عزة رشاد - نوبتجية تحرير





ألف باء ممارسة الطب هو المحافظة على سلامة المريض، لأن الدواء، كما هو معروف، سلاح ذو حدين، وهو ما نحا بالأطباء عبر التاريخ إلى اتخاذ قياسات عامة للسلامة تحددت بها الممارسات العلاجية والجراحية، كانت بدائية ثم تطورت مع الوقت لتصل إلى مستوي بالغ الدقة من الحرص على هذه السلامة، رغم تفاوت هذه الإجراءات الاحترازية الشديد بين الدول المتقدمة والأخرى المتخلفة، أي أن ثمة حد أدنى لا يمكن القبول بأقل منه، لكن سيعترف لنا أطباء التحرير بأنه تنازلوا عن كل هذا في ثمانية عشرة يوم وليلة اضطروا فيها لاجراء جراحات خارج غرف العمليات المجهزة المعقمة، وداخل ما اعتدنا تسميته.. قارعة الطريق.. هناك.. تحولت عتبة كنتاكي بالتحرير إلى عيادة طبية، حيث رصت وصنفت الأدوية والمستلزمات الطبية ووقف الأطباء والمسعفين بأرديتهم البيضاء، تاركين الكرسي الوحيد لجلوس المصاب، وصارت أرضية المسجد، هناك.. بالناصية المجاورة مستشفى ميداني، شهد جراحات كبرى وصغرى تفاوتت من تجبيس العظام وصولاً إلى انتزاع الرصاصات من الأعضاء الغائرة.



كانت الحياة على المحك، لم يكن هناك خيار، لم يكن ثمة وقت للتردد أو للتفكير.. الأشلاء تتطاير، الدم يسيل، ويدفع الطبيب لوقفه بأي طريقة كانت. ثمة استفزاز للمخيلة كي تبتدع اليدان ما لم يكن صاحبهما يتخيل أنه سيفعله في حياته أبداً.



_ إنتي دكتورة؟



منذ سنة التكليف، تقريباً، لم أخيط جرحاً، وكنت أبتعد عن فرع "طب الطوارئ" أميالاً إذا اقترب مني خطوة، وربما لهذا السبب اخترت التخصص في طب الأطفال. لحسن الحظ ما وجدت نفسي في مواجهته كان جرحاً سطحياً بالجبين، ومع ذلك لم أجد ما يسعفني سوى بقايا النظريات الطبية وأيضاً.. دروس حياكة الثياب التي لقنتني إياها جدتي في الصباحات البعيدة، تواتر ذلك على ذهني بشكل مشتت، وسط قذف الحجارة فوق رءوسنا، هذا الذي نجونا منه بما يشبه الأعجوبة بينما فقد العشرات عيونهم وأصيب المئات بجراح خطيرة في رءوسهم بسببه.



ركزت كل حواسي وجهدي على مهمتي الصغيرة، مصرة أن تكون الخياطة منضبطة وأنيقة، لأن الحجر اختار وجه الشاب، وحتى ونحن على مبعدة خطوة من الموت كنت أفكر بألا يترك الخيط أثراً مشوهاً لشاب سيصبح عريساً بعد سنوات قليلة.. إن عشنا.. وكان لنا عمر.



في العيادة التقيت ب "كريم" شاب في حوالي الثلاثين، كان نصابا بجرح بسيط في ساقه، واكتشفت بعد حوار قصير أنه طبيب أطفال بالتأمين الصحي بالشرقية. كان نوبتجي ليلة الخميس وغادر المستشفى صباح الجمعة متوجهاً إلى التحرير، ولم يعد بعد ذلك،. كريم لا يعبأ بانقطاعه عن العمل، وما يمكن أن يناله بهذا الشأن. ترك زوجته وهي في نهاية الشهر التاسع من الحمل وعلم من مكالمة لها بالموبايل أنها وضعت طفلاً. لم يره حتى هذه اللحظة، ولن يراه إلا إذا نجحت الثورة. يضحك كريم وهو يؤكد لي أن إحساسه بالأبوة الذي بدأ مع حمل الزوجة هو الذي أتى به إلى الميدان. يريد كريم أن يكون أباً حقيقياً لابنه، ويرى أن هذا لن يتحقق إلا عندما يصبح هو مواطناً حراً في بلدٍ حر. لم ألتقي كريم بعد هذه المرة، لكني آمل أن يكون قد عاد سالماً لزوجته وابنه.



بدت متجهمة ومع أول عبارة تفسر لي بها حالتها أحسست أنها على وشك البكاء..



في المرة الأولى التي رأيت فيها "ماجي" كانت جسورة ومرحة. أخبروني أنها بدت في البداية بنت دلوعة أو غلبانة تحتمي بزميلها، لكن زخم المعركة أشعل حماستها.. جمعت الحجارة من على الأرض وأعادت قذفها على المهاجمين، وصارت أكثر براعة في ذلك من الشبان، تفتخر، مبتسمة، بشعرها المهوش ووجهها المترب، برميتها البعيدة المميزة، لذا أدهشني، في هذه المرة، تجهمها..



تماسكت، ابنة العشرين عاماً، قليلاً وهي تحكي لي عن السيارة التي ألقوا بحمولتها في النيل..



كنا بحاجة إلى دعم دوائي.. المضادات الحيوية نفدت، المطهرات على وشك..، البلاستر، الشاش، القطن..إلخ، وكان بعض الزملاء قد أدركوا هذا قبلنا واتصلوا يطلبون العون. عند الكورنيش أوقف البلطجية السيارة التي تحمل كراتين المستلزمات الطبية وحملوها وألقوا بها في النيل.



ثمة أوقات عصيبة، يخفف من حدتها مزاح الشباب من ذوي الإصابات الخفيفة:



_ كده السمك محظوظ... هيلاقي علاج مجاني. مصلحة برضو. ما احنا اللي هناكله..



إن عشنا.. وكان لنا عمر.



ضحكت، وأنا أتأمل الضمادة التي تغطي عين "هيثم" بعد إصابته برصاصة مطاطية، إصابة لم تثنِ خطواته عن الميدان. ضحكي لم يكن من مزاحه بحد ذاته بل مما يعبر عنه هذا المزاح من صلابة وقوة معنوية. ضحكي، مع ذلك، لم ينقذني من مرارة التفكير بأؤلئك المجرمين الذين حرموا، بدمٍ بارد، المصابين من تلقي العلاج بل أيضاً من وصول سيارات الإسعاف.. وهذا، كما رأى الجميع، أبسط ما ارتكب من جرائم.



بوجوههم الطازجة وقفوا ثلاثتهم أمامي وكأنما باتفاق مسبق قالوا في نفس واحد:



_ عايز أغير



_ حاضر يا حبيبي



قلتها مبتسمة، فثلاثتهم، تقريباً، في عمر أولادي، كما أن فكرة الغيار أعادتني للوراء سنوات طويلة.. أيام كنت أقوم بكي الكافولة القطنية البيضاء كي تكون دافئة على جسد الصغير.



أولادي كبروا الآن ووقفوا في "جمهورية ميدان التحرير الديمقراطية" ليقولوا كلمتهم ودفعوا مبكراً ثمن حريتهم وكرامتهم.. ثلاثتهم كانت إصابتهم بالرأس، أزال الأول خوذته "صحن الألومنيوم" ليكشف عن جرحه، الثاني كانت خوذته رغيفين أسمرين يحميان رأسه، الثالث غطى رأسه بزجاجتين بلاستيكيتين وثبتهما برباط. في مصر وحدها رأينا، بل رأى العالم، هذا الإبداع الثوري الفريد الناضج.



في زحام جمعة الصمود استوقفتني ماجي لتعرفني على امرأة بجوارها:



_ ماما



وكنت قد تعرفت بها قبل عدة أيام عندما كنت جائعة، ويبدو أن نظرتي للسندوتش بيدها دلتها على إحساسي فسارعت باقتسام السندوتش بيننا... تشاركنا اللقمة والود والقلق والمعاناة نفسها. كان هذا في أيام الحصار والتجويع، قبل أن نفرض سلطتنا على جمهوريتنا، وقبل أن تصلنا السلال ممتلئة بقرص العجوة وفطائر الجبن كنوعٍ من المشاركة قدمته الأمهات المصريات، البارعات في الخبيز على وجه الخصوص، دعماً لثوار التحرير الذين كانت بينهم أمهات كأم ماجي التي جاءت بصحبة بناتها الثلاث على أساس: يا نعيش سوا.. يا نموت سوا.



في مصر وحدها رأينا أصغر ثائر في التاريخ يهتف:



قوم يا مصري قلها قوية مصر عايزة ديمقراطية



وقد حمله أبوه فوق كتفيه، لم يعقه الخوف الغريزي لأبٍ على ابنه، فقط لأن ثوار مصر رهنوا حيواتهم وحيوات أبنائهم على نيلهم للحرية والكرامة.



في مصر يتحول ميدان الثورة إلى قاعة أفراح.. تمسك العروس بعريسها في يد وبعلم مصر في اليد الأخرى "كأنه باقة الورد" وتزف على صوت شادية الرنان "ياحبيبتي يا مصر"، وتتقبل التهاني من شعب التحرير.



الأمسيات في ميدان التحرير كانت حفلات سمر "لا تنسى".. فدائيو الصباح ينخرطون، رغم إصابات أغلبهم، في الغناء والرقص، في حلقات صغيرة. في حلقات أخرى تفترش رسوم الكاريكاتير المضحكة الأرض.. معرض له زواره ومريديه، ويظهر المونولوجيست الشاب محمولاً على الأكتاف يردد:



_ احنا شباب الانترنت احنا شباب الواد والبنت



الكل واحد، وكل واحد يتفنن في الترفيه عن الآخرين، المصابين والمتعبين من مواجهة أمن النظام وأسلحته وبلطجيته كما من توسد الأرض لخطف بضع ساعات أو دقائق من النوم. استمر هذا لمدة ثمانية عشرة يوماً متصلة، لم تتوقف خلالها أصداء الكلمة الفاصلة التي غيرت تاريخ مصر:



_ إرحل



كلمة واحدة قالها أطفال وشباب وكهول وبنات محمولات على الأكتاف، وعجائز يشعرون باستحقاقهم للحسد لكون أعمارهم امتدت حتى عاشوا هذه اللحظة!



أصوات بحت وحناجر التهبت، ووجوه اكفهرت، مصاعب سيفتقدها كل من عاشها، تماماً كما سيفتقد جمهورية ميدان التحرير الذي شهدت أرضيته وهواؤه، مداخله ومخارجه، مولد الديمقراطية المتحررة من الطبقية، من الأنانية والاستغلال، من العنصرية، من التمييز بسبب الدين أو الجنس، من التشبث بالرأي وزعم امتلاك الحقيقة الكاملة، الديمقراطية التي لن نتنازل عن تكريسها وتوسيعها في كل الاتجاهات لتشمل الوطن كله.


*كاتبة من مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى