صلاح نيازي - قراءة في قصيدة قديمة.. مقدمة معلقة زهير بن أبي سُلْمى

دامت حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان أربعين عاماً. وما معلقة زهير بن أبي سُلْمى، إلاّ في مديح الحارث بن عوف وهرم بن سنان (وقيل غيرهما) اللذين سعيا في الصلح بينهما وتحمّلِ ديّات القتلى من القبيلتين.
لا بدّ أيضاً من التعرف على" أمّ أوفى" التي ذكرها الشاعر في الشطر الأول من المعلقة: "أمنْ أمّ أوفى دمنة لم تَكَلّمِ".
أمّ أوفى هي زوجته الأولى، وكانت تسكن في تلك الديار. طلّقها من فرط ما كانت تغار عليه.
ندم على الطلاق. مات كل أولادها الصغار الذين أنجبتهم منه.
تزوج من امرأة ثانية، فأنجبت له ولدين: أحدهما كعب صاحب قصيدة نهج البردة الشهيرة في مدح الرسول: "بانت سعاد فقلبي اليوم متبول".
هل أمّ أوفى، والزوجة الثانية، هما سبب شيوع الثنائيات في القصيدة؟ هل لوفاة أولاده علاقة برقة أشعاره ، حينما يصور الأطلاء وهي تسعى لرضاعة ضروع امهاتها العِين والأرآم؟ هل باتت أمّ أوفى الخلفية الحية لكل مشاهد المعلقة بحيث بات الماضي أقرب من الحاضر إذا صحّ التعبير.
لكنْ شُدّ ما يُدهش المرء في هذه المعلقة النابغة، التقنيات الحديثة الدقيقة التي وظّفها زهير بن أبي سُلمى، وهو الشاعر الجاهلي،(في مقدمة معلقته نحو أربعة عشر بيتاً)، وكأنّ حبرها لم ينشف بعد ،لولا الأسماء الجغرافية التي لا عهد لنا بها، ولولا بعض الألفاظ العافرة.
أوّل ما يثير الانتباه حتى في قراءة خاطفة، الهدوء الذي يشيع في القصيدة، رغم أنها كُتبتْ أثناء حرب طويلة ضروس. القصيدة هادئة، هدوء شجرة في ريح ساكنة، وكأنها تكتب نفسها بعفوية وسليقة. ما من حزن لاطم أو متأكسد، ما من فرح مبشوش أو منفوش، ما من هياج أو بحيح أو لهاث.
حتى بحر الطويل الذي كُتِبت به القصيدة، يختلف إيقاعا عن بحر الطويل في قصائد مشابهة أخرى، وإن اتفقت تفاعيله:" فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن". من مهارات زهير بن أبي سُلْمى العروضية في هذا الباب، هو أنه ما أنْ تتدفق بين يديه الصور الشعرية، حتى يكبح جماحها، إما بتشبيه، أوجملة اعتراضية، فتبطؤ الحركة، ويعود الإيقاع إلى مجراه الأوّل، هادئاً هدوء يمامة حاضنة في عشّ، وملء حوصلتها الحنان والجوع والصمت، تجري بموسيقاها جريان ينبوع صغير، بلا خرير، أو أجراس متموجة. هل قلتُ يمامة حاضنة؟ حسنٌ. مقدمة المعلقة، أمومة بالمطلق. أنوثة بالمطلق، وليس المعنيّ هنا المرأة. الأفعال، الصفات، الجمادات، الحيوانات، مؤنثة. هل أراد الشاعر أن يقارن الموتَ الذي يخوضه الرجال في حروب داحس والغبراء ، بالأمومة، و من بشائرها بالطبع، الولادة والارتضاع؟
الصمت خصيصة أخرى في هذه المقدمة المرهوبة. مرة واحدة أخبرنا فيها الراوية عن نداء ولكنْ لم نسمعه، مع ذلك لم يكن صوتا بشريّاً. المقدمة بكاملها مكتوبة بالصمت.
أكثر من ذلك ، كيف تسنّى لهذا الشاعر الجاهلي أن يأتي بهذة الحزمة من الألوان الحارة والباردة، وكأنه يكتب بريشة رسام. ابتدأ باللون الأسود، فالرمادي، فالأخضر، فالأبيض، فالأحمر الفاتح، فالأحمر القاني، فالأزرق ، وكلها نابضة ومتحركة ونامية. هل فطرة الشاعر أهمّ من ثقافته؟
تبدأ القصيدة، كما جرت عليه العادة في الشعر الطللي، بالوقوف على الدمن:
1 - أمِنْ أُمِّ أوفى دمنةٌ لمْ تَكَلّمِ = بحـومانة الدُّرّاج فالمتثلمِ
2 - ديار لها بالرقمتين، كأنّها = مراجعُ وشمٍ في نواشرِ معصمِ

يقول الأعلم الشمنتري: " هذا الاستفهام توجّعٌ منه، ولم يكن جاهلاً بها".
ويقول الخطيب التبريزي: "أمن دمن" أمّ أوفى دمنة، لأنّ "من" هنا للتبعيض، فأخرج الدمنة من الدمن.

يبدو أن الاستفهام الذي استهلّ به زهير المعلقة، استفهام استنكاري. أهذه حقّاً دمنة أمّ أوفى؟ وكيف أُصدّق؟ كان حائراً لم يتبين المكان إلا قليلاً. من علامات هذا الارتباك حذف دمن أو منازل. فمن ناحية نفسية انحذفت الدمن من الشطر لأنها محذوفة من الأرض أو مطموسة الأثر. ومن ناحية فنّية، انحذفت أيضا لتبدأ القصيدة بأمّ أوفى وهي بيت القصيد. لننظر إلى صيغة : "لم تَكَلّمِ" موسيقياً. إنها اضطرار عروضي ولكنه، لا ريب، سرّع في حيرة الشاعر، فلو قال : " لم تتكلمِ" لبطؤت الصورة وثقلت، وباتت سردية روائية.
مما يستوقفنا في هذا المطلع أيضاً، كلمتان: دمنة ولونها الأسود، وحومانة وهي :" ما غلظ من الأرض".
جعل الشاعر "الدمنه بالحومانة لأنهم كانوا يتخيرون النزول فيما غلظ من الأرض وصلب، ليكونوا بمعزل من السيل، وليمكن حفر النؤي وضرب أوتاد الخباء ونحو ذلك".
السيل هو أوّل الأخطار الكامنة التي تهدد الأمان في هذه القصيدة المتعددة الأصداء. بكلمات أخرى فإن الطبيعة هي أوّل أعداء الإنسان في الصحراء.
لم تبدأ القصيدة باللون الأسود، اعتباطاً، أو مماشاة للواقع وما كان عليه. أفاد السواد هنا في تعتيم المشهد، وبالتالي تكبير حجم الارتباك. ثم إنه حيّ هنا لأنه ينمّ عن قدور و تنعّم وبحبوحة. وعن طريقه بُعِثَ الماضي الذي سيستحيل إلى زمن حاضر.
على الرغم من أنّ "لها" في جملة "ديار لها" في البيت الثاني توحي بأن أمّ أوفى أصبحت بعيدة ، أو أنها ميؤوس منها، إلاّ أنّ الشاعر قرّب الصورة بحذق وحميمية حين شبهها بمراجع وشم في نواشر معصم.("النواشر عصب الذراع" و "المعصم موضع السوار من الذراع: الشمنتري").
هكذا قرّب الشاعر تلك الديار المندرسة زماناً ومكاناً بصورة حافلة بالجمال والإيناق. ذراع امرأة وما أقربه، وعروقه الحافلة بالدورة الدموية الجارية.
الوشم: رمز الجمال، فقد كانت "نساء الجاهلية يتزين به."
الوشم إلى ذلك، بمعنى الخضرة من غرز الإبر. باللون الأخضر المتحرك بدأت اليناعة. وما من عجب إذا ما انتقل الشاعر من هذه الخضرة، إلى خضرة المرعى.
4- بها العِين والأرآمُ يمشين خِلْفةً = وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثمِ
5- وقفتُ بها من بعد عشرين حِجةً = فلأياً عرفتُ الدار بعد توهّمِ
(توهّم : تفرّس، والعِين: بقر الوحش، والأرآم: الظباء الخالصة البياض".
انتقل الشاعر في هذين البيتين من اللون الأخضر في الوشم إلى اللون الأبيض. جعله أكثر حيوية لأنه أضفاه على مخلوقات بيض متحركة آمنة هي الظباء مع خلفية خضراء هي لون المرعى.
يقول الشمنتري في شرح البيت الرابع: والأطلاء جمع طلا وهو ولد البقرة وولد الظبية الصغير... وقوله :
"ينهضن يعني أنهنّ يُنمْنَ أولادهن، إذا أرضعنهنّ ثمّ يرعين، فإذا ظنّتْ أنّ أولادهنّ قد أنفدن ما في أجوافهنّ من اللبن، صوّتْنَ بأولادهنّ، فينهضن من مجاثمهنّ للأصوات، ليرضعن."
هكذا تكتمل الأمومة بدرّ الحليب. هكذا تكتمل الطفولة بالرضاعة. هكذا تكتمل الحياة بالحنان.
هل كان العقل الباطن يرفد الشاعر بهذا الإكسير من الحب، ليكون النقيض لصورة الحرب حيث النداء فيها دعوة للنزف، وحيث الرايات تتناحر وتتلطخ جراحاً ودماً؟
بعد عشرين عاماً وقف الشاعر على تلك الدمن، ما الذي كان يتوقعه؟ أين كان عنها؟ هل ندم على طلاق أمّ أوفى ؟ كل جريرتها إنها تغار عليه. كل جريرتها أن أولادها يموتون.
5- أثافيّ سُفعاً في مُعَرَّس مِرجلٍ = ونؤياً، كجذم الحوض لم يتثلّم
6- فلما عرفت الدار قلتُ لرَبْعِها = ألا عمْ صباحاً أيها الرّبعُ واسلمِ
تعرف أوّل ما تعرف في تلك الدمنة، على حجارة القدر السوداء (الأثفية السافعة)،في موضع المرجل (المعرس)، تعرّف على الحاجز (النؤي)حول البناء لصد السيل. ذهب أعلاه ولم يتثلم ما بقي منه.
حينما تيقن الشاعر من الربع، حيّاه :"ألا عمْ صباحاً" داعياً له بالسلامة. ( ذكر الشاعر الصباح لأن الغارات والكرائه تقع صباحاً). لا يفوتنا أنّ "السُّفْع : السود تخالطها حمرة، وكذلك لون الأثافي".
7- تبصّر خليلي هل ترى من ضعائنٍ = تحمّلْن بالعلياء من فوق جُرْثُمِ
8- علوْنَ بأنماطٍ عتاقٍ وكِلةٍ = وِرادِ حواشيها مشاكهةِ الدم
يبدو أن الشاعر غمرته العواطف، فلم يعُدْ يطيق، فاستعان بخليل ليؤكد له ما يرى. هل يرى النساء (الضعائن) وقد رحلْنَ (تحمّلن) ببلد العلياء فوق ماء بني أسد (جُرْثُم). هل كان يتحدّث إلى نفسه؟
كانت النساء قد رفعن الأنماط والكلل على الإبل العتاق، وكانت حواشيها حُمْراً (وهذا معنى الوراد) خالصة شبيهة بالدم.
(قراءة التبريزي: وِرادِ الحواشي، لونها لون عَنْدَمِ) والعندم : ثمر أحمر، وهو ما يتناسب مع المرعى، وحبّ الفنا في البيت الثالث عشر. ولكنْ ضعف التركيب "لونها لون عندم" لا ينسجم وأسلوب زهير لذا فضلت مشاكهة الدم رغم أنه تشبيه غير موفق.)
المهم هو اللون الأحمر الذي ينم عن الرحيل أو يترافق معه. كان اللون الأحمر مفروشاً على الأرض في بداية مقدمة المعلقة، وقد دلّ على بحبوحة عيش. أما الآن فقد وضعه الشاعر فوق النوق وحول النساء فأصبح موكباً أحمر جليلاً عالياً ترنو إليه الأنظار، على خلفية رمادية هي رمادية السحر.
9- وفيهنّ ملهىً للصديق ومنظرٌ = أنيقٌ لعين الناظر المتوسّمِ
10- بكرْنَ بكوراً واستحرن بسُحْرةٍ = فهنّ لوادي الرَّس كاليد للفمِ
الصديق بمعنى العاشق.
لم يكن رحيل النسوة فاجعاً كما يبدو، بقدر ما كان جميلاً. ما من عيون ذارفة، ولا قلوب واجفة.
همّهنَ وادي البئر (الرَّس)، ولا يخطئن الطريق، كما لا تخطِئ اليدُ، الفمَ.
لم يذكر الشاعر الماء من قبل إلاّ هنا، ولكن على صورة بئر، أي أنّ الماء لا يرى، وهو ما يتساوق مع النساء المستورات في الكلل.
11- جعلْنَ القَنان عن يمينٍ وحَزْنَهُ = ومَنْ بالقَنان من مُحِلٍّ ومُحْرِمِ
12- ظهرْنَ من السّوُبان ثمّ جزعْنَهُ = على كلّ قينيّ قشيب مفأّمِ
تُرى هل كان راوية القصيدة يتابع موكب القافلة، أم أنه كان يقف فوق تلة عالية يراقبها وهي تجتاز وادي السوبان وهن على رحال يمنية ( قينية)، جديدة زيدت فيها بنيقتان (مفأّمة) لتتسع.
كان جبل القَنان إلى يمينهنّ، وفيه عدوّ لا يحفظ عهداً ولا ذمّة، وفيه صديق له حرمة وذمّة.
13- كأنّ فُتات العِهْنِ في كلّ منزل = نزلن به حب الفنا، لم يحطّمِ
14- فلمّا وردن الماء زرقاً جِمامه = وضعن عصيّ الحاضر المتخيّمِ
الحاضر:الذين حضروا الماء وأقاموا عليه، ونصبوا خيمهم.
كنّى الشاعر عن طول السفر بتفتت العهن (وهو الصوف المصبوغ هنا) الذي كان أشبه ما يكون بحب الفنا (والفنا: شجر له حبٌّ أحمر). جاء في قاموس لسان العرب: "الفنا مقصور، الواحدة فناة: عنب الثعلب، ويقال نبت آخر... يتخذ منه قراريط يوزن بها، كل حبة قيراط، وقيل يتخذ منه القلائد..." شبّه ما تفتت من العهن الذي علق بالهودج وزّيِّن به، إذا نزلن في منزل، بحب الفنا. وقوله لم يحطّم أراد "إذا كُسِرَ، ظهر لون غير الحمرة، وإنما تشتدّ حمرته ما دام صحيحاً."
من نافلة القول انّ اللون الأحمر هو السائد في هذه المقدمة.
في البيت الرابع عشر يظهر الماء مكشوفاً لأوّل مرّة، ومعه يظهر اللون الأزرق. زرقته تنمّ عن جماليته لا ريب. زرقة ناجمة عن صفائه وعن أنّه لم يوردْ من قبل. "والجمام ما اجتمع من الماء وكثر".
بهذه المقدمة المدهشة التي تمجد الحياة والأمومة والطفولة، إنما كان الشاعر وكأنّه يمهّد في معلقته لتمجيد سعي الحارث بن عوف وهرم بن سنان (وقيل غيرهما ) اللذين سعيا أوَلاَ للصلح بين عبس وذبيان وتحمّل دياتهم، بعد أن تبزّل الدم، وثانياً لإعطاء صورة مناقضة للحرب. ربما لهذا السبب كانت الأنوثة كليةً في المقدمة لأن الحرب عادة تقتصر كليةً على الرجال، وعلى لعبهم بالسيوف.
يمكن قراءة مقدمة المعلقة فنيّاً كذلك. إنها رحلة من اللون الأسود والدمن المتعفرة الجافة في البداية، إلى اللون الأزرق والماء الصافي والخيم الخافقة بشؤون الحياة.
كذا الحرب فناء دائماً، والصلح بصيص حياة من نوعٍ ما.



*اعتمدتُ في هذه الانطباعات على شروح الأعلم الشمنتري، والخطيب التبريزي، والزوزني، ولم أُعْنَ بالتفاضل بين القراءات لأنّه لم يكنْ من هموم هذه المقالة، التحقيق في النصوص، وأيّهما أكثر صواباً.


صلاح نيازي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى