أمل الكردفاني - الذكاء.. وهم الاستجابة الحرة

✍ أهذا الموضوع يمكن تناوله من عدة جوانب ، ولكني سأنطلق من فكرته الأساسية وهي التي عبر عنها كريث فريث في مؤلفه (تكوين العقل-كيف يخلق المخ عالمنا الذهني) قائلا:
(في عام 1983 نشر بنيامين ليبيت وزملاؤه تجربة بسيطة للغاية؛ اذ كل ما على الشخص ان يفعله في التجربة هو أن يرفع اصبعا واحدا كلما شعر هو أو هي بدافع يحثه على فعل ذلك ، ويجري في الوقت نفسه قياس النشاط الكهربي في المخ بواسطة رسام المخ الكهربائي ، وكان معروفا أن ثمة تغيرا مميزا يحدث في هذا النشاط قبيل أن يبدأ شخص ما في عمل أي حركة في الآن نفسه مثل رفع اصبع ، وهذا التغير في النشاط ضئيل جدا ، ولكن يمكن تسجيله عن طريق جمع قياسات من حركات كثيرة ويمكن تسجيل تغير في نشاط المخ يصل الى ثانية قبل رفع الاصبع فعليا. ويتمثل الجانب الجديد في دراسة ليبيت في انه سأل المتطوعين ان يخبروه متى راودهم الحافز لرفع الأصبع؟ عبروا عن هذا بالافادة عن الوقت الذي تشير اليه ساعة خاصة في اللحظة التي يشعرون معها بالحافز.
وحدث الحافز قبل رفع الاصبع بحوالي 200 م ث ، ولكن الملاحظة الرئيسية التي أثارت جلبة وسجالا كبيرين هي أن نشاط المخ حدث قبل رفع الاصبع بحوالي 500 م ث ، معنى هذا أن نشاط المخ الذي يشير الى أن المتطوع بسبيله الى رفع الاصبع حدث قبل 300 م ث من افادة المتطوع بأن لديه الحافز لرفع الاصبع. دلالة هذه الملاحظة أنني عن طريق قياس نشاط مخ امرئ ما استطيع أن أعرف أنه على وشك الشعور بحافز لديه لرفع اصبعه قبل أن يعرف هو نفسه ، وأحدثت هذه النتيجة تأثيرا واسع النطاق خارج علم النفس ، لأنها تبين أنه حتى ابسط أفعالنا اللا ارادية تكون محددة مسبقا ، نحن نظن أننا نختار بينما واقع الأمر أن المخ حدد سابقا الخيار. ومن ثم فإن خبرتنا بأننا نختار في تلك اللحظة هي خداع ، وإذا توهمنا أننا نفكر في عمل خياراتنا فإننا أيضا اسرى وهم التفكير بأننا اصحاب إرادة حرة).
في منتدى الفلسفة الامريكي طرحت سؤالا يلخص ما جاء بكتاب كريث وتجربة ليبيت وهو كالآتي:
Do you think we control the way the brain works to think? If the answer is no.. Do you think we're free?
لقد نال هذا السؤال مائة وسبع وستين إجابة تحاول ايجاد حل لهذه المعضلة ، التي فتنت فلاسفة العالم منذ الفلاسفة الذريين وسقراط وافلاطون وارسطو وما تلاهم من فلاسفة المسلمين حتى نشوء علم التكوين المعرفي ونظرية المعرفة الابستمولوجي.
القضية ترتبط اذن بالسؤال حول الجبر والاختيار ؛ وهو السؤال الذي لا يقف فقط عند حدود شغفنا بمعرفة انفسنا عبر الاستبطان ، وانما يمتد الى قضايا دينية عميقة جدا ، تمت اثارتها في ظل كافة الأديان السماوية وغير السماوية بل وحتى الاديان ذات الطابع التأملي كالبوذية.
كتاب كريس مهم جدا لمن يريد ان يستزيد من فهمه لعمل استجابة الدماغ للعالم وتأثيره على فكرة حرية الارادة بحيث يزعزع ثقتنا في فهمنا المستقر منذ الأزل حول الحرية.
واذا كنا نتحدث عن الذكاء فيجب اولا ان ان نحدد معناه ، فالذكاء كلمة كالكثير من الكلمات التي نستخدمها بشكل عام جدا ، وشعبوي ، دون ان نملك لها فهما تجريبيا يحدد عناصرها ، وهي لا تختلف بالتالي عن كلمات أخرى كال (حب ، العدالة ، الاخلاق ، الضمير ، الفطرة....الخ). لقد انقسمت فلسفة اللغة -في هذا الاتجاه الى قسمين متضادين تماما- قسم تبنته مدرسة اللغة العادية ordinary language theory ، والمدرسة الوضعية المنطقية. فالأولى اعتدت بعدم ضرورة اخضاعنا للمفردات للتمحيص التجريبي حيث أن الطبيعة الانسانية لا تعتمد فقط على اللغة المنطقية ، والثانية التي رفضت تلك الرؤية لتشترط خروجنا من مأزق الاستخدام الاعتباطي للغة كمواكبة للاتجاه الحداثوي نحو مركزية العقل والعلم.
فماذا تعني كلمة ذكاء؟
أولا سننظر الى هذه الكلمة في الاستخدام الشعبي العام ، وهي تعبر عن وصف انسان ما وصفا ايجابيا يجعله أكثر تميزا عن غيره من البشر. سنلاحظ أن هذا الاستخدام الشعبي لكلمة ذكاء ظل حاضرا دائما في النزعات العنصرية ، حيث كان اغلب علماء الانثروبولوجيا والاركيولجيين الاوروبيين يعتبرون الأفارقة اقل ذكاء ، او حتى منعدمي الذكاء ، وكما كانت النازية تعتبر الجنس الآري هو الجنس الأذكى ، فكلمة ذكاء تشكلت عبر تطورها كأداة للتمييز ، ليس فقط بين البشر وبعضهم البعض بل حتى بين البشر وباقي الكائنات الحية ، فالانسان هو الكائن الأكثر ذكاء ، وهذا ما نحت اليه تطورية داروين بل واستمر عليها جان بياجيه وهو بصدد تحديد معنى الذكاء باعتباره تكيفا. وهذا ما سنفصله لاحقا.
▪النظريات المختلفة لتعريف الذكاء:
في كتابه سيكولوجية العقل البشري ؛ تطرق الشيخ كامل محمد عويضة للنظريات المتعددة لفهم الذكاء ، ومنها النظريات الفلسفية غير التجريبية والتي انحصرت في تحديد الذكاء باعتباره ملكة او قدرة عامة مفردة تؤثر في جميع العمليات التي يقوم بها العقل في مختلف اشكالها وأنواعها (النظرية الملكية). او ان إلذكاء مجموعة ضخمة من القدرات النوعية المتخصصة كل منها منفصلة عن غيرها ، وهي ليست محدودة العدد كما ذهب الآخرون. ثم انتقل فحص الذكاء الى نظريات احصائية تجريبية كنظرية العاملين التي نادى بها العالم (سبيرمان) ؛ وتتلخص نتائج اختباراته في ان جميع مظاهر النشاط العقلي تتوقف على وجود:
أولا: عامل عام يشترك في كل العمليات العقلية المختلفة.
ثانيا:عامل خاص يظهر في عمليات معينة ويختلف عن غيره في العمليات الأخرى.
فمثلا عندما اقيس القدرات الخاصة لدى شخص ما مستخدما اختبارات القدرة الرياضية والموسيقية واللغوية ثم استخلص العلاقات القائمة بينها رياضيا وأدونها في الجدول في صورة ارقام سأجد لكل قدرة درجة خاصة بها (العامل الخاص) ، بالاضافة الى درجة عامة تشترك بين كل القدرات (العامل العام) وهو ليس سوى رمز رياضي فقط يتوصل اليه العلماء باستخدام المناهج الاحصائية ، فهو عامل غير مادي ، ويظهر بصورة أوضح في الاختبارات والقدرات النظرية العقلية الخالصة ، أما العامل النوعي الخاص فإنه يظهر بوضوح عندما يبرز الشخص في عزف إحدى الآلات الموسيقية او حل العمليات الحسابية ..الخ. وقد اطلق العلماء على العامل العام اسم (الذكاء) ، الذي يوجد بقدر مشترك في كل العمليات والقدرات العقلية العامة والخاصة ، وهكذا يكون لدى كل شخص استعداد عقلي عام (الذكاء) يعمل مع الاستعدادات النوعية (القدرات الخاصة) ويتوقف نجاح اي عملية على وجود هذين الاستعدادين في حالة تداخل تامة.
ولن اورد هنا ما وجه لهذه النظرية من نقد ولكن يمكنني الاشارة الى ما انتهت اليه دراسات تومسون وثرستون وكيللي وغيرهم من علماء النفس الى ان هناك صفات وعوامل نوعية طائفية كالتذوق الفني توجد مشتركة بين بعض القدرات الخاصة للفرد. وبالتالي فإنها تكون اكثر اتساعا من العوامل الخاصة التي تقتصر على قدرة واحدة وهي في نفس الوقت أقل شمولا من العامل العام الذي يشترك في شتى العمليات والقدرات العقلية.
وطرح دكتور سليمان الخضري الشيخ في مؤلفه الموسوم ب (الفروق الفردية في الذكاء) تفصيلا اكبر عند محاولة تأصيله لتعريف الذكاء ؛ ويمكننا ان نلخص جزءا مما اورده من تعريفات كالآتي:
قسم دكتور سليمان المفاهيم المختلفة للذكاء الى عدة اقسام:
♦المفهوم الفلسفي للذكاء ؛ وتعرض فيه الى ظهور المصطلح عبر الفيلسوف الروماني شيشرون حيث حاول الفلاسفة فهم النشاط العقلي من خلال المنهج الاستبطاني. وموضوع ورقتنا هذا لا يختص بفهم النشاط العقلي بشكل عام لذلك سننتقل مباشرة الى المفهوم البيولوجي والفسيولوجي للذكاء.
♦المفهوم البيولوجي والفسيولوجي للذكاء:
بحسب سبيرمان فإن هربرت سبنسر هو من ادخل مصطلح (الذكاء) الى علم النفس حيث يرى هذا الأخير ان وظيفة الذكاء هي تمكين الانسان من التكيف الصحيح مع بيئته المعقدة والدائمة التغير ، في حين تكون الغريزة هي وسيلة الحيوانات الأخرى لتحقيق هذا التكيف. ومعنى هذا ان الذكاء موروث وليس مكتسبا اذ انه يتحدد اساسا بخصائص النوع الذي ينتمي اليه الكائن ويمكن ان يتخذ من ظهور الجهاز العصبي ودرجة تعقيده معيارا لذكاء الكائن الحي. ولما كان الانسان يتميز بجهازه العصبي الاكثر تعقيدا ، فهو كذلك اذكى الكائنات الحية.
♦ المفهوم الاجتماعي للذكاء:
حيث ربط بعض العلماء بين الذكاء وبعض العوامل التي تعتبر نتاجا للتفاعل الاجتماعي ، او المرتبطة بنظم المجتمع ، او مدى نجاح الفرد في هذا المجتمع. فقد ميز ثورنديك على سبيل المثال بين ثلاثة انواع او مظاهر من الذكاء: الذكاء المجرد ، وهو القدرة على معالجة الالفاظ والرموز ، والذكاء الميكانيكي ، وهو القدرة على معالجة الأشياء والمواد العيانية كما يبدو في المهارات اليدوية الميكانيكية ، والذكاء الاجتماعي وهو القدرة على التعامل بفاعلية مع الآخرين.
♦ التعريفات النفسية للذكاء:
- تعريف بينيه والذي لم يضع تعريفا انما بعض الاراء التي تعكس تصوره للذكاء وقد ركز فيها على التذكر والتخيل. ثم على الانتباه الارادي. ثم تحول فيما بعد الى التأكيد على التفكير او عملية حل المشكلات. وحدد فيها ثلاث خطوات: الاتجاه (التأهب) ، والتكيف ، والنقد الذاتي. والتأهب هو نشاط البحث عن هدف . ويتضمن التكيف اكتشاف الوسائل التي توصل الى الاهداف ، وابتكار الاساليب او انتقائها. أما النقد الذاتي فيقصد به التقويم الذاتي. ثم اضاف بينيه الفهم . ويقول بينيه في وصفه للذكاء: (ان الانشطة الاساسية في الذكاء هي الحكم الجيد والفهم الجيد والتعقل الجيد).
- تعريف كلفن: والذي ذهب الى تعريف الذكاء بأنه القدرة على اكتساب الخبرة والافادة منها وهو كتعريف داروين بأنه القدرة على تغيير الأداء.
- تعريف الذكاء بأنه القدرة على التكيف ؛ كتعريف جوودايناف بأن الذكاء هو القدرة على الافادة من الخبرة للتوافق مع المواقف الجديدة ، وكتعريف بنتنر بأنه قدرة الفرد على التكيف بنجاح مع ما يستجد في الحياة من علاقات.
- الذكاء باعتباره القدرة على التفكير .
♦ التعريف الاجرائي للذكاء: ويقصد بالتعريف الاجرائي هو ذلك الذي يصاغ في عبارات العمليات التجريبية والاجراءات التي قام بها العالم للحصول على ملاحظاته وأقيسته للظاهرة التي يدرسها. وقد تمت محاولات من هذا النوع على يد وكسلر وجاريت ، والواقع ان أكثر التعريفات شيوعا بين علماء النفس يتمثل في تعريف بورنج حينما قرر أن (.....الذكاء قدرة يمكن قياسها ، وينبغي ان يعرف منذ البداية بأنه القدرة على الأداء الجيد في اختبار الذكاء). وقد وجهت انتقادات عديدة لهذا التعريف ، تعزب حدود موضوعنا عن التطرق لها. ولكن من المهم هنا ان نشير الى محاولة فيرنون لمعالجة مشكلة الذكاء لأن هذه المعالجة تدخل مباشرة في محل الورقة هذه ؛ حيث ميز بين ثلاثة معان مختلفة للذكاء: فالذكاء (1) يتضمن معنى القدرة الفطرية ، وهي شيء يرثه الطفل من ابويه عن طريق الجينات ويعين حدود نموه العقلي التي يستطيع ان يصل اليها. انه القدرة على التعلم ، كما هي متميزة عن المعلومات او المهارات المكتسبة. والاستخدام الثاني للذكاء (ب) ويشير الى الطفل او الراشد الماهر اللماح الذي يكون على درجة عالية من الفهم والتعقل والكفاءة العقلية.
♦ ملخص لرؤية جان بياجيه عن طبيعة الذكاء من كتابه سيكولوجيا الذكاء:
ينطلق بياجيه من نقد لعلم الاعصاب حيث لا يستطيع تفسير لماذا (2×2 = (4) . وهذا ينقلنا منذ اول وهلة للفلسفة المثالية التي انتقدها هايزنباخ ، حيث رد على مثل اعتراض بياجيه في كتابه فلسفة العلوم مؤكدا انه حتى المبادي الهندسية لا تخلو من الاكتساب المعرفي. على اية حال ولدقة هذه النقطة فوق انها لا تخدم قضيتنا كثيرا لا سلبا ولا ايجابا فسأنتقل مباشرة الى ما طرحه بياجيه حول رؤيته الخاصة لطبيعة الذكاء في مؤلفه الموسوم بسيكولوجيا الذكاء ؛ مختصرا بقدر الامكان هذه الرؤية دون ابتسار مخل.

يبتدر بياجيه تفسيره للذكاء باعتباره تكيفا فيقول:
(كل تصرف ، عملا ظاهرا او مستبطنا داخل الفكر ، يبرز كأنه تكيف او إعادة تكيف. فالفرد لا يتحرك الا اذا احس بحاجة معينة أي إذا ما فقد التوازن ، بصورة مؤقتة ؛ بين البيئة والجسم ، فيميل الجهد الى اعادة هذا التوازن ، أي بالضبط ، الى اعادة تكييف الجسم. فالسلوك اذن حالة معينة من التبادل بين العالم الخارجي والفرد ، ولكنه بعكس التبادلات الفزيولوجية ، وهي من النوع المادي ، وتحتم تحولا داخليا للأجسام المعنية ، فإن السلوك الذي تدرسه السيكولوجيا هو من النوع الوظيفي ، ويحصل على مسافات متدرجة من بعدها في المكان (الادراك الحسي...الخ) ، وفي الزمان (الذاكرة) ، ويتم ضمن مسارات متدرجة التعقيد (رجوع ، مداورة ، ..الخ). واذا نظرنا الى السلوك ، بهذا المنحى الوظائفي فذلك يفترض أن نرى فيه وجهين أساسيين ومترابطين بشكل وثيق ، الوجه العاطفي والوجه الادراكي. ثم يؤكد بياجيه فهمه للذكاء باعتباره لا يقوم على فئة عازلة ومنفصلة عن المفاهيم الادراكية . اذ انه ليس في ذاته تركيبا من ضمن التركيبات الاخرى بل هو نوع من التوازن الذي تسعى اليه كافة التركيبات ومن جملتها الادراك الحسي والعادات والأوليات الحركية -الحسية الأساسية.
ويمكننا ان نفهم الذكاء عند بياجيه على هذا النحو مؤسسا على نظرية التطور ، وهذا يعني ان بياجيه وهو يعتبر الذكاء تكيفا فهو يعتمد على مقارنة الانسان بباقي الكائنات الحية. ولذلك فالذكاء عند بياجيه هو وصف لوظيفة وليس تحليل لعناصر . وهذا بالتأكيد خلط ربما قصده بياجيه او لم يقصده بين محاولة فهمنا لطبيعة الشيء وبين وظيفته. ففهم وظيفة الشيء لا يغني عن تحديد مفهوم الشيء ذاته.
ينتقل بياجيه بعد ذلك الى الحديث عن عملية تبادل التأثير بين الجسم والبيئة. وهكذا يكون التكيف هو توازن المبادلات بين الفرد والأشياء.
كنت قد قرأت سابقا لألفرد أدلر فقرة في أحد مؤلفاته ابتدر بها افتتاحيته باعتبار أن الانسان وعلى خلاف الحيوان الخاضع تماما للطبيعة فإن الانسان متحرر منها ، فإذا كانت صيصان السلاحف تتجه الى البحر مباشرة بمجرد انفقاسها من البيضة فإن الطفل البشري يعجز عن التعامل مع الطبيعة بدون مساعدة خارجية ، ورغم ذلك فإن تحرر الانسان هذا هو ما يجعله الاقدر على اكتشاف ومواجهة الطبيعة بل وتسخيرها لتحقيق مصالحه. وهذا التمييز هو في حقيقته ليس اكثر من التمييز بين الغريزة واللا غريزة ، رغم ان كلمة غريزة نفسها تحتاج لتحديد يكشف غموضها. ويبدو ان بياجيه لم ينظر الى الامر على نحو ما نظر اليه ادلر بل رأى ان هناك تكاملا يحدث عبر التكيف وبالتالي اقحم نفسه في اشكاليات أخرى تحتاج لمزيد من التدقيق والتأمل.
وعند النقطة الجوهرية وهي محل مقالنا هذا نجد ان بياجيه لم ينحاز الى اي اتجاه حين قال: (قد نعزو التكيفات ، إما الى عوامل خارجة عن الكائن العضوي وإما الى عوامل داخلية ، وإما الى تفاعل الاثنين ، هكذا يمكننا من وجهة نظر ثبوتية عزو التكيف الى تناغم قائم مسبقا بين الكائن العضوي وخصائص البيئة أو الى تكوين مسبق يسمح للكائن العضوي بالاستجابة الى كافة الحلول بجعل بنياتها الموجودة بالقوة موجودة بالفعل). واستمر بياجيه ينحو الى الوقوف من هذه الجدلية موقف الحياد.
♦ كرستين تمبل: ماذا تريدين أن تقولي لنا؟:
Christine temple (1958-2014)
وهي بروفيسور ورئيسة قسم علم النفس بجامعة ايسيكس Essex بالمملكة المتحدة.
وربما يعد كتابها من أفضل الكتب التي تناولت جوهر تساؤلنا هنا ؛ وفوق ذلك فإنها استطاعت بمهارة فائقة منحنا كقراء غير متخصصين امكانية فهم عمل المخ البشري على نحو مذهل في كتابها (المخ البشري - مدخل الى دراسة السيكولوجيا والسلوك) ترجمة ممتازة ل د.عاطف أحمد.
وقد تعرضت منذ اول وهلة الى شرح خلايا المخ وتركيبه بشكل طيب جدا ومن خلال ذلك وضحت طبوغرافية الاجزاء المختلفة للمخ. وهذا ما لا يصب مباشرة في موضوعنا ولذلك فسننتقل مباشرة الى تفاعلات المخ المختلفة والاستجابات المترتبة عليها بشكل مختصر ؛ قبل ان ننتقل الى الجزء الاخير والاكثر اهمية.
▪لقد عرضت كرستين في مقدمتها عن وظائف المخ المختلفة نظرة تاريخية عن الفرضيات المختلفة حول وظائف اجزاء الدماغ.
ثم ابتدرت تحديد الوظائف بالجزء الذي يسمى ب (تحت المهاد) ؛ حيث تتغير الاستجابة عند تعرضه للاصابة ، فتؤثر على شعورنا بالجوع والشبع. كما تؤثر على كيفية اختيارنا للطعام الصالح للأكل ، وقد اجرى رولز ورولز (1982) تسجيلا لخلية مفردة من خلال قطب كهربي دقيق داخل خلايا تحت المهاد ولاحظا أنه في بعض الحيوانات هناك خلايا تنشط كاستجابة لبعض انواع الطعام دون الأخرى. وبعض تلك الخلايا حساس لمذاق الطعام بينما البعض الآخر حساس لمنظر الطعام، وقد اعلن رولز ورولز ان الاستجابات البصرية والتذوقية للمدخلات المرتبطة بالطعام في هذه المرحلة من المعالجة تحت المهادية تتعدل وفقا للشعور بالجوع.
كذلك فإن الجسم اللوزي في المخ هو من يمكن الحيوان من تحديد كيفية اختياره لطعامه ويتعلم كيف يتجنب اطعمة أخرى. ورغم ان اختيار ما يؤكل وما لا يؤكل تتدخل فيه الثقافة المجتمعية والدينية ولكن حتى ذلك -كما اشارت كرستين- يعتمد على ميكانزيمات القشرة الدماغية العليا. واشارت الى أن الفصوص الجدارية تشارك في القدرة على البحث خلال طرقات الخريطة فهي تشارك في القدرة على التوصل الى الطريق المطلوب واصدار الاحكام حول المواقع النسبية للأشياء على الخريطة وبمجرد ان توقف السيارة وتأخذ في السير في اتجاه المطعم تقوم الفصوص الجدارية باقتفاء الطريق والمسار المؤدي الى المطعم. والفصوص الجدارية لدى بعض الافراد تعمل بصورة افضل من غيرهم.
تشترك مكونات الفصوص الصدغية السفلى في تشكيل عناصر التعرف على الأشياء والتعرف على الوجوه واصابتها قد تؤدي للاصابة باختلال العمه الادراكي.
انتقل الكتاب بعدها الى تناول ما يسمى بالجسم الجاسئ وتحديد وظائفه المتعددة حيث تم تشريحه اولا ، ثم تم بيان مراحل تكونه في الجنين ، مؤكدا ان هذا المسار الليفي (الجسم الجاسئ) وصل لدى البشر الى ذروة النمو من حيث نسبة حجم أليافه الى باقي أجزاء المخ ، وهذا النمو التطوري اللافت يدل على أن الجسم الجاسئ يلعب دورا حيويا في السلوك البشري. وهكذا سنرى تاثيرات الدماغ على استجاباتنا كبشر كتحريك الايدي والرؤية والشم . ومن العجيب انه يمكن لكل نصف مخي ان يتخذ قرارا على نحو مستقل عن الآخر. وتثمينا لذلك فقد لوحظ من التجارب على القرود ان القرد ذو المخ المفصول يمكنه ان يتعلم حلين مختلفين ومتعارضين للمشكلة نفسها ، كل منهما يتم تعلمه بنصف مخي مختلف. وقد حدث لأحد المرضى أنه اذا قامت يده اليمنى بربط أزرار القميص ، جاءت اليد اليسرى من الناحية الأخرى لتفكها. كذلك واجهت بعض المريضات مواقف تتسم بتضارب السلوك ، فقد كانت الواحدة منهن اذا وقفت أمام خزانة الملابس لتختار ثوبا ترتديه امتدت كل يد على حدة لتختار ثوبا مختلفا لارتدائه في الوقت نفسه. (وان كنت شخصيا اعتقد ان هذا السلوك منتشر جدا عند الفتيات بغض النظر عما اذا كان مخهن مفصولا أم لا). وقد كانت تلك التباينات بين القرارات التي يتخذها نصفا المخ ، كل على حدة ، موضع اهتمام كبير من قبل الفلاسفة ، فقد اهتموا بالنتائج المترتبة على ذلك فيما يتعلق بالوعي وفيما يتعلق بمعنى العقل البشري ، وانسانية البشر ، واهتموا ايضا بعدم قابلية بعض عمليات اتخاذ القرار للظهور في التعبيرات اللفظية والتفكير العقلاني الذي يتخلل المناقشات ، وقد أدى ذلك بالبعض من ذوي الميول التحليلية النفسية الى أن يضع بعض العمليات تحت الشعورية في النصف المخي الأيمن . وعلى اية حال فمصداقية مثل تلك الفكرة ما زالت موضع جدل بالنسبة الى كثير منهم.
انتقلت المؤلفة بعد ذلك الى عرض دور المخ في الاستجابة اللغوية واسهبت فيها اسهابا كبيرا وجميلا جدا طوال الفصول التالية. فالمخ البشري يتحكم في النظم التي تشارك في انتاج اللغة وفي فهمها على السواء فهو يحلل اللغة بفعالية ويكونها وكذلك يختزن معارفنا عن اللغة وعن التواصل. وتحاول الدراسات التي تجريها اللسانيات البنيوية ان تتفهم الطريقة التي يؤدي بها المخ تلك العمليات عن طريق تحليل المكونات النحوية والصوتية المتضمنة في انتاج اللغة وادراكها ، بينما تعطي اهمية اقل للمعاني وللرسالة التي تهدف لتوصيلها.
▪المخ والانفعالات:
ان التغيرات الفسيولوجية في حالات الخوف والفزع والحب...الخ تمثل نشاطات يتحكم فيها الجهاز العصبي المستقل ويتكون هذا الجهاز من قسمين: السمبتاوي ؛ الذي تخصص في احداث حالة تحفز لمواجهة المواقف التي تتطلب حربا او هروبا. والجهاز البارا سمبتاوي الذي تخصص في استعادة الحالة الفسيولوجية الطبيعية لاحداث توازن في الجسم. وهكذا. فسرعة دقات القلب يمكن ان تزيد اما بزيادة مفعول الجهاز السمبتاوي واما بتقليل مفعول الجهاز البارا سيمبتاوي وأحد الموصلات العصبية التي تحدث بعض هذه التأثيرات هو مادة الادرينالين ومثيله النورادرينالين .
في الثلاثينيات من القرن العشرين طرح بابيز مسألة مشاركة مكونات الجهاز الحوفي في التحكم في الانفعالات. ووصف دوائر عصبية ارتدادية باعتبارها الاساس العصبي للانفعال. والتضاريس التشريحية لهذه المنطقة من الصعب وصفها خاصة ان العلاقات بينها ايضا معقدة. وقد كان الجهاز الحوفي من زاوية تطورية هو الشكل الاولي لنمو المخ الأمامي ، وهو يرتبط لدى الحيوانات البدائية مثل التمساح بوظيفة الشم. ومكونات المخ الوسيط في دائرة بابيز تشمل:تحت المهاد ، ونويات المهاد ، والتلفيف الحزمي ، وفرس البحر ، والروابط بينهم. وقد وصف بابيز هذه المكونات قائلا أنها تشكل ميكانيزما متجانسا من شأنه أن يحسن أداء الانفعالات المركزية ، وأن يشارك كذلك في التعبير الانفعالي ، وقد اعتبر بابيز أن تنظيم عمل المكونات التي تشكلها الدائرة العصبية التي وصفها يتوافق مع نظرية كانون- بارد في الانفعال. ويتوافق في الوقت نفسه مع الافكار السابقة التي ترى أن مركز الوعي يقع في منطقة ما قريبة من خط المحور للمخ.
▪السلوك الانفعالي:
يمكن ايضا ملاحظة تغيرات في السلوك الانفعالي مصاحبة لأمراض تصيب بحالة من اللا مبالاة أو حتى الابتهاج. فأمراض النصف الدماغي الأيمن يمكن ان تكون مصحوبة بحالة من اللا مبالاة أو حتى الابتهاج. وعلى العكس من ذلك ، نجد ان مرضى النصف المخي الايسر قد يعانون اكتئابا ويمكن ان يعانوا مما يسمى ب (رد الفعل الكارثي).
وفضلا عن عدم التماثل بين النصفين المخيين في التحكم الانفعالي والتعبير الانفعالي ، فقد وجد ان مناطق قشرية أخرى تلعب دورا ايضا في العواطف البشرية. حيث ان بعض من تعرضوا لحوادث اصابت الفصوص الامامية قد تغيرت سلوكياتهم كعدم القدرة على الاحتفاظ بالوظيفة وصعوبة أداء الاعمال وتنفيذ مخططات مسبقة ، وقد وصف هارلو (1968) كيف اختل التوازن بين العقل وبين الصفات الحيوانية لاحد المصابين الذي يدعى فينياس قائلا:
(ذا أطوار ، لا يحترم أحدا ، وينغمس احيانا في سلوكيات لا أخلاقية فاضحة ، على غير ما اعتاد عليه سابقا ، وكان لا يهتم كثيرا بزملائه ، ولا يتحمل أي قيود أو نصيحة عندما تتعارض مع رغباته ، وكان يصبح أحيانا عنيدا باصرار ، وأحيانا ينساق وراء نزواته ، ويبدو أحيانا مترددا ، يرسم خططا كثيرة للمستقبل ، ثم سرعان ما يتخلى عنها ، ليرسم أخرى تبدو له افضل).
♦ خاتمة المقال:
ساكتفي من كتاب كرستين بذلك القدر عائدا الى فكرتنا الاساسية والتي ربما صارت أكثر وضوحا الآن ؛ وهي مدى حرية استجاباتنا التي يمكن بناء عليها أن نطلق صفات ايجابية تفضيلية لشخص دون الآخرين فنعتبره ذكيا او عبقريا او مبدعا. ربما نحن في الواقع نفتقد تماما لتلك السلطة التي نتصورها تجاه ما ننتجه وتجاه ما نتخذه من قرارات. أتذكر أن صديقا مبدعا (بحسب ما كنا نصفه) ، اصيب بمرض ما تناول على اثره بعض العقاقير ، وقد شكا لي بعدها من اضمحلال قدراته الابداعية ، ربما كان هذا هو ما دفعني الى البحث عن هذه النقطة الهامة التي يمكن ان تغير نظرتنا تجاه انفسنا وغرورنا كبشر وتخفف من نرجسيتنا الفردية والجماعية عندما نتحدث عن سيطرتنا الكاملة توهما على مجريات حياتنا. لا تؤثر هذه المسألة شديدة الخطورة فقط على وصفنا للبعض بانهم مبدعين او عباقرة ؛ بل ربما حتى تؤثر في فكرة المسؤولية الأخلاقية والقانونية ، ومن ثم تعيد بعض العلوم الاجتماعية كعلم الاجرام والعقاب فلسفتها تجاه المجرمين ، سواء من حيث التنظيم الموضوعي او تحديد الجرعات العقابية من خلال عملية تفريد العقاب. واذا كنا شديدي التفاؤل فيمكننا ان نتساءل: هل يمكن ان يأتي يوم تتطور فيه مفاهيمنا عن الدماغ بحيث نتمكن من انهاء ما يسمى بالشر او الجريمة.
هل يمكننا ان نصل لما وصل اليه العالم في رواية عالم جديد وشجاع لالدوس هيكسلي.
هذا بالتأكيد يمكن ان يتصل بتساؤلات اخرى تاريخية فلسفية ذات طابع ميتافزيقي لم تجد لها اجابة قاطعة حتى اليوم.
  • Like
التفاعلات: مجد حبيب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى