محاورة رقم 8

احمد بوزفور

ما أخشاه، وقد اعتقل ولد علي ( وهو يتحول الآن إلى بنعلي ) النحاة ثم النحاتين، أن يعتقل بعدهم كل النحالين ( منتجي العسل، والشعراء ضمنهم ) ثم النحّامين ( وهم البخلاء كما يزعم طرفة )، ثم النحّابين ( الباكين )، ثم ينتقل من الحاء إلى الخاء فيعتقل النخّالين ( بائعي النخالة ).... ثم إلى الدال، فيعتقل نُدُل المقاهي والمنددين ( المجازين المعطلين المحتجين )... ثم الراء والزاي والسين والشين وباقي الحروف ...حتى لا يجد مكانا يسع المعتقلين، فيأمر بتسييج الكون وإطفاء الشمس ( بسحب بّريزها كما يتخيل الشاعر محمد عريج )، فيبتلعنا ثقب أسود، في انتظار الانفجار الكوني التالي

***

الشاعر الجميل الأستاذ محمد علي الرباوي يتحول إلى دكتاتور طاغية مستبد بشكل حقيقي عند بعض أصدقائنا المعلقين. ياناس إنها مسرحية. فالزموا مقاعدكم في القاعة وتفرجوا . لا تعتدوا على الممثل الذي يجسد دور الطاغية

***

صديقي العزيزين سي عبد المالك وسي أبا العيال. بيني وبينكما، ولا تخبرا أحدا، أشعرني أبو سلمى بأن ولد علي يفكر في اعتقالي، فأردت الاحتياط، وكتيت التعليق أعلاه كنوع من الرقية ضد الاعتقال، ألم يقل الشاعر القديم:
( فما زالت رُقاك تسل ضغني/ وتُخرج من مكامنها ضِبابي )
فأردتُ بهذه الرقية أن أسل ضغنه عليّ، لعله يصرف نظر الاعتقال عني. فهل أنا في ذا ياصديقيّ ظالمُ؟

***

يعجبني في هذا الإشكال قول أبي علي الفارسي في ( إيضاح الشعر ):.... ( ويجوز أن يكون قوله: ( لأنت البيت ) على جهة التعظيم، فأجرى عليه اسم الجنس لهذا، كما تقول: أنت الرجل، تريد به الكمال... وإذا كان كذلك جاز أن يكون ( أكرم أهله ) في موضع حال مما في البيت من معنى الفعل، كما أن علما في قولك: أنت الرجل علما وفهما، ينتصب عما في الرجل من معنى الكمال، وكما أن جارةً في قوله ( الأعشى ):
ياجارتا ما أنتِ جارة = ( بانت لتحزننا عفارة )...
ينتصب عما في ( ما أنت ) من معنى التعظيم....) الخ ... ثم ياصديقي.. أنا لا أكره أن أشهد مناظرة بين الكوفيين والبصريين حول بيت أبي ذؤيب هذا، على الأقل لأقول لهم بعد أن ينهكهم الجدال: رفقا بأنفسكم أيها العلماء، وردوا البيت إلى قصيدته الأم، وتذوقوا جمال الشعر فيها ابتداء من المطلع:
( أساءلت رسم الدار أم لم تسائل = عن السكن أم عن عهده بالأوائل )
إلى قوله:
( ولو أن ما عند ابن بُجرةَ عندها = من الخمر لم تبلُلْ لَهاتي بناطلِ )
والناطل هنا الجرعة من الخمر. وأبو ذؤيب كما ترى هنا هو أول شاعر تحدث عن ( الكَرّاب ) في الشعر: ( ابن بُجرة ). أليس ناطلُ شعر خيرا وأحلى من قنطار نحو؟

***

نعم الاختيار.. ووياصديقي العزيز:
( كم زورة لك في الأعراب خافية = أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب )
وزورتك هذه أدهى من زورة أبي الذئب نفسه.

***

أستاذ حسن. يمكن نحويا أن نقول مثلما تقول: أودعهم السجن.. ولكنهم سجناء معتقلون متهمون وليسوا وديعة. والرسالة اختارت ( دعهم ) بمعنى أبقهم. من ودع يدع ودعا الشيء إذا تركه

========

عبد القادر وساط

و يا صديقي العزيز سي أحمد بوزفور
لا شك أن الطاغية ابن علي ( غادي إينوض عليه النحل ) إذا هو فكرَ في اعتقال النحالين و محبي النحل و العسل من الشعراء. و كل ما أتمناه هو أن يفعل ذلك في وقت قريب. من يدري ؟ لعلي أطل ذات يوم من زنزانتي ، بسجن الكثيب ، فأرى أبا ذُؤَيْب الهُذَلي بين أيدي رجال الطاغية و هو يرسف في الأغلال . فهو كما تعلم يا صديقي من قبيلة تحب العسل و تشتار العسل و يذكر شعراؤها العسل في قصائدهم و يصفون النحل ، كما فعل صاحبُنا أبوذؤيب في تلك البائية العجيبة ، حين وصفَ اليعسوب و وصف الذكورَ الجوارسَ من النحل و تحدث عن إنتاج العسل في الشعوف و وصف ذلك الخالديّ الذي يحاول أن يأخذ العسل و قد شد نفسه بالحبال حتى لا يسقط أرضا فتمتزج بقايا جسمه بالتراب . فالحبال التي علقها في الجبل قد تكون أيضا هي أسباب المنية ، كما قال أبو ذؤيب .
و ثمة قصائد أخرى لهذليين آخرين يصفون فيها النحل و العسل بكيفية رائعة ، كما لا يخفى عليك.
أرجو أن يأمر الطاغية ابن علي باعتقال هؤلاء الهذليين ، حتى تزحف قبيلة هذيل كلها على هذا السجن الكئيب و تخلصنا مما نحن فيه .

***

قيل: إن الباقر قال لكثيّر عزة :
- تزعم أنك من شيعتنا وتمدح آل مروان ؟
فقال كُثيّر :
- إنما أسخر منهم وأجعلهم حيات وعقارب وآخذ أموالهم ، ألم تسمع إلى قولي في عبد العزيز بن مروان:
فما زالت رقاك تسل ضغني = وتخرج من مكامنها ضبابي
ويرقيني لك الراقون حتى = أجابك حية تحت الحجاب
و قال عبد الملك بن مروان حين ذُكر له هذا البيت :
- ما مدحه إنما جعله راقيا للحيات !

***

سي أحمد
الرفاق المعتقلون معي هنا ، من نحاة البصرة، ينتظرون عفوا من ابن علي في هذا اليوم بالذات، و أنت يا صديقي العزيز تأبى إلا أن توغر صدره عليهم بذكرك لهذا البيت :
لعمري لنعم الجار أعرف بيته = وأقعد في أفيائه بالأصائل
فأنت تعلم أن هناك خلافا شديدا بشأنه بين الطاغية و شيوخه الكوفيين من جهة و بين نحاة البصرة المعتقلين و شيوخهم من جهة أخرى ، حول الاسم الجامد المعرف باللام ، هل يجوز أن يكون موصولاً ؟
ومن يدري؟ قد يستدعي الطاغيةُ هؤلاء ( الرفاق) لمناظرتهم في ذلك ، ثم يغضب كعادته إن هم أطالوا جداله ، فينفيهم إلى جزيرة دهلك و ما أدراك ما جزيرة دهلك !

***

طيب يا سي أحمد
ما رأيك ؟ أتركهم منشغلين بهذا البيت :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله = و أقعد في أفيائه بالأصائل
أو أدافع قليلا عن موقف البصريين " بأن الاسم الظاهر يدل على معنى مخصوص في نفسه و ليس كالذي " ثم أتسلل إلى الخارج و أركب البغلة الزرزورية و أقصد جبل سنام فأجدك في انتظاري و نمضي معا لرؤية أبي ذؤيب الهذلي !
و هناك نستمتع بقصيدته اللامية حين يقرأها علينا بصوته ( الرخيم ؟)
و يكون ( ابن بجرة ) غير بعيد ليزودنا بما نحن في حاجة إليه ، على ألا يعلم رجال الطاغية بمكانه ، لأنهم سيبادرون عندئذ إلى اعتقاله.
و هكذا يقرأ علينا أبوذؤيب وصفه للحبيبة و استعداده للانصراف إن هي صدته ثم وصفه الرائع للنحل و للشخص الذي يأخذ العسل في غياب النحل متدليا بالحبال:
فلو كان حبل من ثمانين قامة = و تسعين باعا نالها بالأنامل
تدلى عليها بالحبال موثّقاً= شديد الوصاة نابل و ابن نابل
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها = و خالفها في بيت نوب عوامل
فحط عليها و الضلوع كأنها = من الخوف أمثال السهام النواصل
فإذا استمتعنا بسماع تلك القصيدة أهدانا أبوذؤيب كمية محترمة من العسل الحر ثم عدنا إلى البيضاء ، و نحن نتأمل كيف استعمل الشاعرُ ( يرجو) بمعنى ( يخاف) في قوله ( إذا لسعته النحل لم يرج لسعها )

***

تذكرني يا سي أحمد هنا بالخلاف الأبدي بين أصحابنا و أصحابهم حول همزة الذيب . ما زالت لدي بعض الذكريات عن قراءة الكسائي ( فأكله الذيب) و معارضة البصريين لذلك

=====

ابو العيال المحمدي

مهلا مهلا ياأستاذ ! نحن لا نريد أن نبقى في منزلة بين المنزلتين ، نتعاطف مع الأسير ، ولا نشجب الطغيان ! وكم كنا نتمنى أن يلفق لك تهمة ويزج بك مع أبي سلمى ، ويتنازل عن بعض صولته ويحاوركما ، فمن عز بز ومن غلب سلب ، كما قال صاحب المقامة . كم أنتظر هذه المناظرة !

***

هاهو التاريخ يعيد نفسه !
قصة طرفة وخاله المتلمس .
كان طرفة قد هجا عمرو بن هند ، وأراد أن يقتله ، فأشار عليه مستشاروه بأن يقتل معه خاله المتلمس ، لأنه إن ترك الخال ، وهو شاعر محنك مثل الأستاذ أحمد بوزفور ، فإنه سيهجوه وينتقم لابن أخته طرفة ، لذا وجب القضاء عليهما معا . فاستدعاهما الملك وأظهرا لهما خلاف ما يبطن ، وأكرمهما بالهدايا ، وسلمهما رسالة لكل واحد منهما لكي يحملاها إلى عامله على البحرين ،حيث تنتظرهما جوائز سنية .
في الطريق ساور المتلمس شك في سلوك الملك ، وقال لابن أخته طرفة : إني لست مرتاحا لهذه الصحيفة ويداخلني الشك في مضمونها ! فرد عليه طرفة ، وهو الشاب المندفع مثل أبي سلمى : إنك تسيء الظن في الملك ، والجائزة السنية في انتظارنا !
لكن المتلمس لم يقتنع بقول طرفة ، وبمجرد وصولهما إلى الحيرة فض ختم الرسالة ، وطلب من أحد صبيان المدينة أن يقرأ له الرسالة ، لأن الشاعرين كانا أميين كدأب جل الشعراء عهدئذ؛ أخبر الغلامُ المتلمسَ بأن الملك يأمر عامله بقتل حامل الرسالة ؛ ارتعدت فرائص المتلمس وألقى بالرسالة في النهر وأنشد :
وألقَيتُهَا بالثَّنِي مِن جَنبِ كافرٍ ... كَذلِكَ ألقي كُلَّ رَأي مُضَلّـلِ
رَضيتُ لهَا بالمَاءِ لمّا رَأيتُـهَا ... يَجُولُ بهَا التيَّارُ في كلِّ جَدوَلِ
وقال لابن أخته : تعلمن والله أن الذي في كتابك مثل الذي في كتابي، فقال طرفة: لئن كان اجترأ عليك ما كان بالذي يجترىء عليّ.
أطلق المتلمس ساقيه للريح ، ولم يتوقف إلا في الشام ،بينما ذهب طرفة برجليه إلى حتفه ، والقصة طويلة . من حسن حظ أخوينا العزيزين أنهما مهددان بالاعتقال فحسب ،فمهما بلغ طغيان ابن علي فإن قلبه يرق ، ولا يلجأ إلى الأساليب الجاهلية



1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى