم ستة، ولم تمضِ ساعة واحدة إلا ونحن على مشارف جدة، وصار السائق يسأل كل راكب عن وجهته، فتوالت الوجهات، حي الأمير فواز، الكندره، سوق قابل، الكورنيش، وحين جاء دوري أجبت بخجل وبخوف من انفجار ضحكة جماعية: سوق الحرام، فرد السائق ببرود: سأجعلك الأخير في النزول، لأن هوائي سيارتي سرق البارحة وسأنزل معك لأشتريه، ولم يبد باقي الركاب أي استغراب فزادت ظنوني وأخذت أشك في أن السائق جني، وأنه ينقل مسافرين من الجن من مكة إلى جدة ، فرحت أنظر إلى عيني الراكب الذي بجانبي وإلى رجليه فلم أر عينيه في محجريهما مزروعتان رأسيا، ولم أبصر رجليه رجلي حمار بحافرين! وكان السائق نازعا شماغه وطاقيته وواضعا عقاله فقط على رأسه، ويطبل براحة يده وأصابعها على المقود، ويصرخ فينا: جده غير والله غير يا أحبابي، فسألته:
- لماذا؟
- يا ولدي، جده المكان الوحيد في الوطن الذي ترى فيه وجوه البنات عند البحر، بنات جده هن اللي خلوها غير.
كنت أريد أن أقول له: إنني رأيت وجه فاطمة محمد، وإنها مثل قضيب الكلب، طويلة نحيلة، ووجهها مثلث ممصوص لا لحم فيه، وثدياها كالجلود الطوال ولكنني خفت من غيرة الجني على الجنية!

وصلنا سوق الحرام فهالني منظر البسطات المفروشة الكثيرة، ولغط الباعة المرتفع، لغط الهوساويات والتراوريات والفلاتيات، وكثرة الرجال التكرونيين في السوق، وبينما كانت عيناي تبحثان عن إطاراتي رأيت قطع غيار سيارات كثيرة معروضة للبيع، ورأيت اسطوانات غاز، وأجهزة تكييف، وأجهزة استقبال بث فضائي، ومواطير سحب ماء، وأجهزة هاتف نقال، ومقويات جنسية أفريقية معبأة في علب مياه، وتفاجأت برؤية قربان يبيع جوازات سفر، وإقامات للعمالة الوافدة، ولكنه أشاح بوجهه عني، وكأنه لم يرني البارحة، واصلت التجوال في السوق حتى وصلت ركن الإطارات وهناك وجدت من شدني من ثوبي قائلا: عندي لك إطارات جديدة مقاس سيارتك تماما تعال اشترها قبل ما يشتريها أحد غيرك، وبالقريب منه وجدت امرأة جالسة تبيع البيض المسلوق والأدوية والمشروبات الغازية المبردة بالثلج الخشن هي نفسها فاطمة محمد التي رأيت وجهها في الحلم، وقد كانت في السوق مرتدية عباءتها التي رأيتها معلقة فوق الشمعدان في غرفتي، اشتريت إطاراتي بسعر معقول ممن سرقهم، واستأجرت تكرونيا صلبا كعمود من حديد ليحملها إلى التاكسي الذي اتفقت مع سائقه على أن يعيدني إلى شارع محبس الجن حال عثوره على هوائيه وشرائه ممن سرقه..

وزّع التكروني إطاراتي الأربعة كالتالي: إطاران فوق رأسه وإطار في يده اليمنى وإطار في يده اليسرى، ومشى بجانبي إلى حيث التاكسي الواقف عند مدخل سوق الحرام، وأنزل الإطارات على الأرض وصفّها في وضع رأسي، نقدته أجرته وغاب مثل بعوضة سوداء في السوق ليمتص مالا من رجل آخر، وصرت انتظر صاحب التاكسي يأتي، طال انتظاري فحدثتني نفسي بأن أطل في جوف التاكسي فلربما وصل صاحبه قبلي ونام بداخله، فأطللت بوجهي في داخله فرأيتهم خمسة أطفال سود عراة يلعبون بالخرز الملون والأحجبة السوداء تتدلى على صدورهم الصغيرة، فنطوا في وجهي وتسربوا من التاكسي كجراء إلى حيث إطاراتي المصفوفة وأخذوا يلهون بدحرجتها في ممرات سوق الحرام، وبقي طفل واحد مكان السائق يطبل براحة يده وأصابعها على المقود ويصرخ في: جده غير والله غير، فكرت في اللحاق بالأطفال و استرداد إطاراتي منهم ولكن أبا زليغة استيقظ من نومه منتظرا وجبة إفطاره المرهم الدسم الذي تيقنت أنه معروض للبيع مع باقي الأدوية في بسطة فاطمة محمد بجانب البيض المسلوق والمشروبات الغازية المبردة!


* المصدر:
سوق الحرام - قصة قصيرة - ناصر الجاسم ~ القاص والروائي السعودي ناصر الجاسم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى