محمود محمد شاكر - 1 - الفتنة الكبرى

بادرت إلى قرأت كتاب (الفتنة الكبرى) الذي صنفه الدكتور طه حسين، لأنه أول كتاب له عن رجل من رجالات الصدر الأول من الإسلام، وهو (عثمان بن عفان) أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنا اعرف الدكتور مكانه من العلم والتحقيق، وحسن تأتيه في تخريج الكلام؛ فمن اجل ذلك أيقنت انه سيملأ هذا الكتاب علما يضارع قدر هذا الرجل، ويوازن خطر الفتنة التي اضطرم سيرها في أخر خلافته، وانتهى باغتيال خليفة رسول الله اغتيالا لم يعرف تاريخ الإسلام ابشع منه ولا افظع. وقلت لنفسي أن أتجاوز الكلمة الأولى من الكتاب: أن طه خير من يصور للناس هذه الأحداث المختلطة المضطربة، وخير من يهديهم في شعابها إلى مفصل الرأي ومقطع البيان. وقديما ما ضل الناس في بيداء هذه الفتنة المظلمة، وقديما ما أخطأ الكتاب فهم هذه الحادث الجلل، وقديما ما حار الناس في أمر المسلمين الذين ذبحوا خليفتهم كما تذبح الشاة المظلومة، وقديما وحديثا ما خاض الناس فما خاضوا إلا مضلة لا يهتدي فيها سار إلى علم يفضي إلى جادة واضحة أو إلى غاية معروفة.

رميت بنفسي وعقلي في هذا الكتاب، وأنا على مثل هذه الثقة التي وصفت، وبمثل هذا الأمل الذي أمليت، فما كدت أفرغ حتى رأيت الكتاب كله يختلج بين يدي، ولست احب أن يعرف القارئ لم اختلج الكتاب. فهذا حديث طويل لو بدأت القصة لما عرفت أين انتهي، فأنا طاويه عنه؛ لأني أوثر أن ادع قلبه حيث هو من الاستقرار والأمن والرضى، وأنا افعل هذا وإن شاء هو أن أنشر هذا الذي طويت، وافعله وإن كره لنفسه هذا الاستقرار والأمن من الرضى، وحسب القارئ أن ينظر معي إلى موضعين في هذا الكتاب، لم ينفض عجبي منهما ولن ينفض عجبه حين يقف على خبرهما.

وأسبق القلم فازعم أني أسلم جدلا، كما يقولون، بأن كل الذي أتى به الدكتور طه صحيح في جملته وتفصيله، وأن الصورة التي أراد أن يصور بها تاريخ عثمان رضى الله عنه وتاريخ أصحابه ومعاصريه صحيحة أيضاً في جملتها وتفصيلها، وأزعم فوق ذلك أني لا أخالفه في شئ منها خلافا ما، وإني لو كتبت تاريخ عثمان، وتاريخ الفتنة، لم اقل إلا بم قال إذ ذكر هذه الفتنة الخبيثة فقال ص109 (فالفتنة إذن إنما كانت عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء) وأنت خليق أن تنظر في هذا التكرار لهذه الصفة (وفتنة عربية) و (عامة عربية) لتعلم ماذا يريد بهذا التكرار، وما الذي يريد أن ينفيه من شركة أحد غير العرب في دم عثمان وأنت خليق وحري وجدير بان تفعل هذا وأن تتأمل فتطيل التأمل؛ لأنك سوف تلقى بعد قليل شيئا جديد كل الجدة، وحسنا كل الحسن؛ فما تكاد تمضي صفحات حتى ترى بابا في ص131 يبدأ هكذا:

(وهناك قصة اكبر الرواة (المتأخرون) من شأنها وأسرفوا فيها حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدرا لما كان من الاختلاف على عثمان، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة بين المسلمين لم تمح آثارها بعد، وهي قصة عبد الله بن سبا الذي يعرف بابن السوداء. قال الرواة: كان عبد الله بن سبا يهوديا من أهل صنعاء حبشي الأم، فاسلم في أيام عثمان ثم جعل ينتقل في الأمصار يكيد للخليفة ويغرى به ويحرض عليه، ويذيع به الناس آراء محدثه أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعا) ثم يقول: (وإلى ابن السوداء يضيف كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية أيام عثمان، ويذهب بعضهم إلى أنه احكم كيده إحكاما، فنظم في الأمصار جماعات خفية تستتر بالكيد، وتتداعى فيما بينها إلى الفتنة، حتى إذا تهيأت لها الأمور، وثبت على الخليفة فكان ما كان من الخروج ولحصار وقتل الإمام).

فأنت ترى من هذا لماذا أصر الدكتور منذ قليل على أن يصف الفتنة بأنها (عربية) وبان العامة الذين كانوا شرار هذه الفتنة كانوا (عامة عربية) أي أنه ليس لهذا اليهودي الخبيث عبد الله بن سبا يد فيها، وأن ليس لليهود عمل في تأريث نارها. وهذا تخريج بين جدا، لا يخالفنا فيه أحد ولا الدكتور طه نفسه فيما نعلم. ثم يمضي الدكتور في حديثه ليقول بعقب ذلك: (ويخيل إلى أن الذين يكبرون من أمر ابن سبا إلى هذا الحد يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافا شديداً. وأول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكرا في (المصادر المهمة) التي فصت أمر الخلاف على عثمان، فلم يذكره ابن سعد حين قص ما كان من خلافة عثمان وانتقاض الناس عليه. ولم يذكره البلاذري في انساب الإشراف، وهو فيما أرى (أهم المصادر) لهذه القصة وأكثرها تفصيلا. وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه اخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فما يظهر) واراني مضطر أن انقل لك أيضاً ما قاله الدكتور بعد ذلك في ترجيح رأيه وبيان حجته قال:

(ولست ادري أكان لابن سبا خطر أيام عثمان أم لم يكن؟ ولكني اقطع بان خطره، أن كان له خطر، ليس ذا شان. وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم سلطانهم طارئ من أهل الكتاب اسلم أيام عثمان. . . . . ولو قد اخذ عبد الله ابن عامر أو معاوية هذا الطارئ الذي كان يهوديا فلم يسلم إلا كائدا للمسلمين، لكتب أحدهما أو كلاهما فيه إلى عثمان، ولبطش به ـأحدهما أو كلاهما. ولو قد أخذه عبد الله بن سعد ابن أبي سرح لما أعفاه من العقوبة التي كاد ينزلها بالمحمدين (محمد ابن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة). لولا خوفه من عثمان. . . . ولم يكن ايسر من أن يتتبع الولاة هذه الطارئ ومن أن يأخذوه ويعاقبوه) ثم يقول في ص134 (فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط. ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل اقبل من صنعاء، وكان أبوه يهوديا وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديا ثم اسلم لا رغبا ولا رهبا ولكن مكرا وكيدا وخداعا، ثم أتيح له من النجاح ما كان يبتغى، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه) ثم يقول: (هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ) هكذا يقطع الدكتور الرأي جملة واحدة!!

هذا هو الموضع الأول، أما الموضع الثاني فهو اشد الأشياء علاقة بهذا، ولكن الدكتور قطعه عنه قطعا كريما فترك صفحة 134 ومضى على وجهه في هذا البحث الجليل إلى أن بلغ ص209 لكي يقول: (وهنا تأتي قصة الكتاب الذي يقول الرواة أن المصريين قد أخذوه أثناء عودتهم إلى مصر، فكروا راجعين فهذه القصة فيما أرى ملفقة من اصلها) ثم اختصر قصة الكتاب اختصارا وقال: (كل هذا أشبه بان يكون ملهاة سخيفة منه بان يكون شيئا قد وقع. الأمر ايسر من هذا تلقى أهل الأمصار وعدا من أمامهم فاطمئنوا إليه، ثم تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده! فاقبلوا ثائرين يريدون أن يفرغوا من هذه الأمر وأن لا يعودوا إليه حتى يفرغوا). ثم تبين للدكتور أن إلغاء هذا الكتاب الذي أرسل إلى والى مصر يأمره بقتل رؤوس الوفد الذي جاء من مصر، ليس يحل الإشكال في عودة الوفد بعد أن فصل عن المدينة راجعا إلى مصر، وتبين له أيضاً أن الغرض الذي ذهب إليه من أهل الأمصار تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده، أي انه كذب عليهم باللفظ الصريح، شئ غير مستساغ فانه سال نفسه كيف تبينوا انه كذب عليهم فلم يعرف كيف يجيب فألقى الغرض كما هو وزاد عليه انهم اقبلوا ثائرين، (فلما بلغوا المدينة وجدوا أصحاب رسول الله قد تهيأوا لقتالهم، فكرهوا هذا القتال وانصرفوا كائدين، حتى إذا عرفوا أن هؤلاء الشيوخ قد القوا سلاحهم وأمنوا في دورهم، كروا راجعين فاحتلوا المدينة بغير قتال) ولكن رأي الدكتور طه وهو خير من يرى الآراء أن الغرض مدخول كله إذا لم يعزز بفرض آخر، ففكر وقدر، ثم نظر ثم قال: (وأكاد اقطع بان قد كان لهم من أهل المدينة أنفسهم أعوان دعوهم وشجعوهم ثم أعلموهم با عزم عليه أصحاب النبي، ثم أعلموهم بعودة المدينة إلى الهدوء والدعة، ثم انضموا إليهم حين حاصروا عثمان). وهذه كلها كما ترى فروض وتخيل، وإقرار أيضاً بما أنكره في أمر عبد الله بن سبا من تنظيم (الجماعات الخفية) التي تتستر بالكيد، فهو ينكر هذه المبدأ هناك ويقره هنا!! ثم يمضي الدكتور في فروض، فرضا من بعد فرض، حتى يريك كيف تعقدت الأمور فجأة إلى أن كان مقتل عثمان، ولكنه يختصر ذلك اختصارا غريباً عجيباً لم اعرف له مثيلا في كل ما كتب الدكتور وفرض وادعى ثم جزم الرأي وقطع به، مما يعرفه اكثر قراء العربية الذين قرأوا للدكتور منذ أول نشأته في الكتابة.

ولست احب أن اقف بك عند شئ إلا عند هذين الموضعين فأنا اكره الإطالة في تفليه كلام الدكتور، خشية أن لا انتهي، فان تحت كل حرف مما كتب علما كثيرا لابد من تفليه وغربلته ورده إلى وجوه الحق التي زال عنها إلى سواها، وأنت ترى إننا اضطررنا اضطرارا إلى الإطالة بالنقل. لئلا يفوت عليك شئ من لب حديث الدكتور وعلمه. وقد بدا الدكتور حديثه في إسقاط قصة اليهودي ابن السوداء عبد الله بن سبا فذكر أن (الرواة المتأخرين) اكبروا من شانها وأسرفوا فيها، وإنها لم ترد في (المصادر المهمة)، وان (ابن سعد) لم يذكرها وأن البلاذري لم يذكرها في انساب الأشراف (وهو فيما يرى الدكتور أهم المصادر)، أن الذي ذكرها هو الطبري (وأخذه عنه المؤرخين الذين جاءوا بعده فيما يظهر) كما يقول الدكتور.

1 - وبدء الدكتور بقوله. (الرواة المتأخرون) فيه إيهام شديد، متعمد فيما يظهر!! فان الطبري ليس من الرواة المتأخرين، فهو قد ولد سنة 225 ومات سنة 310 فهو معاصر (البلاذري) وفي طبقة تلاميذ (ابن سعد) صاحب الطبقات.

2 - أن سيف بن عمر الذي روى عنه الطبري هذه الخبر هو من كبار المؤرخين القدماء، فهو شيخ شيوخ الطبري والبلاذري وهو في مرتبة شيوخ (ابن سعد)، فقد مات في زمن الرشيد، أي فيما قبل سنة 190 من الهجرة فلا يقال عنه ولا عن الطبري انهما من (الرواة المتأخرين) كما أراد الدكتور طه أن يوهم قارئه.

3 - إن ذكر الدكتور (المصادر المهمة) فيه إيهام شديد وإجحاف جارف، فإذا لم يكن كتاب الطبري من (المصادر المهمة) فليت شعري ما هي المصادر المهمة التي يبن أيدينا؟

4 - إن الدكتور طه يعلم أن كتاب ابن سعد الذي بين أيدينا كتاب ناقص، وانه ملفق من نسخ مختلفة بعضها تام وبعضها ناقص وبعضها مختصر، والدليل على ذلك مما نحن بسبيله انه ترجم لعمر في 84 صفحة ولأبي بكر في 33 صفحة فلما جاء إلى عثمان، والأحداث في خلافته هي ما يعلم الدكتور طه ويعلم الناس، لم يكتب سوى 22 صفحة فما ذكر علي بن أبي طالب والأمر في زمنه افدح لم يكتب عنه سوى 16 صفحة. هذه على أن في الكلام على طريق ابن سعد في تراجم الرجال شئ آخر غير كتابة التاريخ فانه لم يذكر في هذا الفصل إلا قيلا جدا مما ينبغي أن يكتب لو انه ألف كتابه في التاريخ العام لا في الترجمة للرجال. وهذا شئ يعلمه الدكتور طه حق العلم ولا ريب.

5 - انه كان من حجة الدكتور في نفي خبر عبد الله بن سبا اليهودي اللعين أن البلاذري لم يذكره، وهو فيما يرى (أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلا): ثم عاد فنفى أيضاً خبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل وقد مصر مع أن البلاذري ذكره وأطال واتى فيه بما لم يأت في كتاب غيره. ولا ندري كيف يستقيم أن يجعل عدم ذكره خبراً ما حجة في نفيه ثم ينفي أيضاً خبر أخر قد ذكره ولج فيه؟

وهذه الخمسة أشياء كنت استحي أن احدث الدكتور بها أو أناقشه فيها؛ لأنها من الوضوح والجلاء بحيث لا تخفى على رجل مثله خراج ولاج بصير بالعلم احسن البصر، ولكن بقى شئ واحد احب أيضاً أن يتاح لي يوما ما أن اعرفه، وهو: هل كان في نص البلاذري قديما ذكر عبد الله بن سبا اليهودي ثم سقط أو اسقط من الكتاب؟ وهذا لا يتاح لي إلا إذا وقفت على نسخة قديمة وثيقة من كتاب انساب الأشراف، فان هذه النسخة التي بين أيدينا إنما طبعت في اورشليم، وطبعها رجل من طغاة الصهيونية، وقدم لها مقدمة لم تكتب لا بالعربية ولا بالإنجليزية بل باللغة العربية! وليأذن لنا الدكتور أن نشك اكبر الشك في ذمة هذا اليهودي الصهيوني الذي طبع الكتاب في مطابع الصهيونية في أورشليم. فقد رأينا من قبل رجلا آخر حاطه الدكتور طه يوما ما برعايته وعنايته واستقدامه إلى الجامعة المصرية، وكان يسمى نفسه (أبا ذؤيب) إسرائيل ولفسون، (وهو الآن في فلسطين يجاهد في سبيل الصهيونية) فألف كتابا في تاريخ اليهود في بلاد العرب، وطبع في مصر وقدم له الدكتور طه مقدمة أثنى فيها عليه ثناء بالغا، ومع ذلك فقد وجدنا في الذي نقله من الأخبار، والأحاديث تحريفا وبترا واقتطاعا من نصوص محفوظة معروفة. أفلا يجوز لنا على الأقل أن نشك في أن اليهودي الآخر طابع كتاب البلاذري، يفعل مثل هذا؟ إننا على الأقل نشك ونتوقف هذا إلى أن طريقة التأليف القديمة وبخاصة ما كان على غرار تأليف البلاذري، قد يترك المؤلف فيها شيئا في مكان، ثم يذكره في مكان آخر، وكان أولى أن يذكر في المكان الأول، وهذا شئ يعرفه الدكتور كما نعرفه واحسن مما نعرفه، أفلا يجوز أن يكون البلاذري قد ذكره مثلا في ترجمة (عمار بن ياسر) أو (محمد بن أبي بكر) أو (محمد بن أبي حذيفة) أو رجل من اشترك في هذه الفتنة؟ وهو يعلم أن الذي وجد من كتاب البلاذري قسم ضئيل جدا طبع منه جزء في ألمانيا سنة 1883، ثم تولى اليهودي الصهيوني طبع جزء آخر هو الذي فيه ترجمة عثمان في سنة 1936، ثم طبع جزء سنة 1938 قال الناشر في مقدمته المكتوبة بالعربية أن هناك حوادث جرت في عهد يزيد بن معاوية، هي وقعة كربلاء وموت الحسين (ولم تذكر في ترجمة يزيد بل ذكرهما في تراجم بني أبي طالب، وذلك حسب ما اقتضاه نظام الكتاب وفقا لتسلسل الأنساب) كما قال بنص كلامه أفلا يجوز إذن أن يكون البلاذري قد ادمج أمر عبد الله بن سبا في مكان آخر كما فعل فيما لاحظه وذكره هذا اليهودي؟ كل هذا جائز ولكن الدكتور حين يريد أن ينفي شيئا لا يبالي أن يجتاز كل هذا ويغضي عنه ليقول فيه بالرأي الذي يشتهيه ويؤثره غير متلجلج ولا متوقف.

ثم كيف نسى الدكتور أن من لم يرو خبرا ما ليس حجة على من روى هذا الخبر وبخاصة إذا كان الرجلان من طبقة واحدة كالبلاذري والطبري؟ بل لعل الطبري أقوى الرجلين واعلمهما وأكثرهما دراية بالتاريخ وتحصيلا له وهو الذي روى عنه انه قال لأصحابه: (أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره قال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى فيه الأعمار قبل تمامه. فاختصر لهم في ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال لهم: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير فأجابوه بمثل ذلك فقال: أنا لله!! ماتت الهمم!).

ومن قرأ كتاب الطبري في تاريخه أو تفسيره علم أن هذه حق، وان الرجل كان فارغا للعلم لا يلفته عنه شئ قط، ولا يدع شاردة ولا واردة إلا تقصاها وحققها ورأى فيها الرأي الذي لا يكاد ينقض. والفرق بينه وبين البلاذري لا يخطئه بصير بهذا العلم فليس من الحجة في شئ أن يقال (في عصرنا هذا): أن البلاذري لم يذكر هذا، فيكون ذلك كافيا في الرد على ما ذكره الطبري. وهذا شئ بين لا يحتاج إلى جدال كثير.

وإذن فالدكتور قد اشتط وركب مركبا لا يليق بمثله حين نفى خبر عبد الله بن سبا، وخبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل المصريين بعد الذي قد رأيت من تهافت أسلوبه في البحث العلمي؛ وإذن فالدكتور قد خالف سنة العلم والعلماء في نفي الأخبار وتكذيبها بلا حجة من طريقة أهل التمحيص، بل تحكم تحكما بلا دليل يسوقه عن فضيلة البلاذري وتقديمه على الطبري، وبلا مراجعة للصورة التي طبعت عليها الكتب، وبلا دراسة لنفس الكتب التي ينقل عنها كما هو القول في ابن سعد والبلاذري معا. وإذن فيحق لنا أن ننقل هنا كلمة للدكتور طه نفسه قالها عندما ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر الخلاف الذي كان بينهم، وذكر أو زعم انهم تراموا بالكبائر وقاتل بعضهم بعضا وزعم انه لا ينبغي لنا أن يكون رأينا فيهم احسن من رأيهم هم في أنفسهم فقال في ص172 من كتابه:

(ينبغي أن نذهب مذهب الذين يكذبون اكثر الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بينهم من (فتنة) واختلاف. فنحن أن فعلنا ذلك لم نزد على أن نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء فما ينبغي أن نصدقهم حين يرون ما يروقنا، وان نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا. وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكتب بعضه الأخر لا لشيء إلا لأن بعضه يرضينا وبعضه يؤذينا). وهذا حق، ولكن الدكتور يحتج به في معرض الطعن في الصحابة ومعرض القول في نسبة الأخطاء الماحقة إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يعود فيسقط هذا الرأي، ولا يبالي به، ويخالفه اشد المخالفة في معرض رد الرواة الذين رووا لنا خبر الفتنة الخبيثة التي تولى كبرها عبد الله بن سبا اليهودي ولماذا بفعل ذلك لا ندري، بل الحق إننا ندري ولكننا نأبى أن نتعجل القارئ بحكم لم نأت فيه بالبينة التي تدفع كل أقوال الدكتور في قضية هذا اللعين ابن السوداء، فللقارئ علينا حق لا يحل لنا أن نخونه فيه وحقه هو أن يرى حجج الدكتور كلها أولاً، ثم حججنا متابعة ثانيا، ثم نعطيه الحكم ليأخذه أو يدعه على هدى وبصيرة.

وموعدنا المقال الآتي بأذن الله.

محمود محمد شاكر


مجلة الرسالة - العدد 761
بتاريخ: 02 - 02 - 1948

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى