تحسين كرمياني - مزرعة الرؤوس.. قصة قصيرة

ملحوظة قد لا تكون مهمة:
تم استبدال عنوان هذه القصة من(الحفرة رقم خمسمائة)إلى(مزرعة الرؤوس) توافقاً لما يجري على ألسنة ناس بلدتي..(جلبلاء)..!!
***
ما أن دخل القصّاب(عبد الله)إلى دكانه،شعر بوقع خطوات منتظمة تتبعه،وقف وتعوذ من الشيطان وهو يستذكر إصرار جاره(جار الله)،يوم أنبأه بحكاية أشخاص غرباء يأتون كل فجر،يرتدون ملابس مرتبة،واحد منهم فقط يتقدم منه ويلقي سؤاله قبل أن يتواروا،يأتون قبيل أذان الصبح ويختفون بلمح البصر،يسألون عنه دون أن يضيفوا كلاماً آخر،بادئ ذي بدء لم يعر كلام رفيقه القصّاب أذناً صاغية،فهو وحيد مقطوع من شجرة انتهت أوراقها التناسلية برحيل والديه قبل سنوات طويلة،ليس له أقارب في البلاد كلها،محا من ذاكرته كلام جاره،قبل أن يتفا جئ بنفس الكلام يكرره جاره الآخر القصّاب(سعد الله)،شغله الأمر طويلاً،قبل أن يتخذ قراراً مؤقتاً ألزم نفسه بتأخير فتح دكانه حتى طلوع الشمس،شغلته قضية الغرباء لعدة ليالي،توصل إلى قناعة تامة،أنّ صاحبيه حاكا خيوط لعبة ماكرة حوله،كي يستحوذا على أرزاق الفجر،كون الناس في البلدة تعودت أن تشتري اللحم صباحاً بعد خروج المصلين من الجامع الوحيد الذي يحاذي المقبرة القديمة،لعن رفيقيه علناً في مشادة كلامية حضرها جمع غفير من المصلين ولولا تدخل الملا(أبو حارث)لتحولت المشادة إلى ضربات بالسكاكين والسواطير التي ارتفعت تحت سورات الغضب وانتظرت لحظات فقدان الوعي عند أحدهم،سوّى الملاّ(أبو حارث)القضية فيما بينهم وعادت المياه لمجاريها كما يذهب القول،لكن(عبد الله)القصّاب ظلّ يقرأ في عيون صاحبيه أشياء غامضة لم يتوصل إلى تفسيرها،ظلّ يكظم غيضه ويطحن اعتمالات الظنون في نفسه،أتخذ قراره وعاد لسابق طبيعته،التبكير في فتح دكانه كما كان يفعل قبل أذان الفجر بوقت طويل..!!
***
في تلك اللحظة توقف يستطلع الأمر،شعر بخوف يسري في عروقه،جمّده وهو يعطي ظهره للظلام المتكاثف وراءه،مرت الدقائق ثقيلة وهو يحاول أن يستطلع الأمر بذهن تشوش مع دخوله الدكان لحظة تناهت لسمعه وقع أقدام تمشي بإيقاع منتظم وراءه،لم تكن الإيقاعات المنتظمة محض وهم،سمعها جيداً تقصده وهو واقف داخل دكانه،مسك قبضة الساطور بقوّة وقرر أن يواجه القضية التي شغلته منذ أشهر بصلابة وحكمة إن تطلب الأمر،ما أن استدار وجد أربعة عسكريين غرباء الشكل والملبس،ببدلات مرتبة ومعهم شخص مقيد اليدين،تقدم أحدهم من(عبد الله)المأخوذ برعب المشهد..قال بصوت نادر:
ـ أنت(عبد الله)القصّاب.
هز رأسه وظلّ ناحتاً عينيه في رجل مزجج العيون تبرق بأشعة حمراء..
أردف الرجل العسكري:
ـ ليس لدينا وقت،قم بذبح هذا الشخص.
خال القضية مزحة،أطلق ضحكته العالية بعدما تحرر من الخوف كلّه،بينما العيون الحمر ظلّت تطلق شرر القرار الحاسم من غير أن تتحرك الألسن أو يمتنع الشخص الضحية.. قال:
ـ كيف أذبح هذا..أنه بشر وليس بكبش أو بقرة.
ـ هيّا أذبحه،لا وقت لدينا.(صاح العسكري الذي كان يقف أمامه).
ـ أنتم تمثلون أليس كذلك.
تقدم العسكري ورفع ساطور آخر من فوق خشبة تهشيم العظام ورفعه فوق رأس(عبد الله)،تحجرت عيناه وهو يتوسل بحركات مفعمة بالهلوسات..
صاح العسكري ثانية:
ـ ستذبحه أليس كذلك.
لم يفلح في التخلص منهم،لم يمر مصلّي واحد كي يستصرخه لنجدته،لقد بكر النهوض أكثر مما كان يفعل سابقاً،كي يهيأ الذبائح للزبائن،فاليوم(عرفات)،وغداً(عيد الأضحى المبارك)،ستخرج الناس لتتسوق باكراً،لم يجد متسعاً من الوقت كي يشعر أن الذي يحدث أمامه مجرد مسرحية هزلية دبرها ناس لا يكترثون،مستغلين حكاية الغرباء التي مضت محطة تندر بين الناس،كي يجعلوا منه رجل هزأة آخر يضاف إلى قائمة ضحايا الزمن في بلدة بائسة ناسها ما تزال تلبس ثوب القرون العتيقة،خضع أخيراً تحت تأثير قوّة خرقت أرادته ودحرجته ضحية يائسة،مطيعة،تقدم من الشخص الصامت،كان يرمقه بعينين لم يجد فيهما توسل أو طلب رحمة،تمدد أمامه برغبة ويقين على عتبة باب دكانه،وقف العسكريون الأربعة حول الضحية،اثنان في كل جانب،تناول(عبد الله)سكينه،قبل أن يهوي على الرقبة الناصعة لفصلها،كما يفصل رؤوس الأبقار والكباش،مسك أحدهم معصمه.. قال:
ـ حد شفرة سكينتك.
سحب المبرد المتهدل بخيط مربوط بحزامه الجلدي العريض،حد سكينته وحين تأكد من الشفرة بملامسة من إبهامه برك وقطع الرأس كما يقطع رؤوس الأبقار والأغنام،في تلك اللحظة عادت روحه،شعر بأنه يهوي إلى ظلمات سحيقة،وقف يرتجف أمام جسد لم يرفس كما ترفس الأبقار المنحورة،وظلّ الرأس المقطوع فاتحاً عينيه وثغره يطلق بسمة خالدة تنم عن رضا وعرفان وشكر،بينما العسكريون الأربعة ظلّوا واقفين يتمتمون كلمات مبهمة،استدار(عبد الله)وتوجه نحو صنبور الماء داخل دكانه،راح يزيح الدم المتجلد من يديه والقطرات التي تراشقت على صدريته الخام،ولحظ استدار كي يتأكد من صدق القضية،لم يعد هناك أحد،بادئ ذي بدء خال أنهم حملوا الضحية ورحلوا،خرج ووقف في مكان الذبح،لم يجد هناك أثراً لدم،هزّ رأسه فسقطت عمامته،برك ليرفعها وهو يتعوذ من الشيطان،تمنى أنه سقط ضحية كابوس ثقيل،نجم جرّاء تلك المشادة(الفجرية)وما ترتبت من حكايات على لسان جاريه(سعد الله ـ وـ جار الله) بخصوص الغرباء العسكريين الأربعة المزعومين..!!
***
شرخ صمت الظلام مؤذن الجامع،بصوت ناعم ظلّ يتموج بين طيات الظلام إلى مسافات قصية،شعر(عبد الله)بتنمل غريب يسري في بدنه المترهل،دافع شعوري غريب يحركه مع الصوت الودود،شعر أنه بحاجة إلى صلاة جماعية،كي يتخلص من وزر الإثم الذي أرتكبه في فجر يوم غير عادي،راغباً أن يطرد الظنون والهواجس من بدنه،كي يطمأن قلبه،معتبراً أن الحكاية لم تكن سوى محض كابوس باغته في لحظة لا شعور،لم يحصل فيما سبق أنه أدّى فريضة واحدة جماعية في مسجد البلدة،تيمناً وفق مقولة شائعة:
ـ (القصّابون سيطردهم الله من الفردوس،كونهم يذبحون الحمير ويخلطون لحمها مع لحوم الأبقار)..!!
تلك المقولة شاعت يوم تم ألقاء القبض على ثلاثة قصّابين في البلدة،متلبسون بذبح الحمير،أكتشف ذلك رجل من البلدة سبق أن ذاق(كباب)لحم الحمير في مطعم شهير في العاصمة،عرف ذلك حين أشتهى أن يتناول ذلك(الكباب)الذي يتباهى بمذاقه كلما جلس بين تجمع،ذهب ليراجع دائرة التقاعد بسبب تأخير راتبه اليسير،حن لمذاق(الكباب)الذي أشتهر فجأة واندفعت الناس يتزاحمون على ذلك المطعم بشكل جنوني،وجد يافطة ممهورة بختم لجنة(الرقابة الصحية)،تقر بغلق المطعم كون صاحبه كان يذبح الحمير السائب في الأزقة،ذلك الرجل وجد اللحم الذي يشتريه من قصّابين ثلاثة في البلدة،يشتركون في محل كبير له ذات المذاق الذي ظلّ محفوراً في ذائقته الغريزية،قرر أن يتربص بالقصّابين حتى أكتشف أنهم ينحرون الحمير ليلاً،أشتكى لدى الشرطة،تم نصب كمين ليلي وضبطهم متلبسون بالجريمة..!!
***
توضأ(عبد الله)ومشا وحيداً،خاشعاً يستغفر ويبسمل في محاولة طرد الظنون التي تلبسته في صباح(عرفات)،دخل المسجد على استحياء تام،بدأت العيون تنهال عليه باستغراب،سمع صوت أحدهم وهو يحاور صاحبه:
ـ لقد هداه الله بعد تقريعات الملا(أبو حارث).
أجابه الآخر:
ـ لا أعتقد ذلك بدأ يخاف من حكاية الغرباء العسكريين.
لم يعر كلامهم اهتماما،جلس في ركن بعد أن تناول مصحفاً وراح يترنم بصوت مكبوت،تناهى إلى سمعه صوت آخر:
ـ الملعون يتظاهر أنه يعرف القراءة.
أدّى صلاة الفجر مع الجماعة وعاد إلى دكانه،وجد(جار الله)جالساً،تقدم منه وعانقه،تبادلا العناق الحار..قال(عبد الله):
ـ لا تؤاخذني يا أخي لقد ركب الشيطان رأسي.
ـ لا داعي يا أخي،الدنيا هذه الأيام كلها مشاكل،ونحن جزء من هذه الدنيا المغبرة.
ـ قل لي يا أخي،هل حقاً هناك غرباء يسألون عني.
ـ لم لا نترك هذه القضية،كادت أن توقع بيننا.
ـ ولكن أريد أن أتأكد من ذلك.
ـ يا أخي كانوا أربعة عسكريين غرباء أتوا لمرّات عند الفجر،واحد منهم فقط كان يسأل عنك.
ـ ألم يأتوا بعد.
ـ لم يعد يأتوا منذ يومين.
هز رأسه ودخل دكانه وراح يشغل نفسه بتقطيع اللحم وعزل الشحم ولم تفارق عيناه تلك البقعة التي نام عليها الضحية وقام بفصل رأسها قبل ساعة واحدة..!!
***
ظلّ(عبد الله)واجماً،يريد أن يستوعب الذي جرى،هل حقاً قام بذبح إنسان،حاول أن يقنع نفسه بأن الذي حدث مجرد حلم يقظة باغته في لحظة فقدان رشد جراء ما يحاك من حكايات صاغها لساني(سعد الله ـ و ـ جار الله)،لقد نال التعب منه،بعدما باع ما ذبح من أبقار وكباش وعاد إلى البيت لينزوي في وحدانيته،أراد أن ينام باكراً وينهض باكراً لأداء أوّل صلاة عيد في حياته،كي يبخر ما أختلط بدمه من خمور وشراب،فهو بلا زوجة تشاركه الفراش وتخفف عنه ألم الليل،أربعة نساء هربن منه،يعرف نفسه حيوان بهيئة بشر،لا تحتمله النساء،واحدة هربت من فحيحه الليلي وهو يرقد على جسدها الضئيل، انفصلت منه بعد عام وشهرين من الزواج،دون أن تنجب منه،أمّا زوجته الثانية كانت امرأة مطلّقة هربت من عنفوانه وسكره المتواصل بعد ثلاثة أشهر،قيل أنها عشقت عسكري شاب دخل سوق البلدة ذات ظهيرة،رأته وصعدت معه إلى مركبته الخصوصية ومن يومها لم تعد،أمّا زوجته الثالثة بقت سنتين تحته قبل أن يداهمها مرض تناسلي فتك بها،ظل لسنتين بلا زوجة قبل أن يجد بائعة لبن،امرأة(معيدية)سمعت بفحولته وقررت أن تخوض اللعبة معه،وجدت نفسها راقدة طوال الليل،رجل ضخم الجثة،يمتلك فحولة نادرة،يسكر ويتناولها في أول الليل وحتى بيان الخيط الأبيض،يتركها ويذهب إلى دكانه،سئمت رائحة الخمر واللحوم والشحوم العالقة بجسده،هربت منه،بقى من غير أن ترضى به واحدة رغم تواجد الكثير من المطلقات وأرامل الشهداء في البلدة الصغيرة..!!
***
عند المساء يعود(عبد الله)لا يبارح منزله،ينام باكراً كي ينهض باكراً،لكنه وجد نفسه يسهر مذ جاءه العسكريون الأربعة ونحر لهم ذبيحتهم(العرفاتية)،لقد مر العيد وهو يلازم بيته،ومع اليوم الرابع،وفي الفجر تحديداً،سمع طرقات على الباب،كان يتمدد على سريره الحديدي،وسط حوش البيت،سمع الطرقات جيداً قبل أن ينهض ويتقدم من الباب،نادى بصوت خافت:
ـ من الطارق.
ـ أنا..
صوت امرأة غريبة،سمع جرس صوتها جيداً،غزته رجفة مباغتة وهو يقف واجماً وراء الباب..نادته المرأة:
ـ أفتح يا(عبد الله).
ـ من أنت يا امرأة.
ـ أنا زوجة الرجل الذي ذبحته.
ـ مااااااذااااااااا..!!
ـ أفتح قبل أن أقتحم البيت عليك.
ـ حسناً..
خائفاً مرتعش الأوصال فتح الباب،دخلت امرأة مثل الثلج،وراءها العسكريون الأربعة، وقف(عبد الله)منحوتاً يتابعهم وهم يلجون تباعاً،التفتت المرأة الثلجية ونادته:
ـ تعال يا(عبد الله).
طائعاً تحت تأثير تلك القوّة التي باغتته وجعلته يذبح بدم بارد الضحية البشرية،وصل إلى السرير،وقف بضخامته لا يعرف ماذا يقول..
قال العسكري الذي أمره بالذبح:
ـ يا(عبد الله)أنت بلا زوجة جئنا لنشهد على زواجك من هذه الأميرة.
ـ أنا..لا..لا..أنكم تمثلون معي.
قالت المرأة:
ـ قل يا(عبد الله)لم تهابك النساء.
ـ لا..لا..ليس هذا صحيحاً،أنا أحب أن أكون وحيداً.
قال العسكري:
ـ يا(عبد الله)قل الحقيقة قبل أن نلجأ إلى استخدام قوّتنا معك.
ـ حسناً أنهن لا يحتملنني.
قالت المرأة:
ـ أنا سأحتملك،زوجتك نفسي يا(عبد الله)وهؤلاء شهداء على زواجنا.
ليس ثمة بد،كان(عبد الله)يخضع لتلك القوّة السرية،تباغته وتجعله قشة طائعة للريح،في تلك اللحظة أنسحب العسكريون الأربعة مثلما جاءوا،بقى واقفاً لم يتحرك قبل أن تلقي المرأة الثلجية أسمالها وتنير البيت بجسدها،أقنعته بتوسلاتها السحرية ورضخ لرغبتها وطرح أسماله وعاشا بقية الليل فحيحاً وآهات،تعب من النشاط الجسدي وغط في نوم عميق بعدما تعانقا معاً،كوّر جسدها الثلجي بين أحضانه وقفل عليها بساعديه،قبل الظهر قام(عبد الله)من السرير،وجد نفسه عارياً،حاول أن يعرف ما الذي جرى له،قام وفتش غرف البيت،لم تكن هناك امرأة كما حدث له ما حدث،لكنه متأكد أنه عاش ليلة لم يعشها من قبل،ها هي آثارها واضحة على جسده،لقد ضغط بوحشيته عليها وحاولت أن تتخلص منه،لقد نشبت أظفارها وأدمت جسده،أزاح خطوط الدماء اليابسة من على صدره،وأغتسل بالماء البارد وخرج إلى السوق ليتبادل تحية العيد مع الناس،ويلتحق بصلاة الظهر بعدما ضاعت منه صلاة الفجر..!!
***
عاد(عبد الله)إلى دكانه،باغته العسكريون الأربعة،وسحلوا معهم ضحية ثانية،رجف جسده،همّ أن يبطش بهم بعدما شدد على قبضة الساطور،لكن العسكري الذي يعرفه تقدم منه محذراً:
ـ إيّاك أن تفكر بذلك،سنبطش بك.
خضع لتلك القوة المباغتة وفصل رأس الجسد الممدد،قام وهو يشعر بالزهو كما لو أنه تخلص من رأس بقرة عنيدة..باغته العسكري:
ـ الأميرة ستأتيك هذه الليلة.
ـ الأميرة.
ـ لقد زوجناك أميرة منّا تثميناً لخدماتك العظيمة لنا.
ـ من أنتم.
ـ ليس هذا من شأنك،أنت تطيع ولك ما تريد.
سحب نفساً عميقاً ولحظة ذهب ليغتسل أنسحب العسكريون الأربعة وبصحبتهم الجسد المنحور،غسل(عبد الله)يديه ووقف أمام الدكان،هز رأسه وهو يقول:
ـ كابوس كبير متى أتخلص منه.
في تلك اللحظة أذّن المؤذن،توضأ(عبد الله)وتوجه إلى الجامع..!!
***
مرت الأيام،مرت الأشهر،(عبد الله)كل صباح يذبح ضحية،يغتسل ويتوضأ ويذهب إلى الجامع،لكن لا أحد يشتري منه اللحم،وظلّ اللحم يفسد ويقوم سراً بدفنه خلف مقبرة البلدة،عرف العسكريون الأمر،جاءوا ذات فجر ومعهم ضحية وكيس نقود، ذبح ضحيتهم وتناول كيس النقود..قال له العسكري المخوّل بالنطق:
ـ عرفنا بقضيتك،قررنا أن نكافئك على خدماتك لنا.
صار(عبد الله)يذبح ويغتني،لا أحد يشتري منه اللحم،وظلّ يدفن كل يوم ذبيحة تفسد بعد يوم من نحرها وراء مقبرة البلدة،دغدغته فكرة ذات يوم،بدت الفكرة معقولة،قرر أن لا يذبح ذبائح،طالما اللحم لا تشتريه الناس ويذهب بعدما يفسد إلى التراب،تفاجأ بقول العسكري:
ـ إيّاك أن تخدعنا،عليك أن تذبح وتدفن،نحن نتكفل أثمان ذبائحك.
***
كل ليلة تأتي الأميرة الثلجية،بهيئة مغايرة،بشكل أبهى وأجمل،تنير ليله بأنس فوق العادة..تقول له كلما تدخل عليه البيت:
ـ أنا زوجة الرجل الذي ذبحته هذا الصباح.
قال لها ذات ليلة:
ـ من أنتم.
ـ ليس بوسعك أن تعرف من نحن.
ـ ألستِ زوجتي.
ـ في الليل فقط.
ـ ما هو أسمك.
ـ لا يتوجب عليك أن تعرف أكثر مما هو الحدود المسموحة بيننا،حدود الجسد.
ـ ماذا تعملون بالضحايا.
ـ لا تسأل عن أشياء خارج حدود وعيك المحدود.
***
قال له(جار الله)ذات يوم:
ـ يا(عبد الله)،وجدنا لك امرأة ترضى بك.
ـ وهل بقى في العمر ما يكفي أن أعطيه لامرأة خامسة.
ـ هي بحجمك ولها سمعة طيبة.
ـ حسناً علينا أن نشترط عليها شروطي.
ـ ليس من المعقول أن يشترط الرجل على امرأة رغبت أن تهب نفسها له.
ـ لا أريدها أن تفر كما فررن من قبلها النساء.
ـ تلك قضية داخلية عليك أن تعاملها بما يناسبها ويستبقيها.
في تلك الليلة جاءته الأميرة الثلجية غاضبة،رفضت أن تشاركه الفراش،توسل(عبد الله).. قالت له:
ـ ويحك أتستبدلني بامرأة فانية.
ـ ومن قال هذا.
ـ أنا أعيش معك،أنا أسكن كيانك.
ـ حسناً سأبعد الفكرة من بالي.
ـ أريد منك موثقاً.
ـ أي شيء تطلبيه سألبيه حتى لو طلبت مني ذبح العالم كله.
ـ لا..لا..لا..دعك من العالم،العالم مذبوح منذ فترة طويلة،فقط أريد قطع إبهامك اليمين كدليل على أخلاصك لي.
تناول سكيناً وبتر إبهامه،لفّه بقطعة قماش وناوله لها،دنت منه وتعرت ونامت بين أحضانه حتى مطلع الفجر..!!
***
صار(عبد الله)مقطوع الإبهام،سأله(سعد الله)عن ذلك..قال له:
ـ كنت في لحظة فقدان رشد وبترت أبهامي.
ـ كنت في الغروب سليماً لحظة قفلنا الدكاكين ومشينا معاً.
ـ آه..أنني بترته سهواً في البيت.
ظلّ(سعد الله)يهز رأسه وهو يستفهم نفسه،وكان(عبد الله)ينهمك بتقطيع الذبيحة التي هيأها للناس،قبل أن يدفنها في اليوم التالي..!!
***
لقد مرّت سنة ونصف السنة،قطع(عبد الله)مئات الرؤوس البشرية،وظلّت الأميرات الثلجيات تشاركنه فراش الليل،يأتين ويذهبن،يشعر(عبد الله)أنه يعاشرهن،لديه أدلة سريرية وجسدية على ذلك،راح النحول يلتهمه،فقد الكثير من وزنه،شعر بتعب مفاجئ،لم يرغب أن يبارح البيت،قرر أن يراجع المركز الصحّي للبلدة..قال له الطبيب:
ـ تحتاج لراحة في البيت،تناول الطعام جيداً.
في فجر أوّل يوم،دخل عليه العسكريون الأربعة،تقدم الناطق المخول من سريره..قال له:
ـ لا يجب أن تتخلى عن المهمة التي بيننا.
ـ أنا عليل أحتاج إلى راحة.
ـ سنأتي لك بمن تعالجك.
ذهبوا وفي المساء عادوا،كانت معهم عجوز،مشوهة،اقتربت من سريره،عاينته بأناملها الخشنة..قالت له:
ـ علتك بسيطة،عليك أن تعاشرني لليلتين متتاليتين.
ـ مااااذااااا..أأأأأأأنتِ..!!
وجد العسكريين الأربعة يهزون رؤوسهم،صادقين من خلال نظراتهم النارية،على ما تقول العجوز،تقدم منه الناطق المخول..قال:
ـ لبّي رغبتها كي تنهض من علتك كالبغل.
لبّى رغبتها وظلّ طريح الفراش،عارياً معها،قبل أن يشعر بقوة حصانية تتحصن في جسده،عاد لعمله وراح كل فجر يمارس نشاطه،يدفن اللحم الفاسد ويعود ليتهيأ لذبح ضحية جديدة قبل أن يذهب لصلاة الجماعة..!!
***
فجأة صار(عبد الله)يهذي،يقف ويحاور نفسه،وجدته الناس في حالة يرثى لها،الصبيان بدءوا يرشقونه بالحجر،لم يعر بالاً لهم،ظلّ يمشي بين البساتين ليلاً،ويجلس على المقبرة لساعات طويلة،لم يعد يذهب لصلاة الجماعة،لقد أنقطع عنه العسكريون الأربعة،ولم تعد الأميرات الثلجيات يأتين إليه في الليل،ساءت حالته،حاول صديقاه(جار الله ـ و ـ سعد الله)أن يسعفاه من حمّى الهذيان والسهر،أخذاه إلى سيد البلدة،أبقاه ليلة في الديوان مربوطاً إلى النافذة،أعادوه إلى البيت،ظلّ يخرج في الليل،ويذهب إلى دكانه،يجلس في انتظار العسكريين الأربعة،ينقضي الليل ويأتي الفجر وتصعد الشمس إلى كبد السماء،و(عبد الله)وحيداً يجلس ينتظر دون جدوى..!!
***
ذات ليلة صعدت الناس إلى أسطح المنازل وراحت تستطلع حكاية الفوضى الحاصلة خلف المقبرة،أصوات كلاب تنبح وتتقاتل بشراسة حتى الصباح،لا أحد يعرف من أين أتت هذه الكلاب الكثيرة،وفي الصباح قرر بعض الرجال أن يضعوا حداً للكلاب بعدما تسلحوا ببنادقهم القديمة،وجدوا مئات الكلاب جاثمة في معسكرين متضادين،شعروا برهبة وقرروا العودة توخياً للعواقب غير المحمودة،مضت الكلاب تتقاتل ليلاً ونهاراً والناس بدأت تتحصن وتتسلح بما لديها من أسلحة خشية مداهمة الكلاب البلدة،وظلّ(عبد الله)مسكوناً في عالم يجهله الناس..!!
***
ذات ليلة هبت ريح مباغتة،أتت من وراء المقبرة،حملت نتانة لا تحتمل،قاءت أفواه الناس ما أكلت في العشاء،وبدأت أصوات الأفواه وهي تطلق صيحاتها،خرجت سيارة أطلاق الدخان الخاصة بمكافحة البعوض وراحت ترش في أزقة البلدة دخان مبخور بعدما وضعوا معه روائح ومطيبات جو،خدرت الأجساد للرائحة وفي الصباح صار الحديث كله حول الكلاب والمقبرة،تيقن الناس أن الكلاب بدأت تخرج أجداث موتاهم،وتعاهدوا على مكافحة الكلاب بكل ما لديهم من وسائل قاتلة..!!
***
سبقت صيحة امرأة صولة الرجال،لحظة وجدت أبنها يحمل رأساً بشرياً وهو يركض باتجاه البيت،فقدت المرأة الوعي لحظة رأت الرأس فاتحاً عينيه،سكبوا عليها الماء وقربوا من أنفها(رأس بصل)مفلوق،فتحت عينيها..قالت:
ـ أين هو.
ـ من.(أجبنها النساء)
ـ أبني.
ـ ساقته الشرطة.
ـ لم..الشرطة.
ـ أخذوه ليدليهم على مكان الرأس.
***
اكتشفوا مزرعة للرؤوس البشرية،رؤوس كلها بلا أجساد منحورة ومدفونة بطريقة متشابهة،مئات من الرؤوس تم رصها كأكوام فواكه،وتم التوصل إلى مزرعة أخرى جنبها،كلها لحوم حيوانات مسلوخة تم دفنها بعشوائية،انشغلت البلدة بالحدث ليومين متتالين،دون أن يتمكن واحد منهم أن يصل إلى تفسير مقنع للحدث..!!
***
قال الملا(أبو حارث)للناس:
ـ علينا أن ندفن الرؤوس في المقبرة وفق الأصول.
قطع بكلامه دابر كل حديث تناثر من البعض حول مكان دفنها،بعدما شاعت أحاديث حول البلاء المنتظر وراء الحادثة،بعضهم قال:
ـ علينا حرقها..!!
وراحوا يعدون الحطب للحرق،قبل أن يتدخل الملاّ(أبو حارث)وينهي القضية بخطبة قصيرة على الناس المتجمهرين،تم نقل الرؤوس بعربات الدفع في تجمع شعبي كبير،وكانت النساء من فوق أسطح البيوت يطلقن ولولات وصيحات في قيامة غير مسبوقة،وصلوا إلى المقبرة،وقف الحشد البشري بذهول وكانت الألسن تلهج سؤالاً واحداً:
ـ يا ترى رؤوس من هذه..!!
تم حفر خمسمائة حفرة في عشرة أنساق متقابلة،دفنوا أربعمائة وتسعة وتسعين رأس وبقت حفرة واحدة،أراد أحدهم ردمه،نهره الملاّ(أبو حارث):
ـ أتركه ربما هناك رؤوس أخر..!!
وقبل أن يتم عملية الدفن أنتبه(عبد الله)الذي جرفته طوابير الناس الزاحفة أن عيون الرؤوس كلها انفتحت ورشقته بنظرة متوحدة غريبة..!!
***
قرر(عبد الله)أن يفتح دكانه،بعدما شفي من شروده،أشترى بقرة وربطها في البيت،وفي الفجر قاد البقرة إلى الدكان،بينما كان يهيأ سكينه هربت البقرة من أمامه،راح يمشي وراءها،كانت البقرة تمشي تارة وتقف تارة وهي تنظر إلى(عبد الله)وهو يشهر ساطوره بيد وفي يده الثانية سكيناً كبيرة،طلعت الشمس ومازال(عبد الله)يحاول أن يقنع بقرته بالتوقف،تعب وغامت الدنيا في عينيه،لم يحتمل أكثر مما أحتمل،أطلق صرخة داوية وراح يركض وراء البقرة التي دخلت زقاقاً موصد النهاية،فجأة شعر(عبد الله)بأنه مسك بقرته،قرر أن ينحرها فوراً خشية أن تهرب ثانية من بين يديه،تناهت صرخة طويلة مصحوبة بعويل طويل،خرجت الناس من البيوت،ركضوا وانهالوا على(عبد الله)جرجروه وهو يصرخ ويهذي:
ـ دعوني أذبحها..دعوني أذبحها..!!
***
أعترف(عبد الله)بما جرى له،لحظة تم تسليمه إلى الشرطة،وهو متلبس بذبح امرأة خرجت لتجلب الفطور لأطفالها،نجت في اللحظة الأخيرة من شفرة السكين،لكن(عبد الله)لم يعش في السجن سوى ليلة واحدة،وجدوا في الصباح رأسه فقط ،من غير جسده الضخم،ينظر نظرة ظافرة بعينين لا تنغلقان،وبسمة خالدة منحوتة على ثغره،لا أثر لدماء،ليس هناك أثر لسكين،عجزوا أن يصلوا إلى الفاعل وكيفية ذبحه من غير خروج قطرة دم واحدة،وأين هو جسده،تحروا من باب السجن الحديدي وجدوه مغلقاً بالقفل الكبير،تم طي القضية كاملة بعدما عجزت الشرطة بيان ماذا جرى،وضعوا رأسه في عربة دفع،ساقوه إلى المقبرة،ودفنوه مع الرؤوس المقطوعة،في تلك الحفرة رقم خمسمائة والتي أبقاها الملاّ(أبو حارث)مفتوحة،حضر الدفن تجمع جماهيري مستغرب..!!
***
من يومها صارت البلدة تنشغل بقضية الرؤوس المقطوعة وأكوام اللحوم المدفونة بعشوائية وراء مقبرة البلدة،وحكاية الكلاب الكثيرة التي غزت وتجحفلت حول المقبرة، وعلاقة القصّاب(عبد الله)بتلك المرأة التي أراد ذبحها،ومن ذبح(عبد الله)وأين اختفى جسده الضخم،وكيف اهتدى الطفل للرأس البشري المفصول،رغم أنه سرد حكايته لمرات كثيرة:
ـ كنت أركض خلف الكرة التي قذفتها بركلة من قدمي وسقطت وراء المقبرة،حملت الكرة وركضت لحظة رأيت كلاب كثيرة مثل الدود تقف وتنظر إليّ هازة أذنابها،وحين وصلت قرب البيت رأيت في يدي رأس بشري..!!
أمّا حكاية العسكريين الأربعة الغرباء،لقد أقسم البعض أنهم رأوهم يدخلون مركز الشرطة فجر ليلة القبض على(عبد الله)،كانوا يمشون بنسق منتظم،دخلوا إلى مركز الشرطة،لكن لم يقسم أحدهم أنه رآهم يخرجون،رغم أنهم تربصوا طويلاً وأضاعوا فرصة أداء فريضة صلاة الجماعة،قبل أن تباغتهم صرخة الشرطي الحارس ناقلاً فاجعة فصل رأس(عبد الله)..!!
***
ناس تتجمهر حول الطفل الذي وجد الرأس،وناس تبحث عن القصّابين(جار الله ـ و ـ سعد الله)ليستفسروا مراراً وتكراراً عن العسكريين الغرباء الأربعة،وكانا يعيدان الحكاية على مسامع السائلين من غير تعب أو ملل،ولم يجدا غير موجز غامض ظلاّ يكررانه على كل حشد قادم:
ـ كانوا أربعة عسكريين غرباء منتظمين،يأتون كل فجر قبيل الأذان،واحد منهم فقط يسأل عن(عبد الله)القصّاب قبل أن يتواروا بلمح البصر،انقطعوا عن المجيء منذ بدأ(عبد الله)بترك شرب الخمر والذهاب لصلاة الجماعة..!!
***
سؤال واحد ظلّ غائباً عن البال:
ـ لماذا رفض الملاّ(أبو حارث)ردم(الحفرة رقم خمسمائة)يوم زرعوا الرؤوس المقطوعة في مقبرة البلدة..!!

17-18/نيسان/2008


*(القصة الفائزة بالمرتبة الأولى في مسابقة ـ مركز النورـ السويد)..2008دورة الشاعر(عيسى حسن الياسري)..!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى