خيري عبد الجواد - الحــاوي.. قصة قصيرة

لأن الجوع كافر" فقد مضغنا العلقم وكان حلوَ الطعم فأكلنا حتى نزفت أحشاؤنا ديدانا زرقاء.
ولأن الفقر نعمة كما قال أولو الأمر منا، فقد حمدنا الله كثيرًا، وقبَّلنا أكفَّنا عرفانًا، ولأن المرض يُذهب السيئات، فقد طلبنا المزيد حتى نضمن الجنة.
ولأن الصبر مفتاح الفرج، فقد صبرنا ورفعنا أكفنا بالدعاء عسى أن يستجيب الله فيأخذ كل منا مفتاحه بعد طول صبر.
ولأن حضارتنا تمتد في أغوار الزمن سبعة آلاف عام فقد جرينا خلف الأهرامات، فحملناها على أكتافنا فضحك العالم، وهذا بالطبع جعلنا سعداء لإعجاب العالم بحضارتنا.
ونحن بالطبع نعرف قيمة حورس فقد بعناه بجنيهات كثيرة وسكتت بطوننا.
(1)
عندما دخل الحاوي قريتنا لأول مرة، والتفَّ حوله الناس، قال لنا: أستطيع أن أُخرج لكم من البيضة بقرة "عُشر".
قلنا: وهل تستطيع أن تخرج لنا خبزا فنحن جوعى.
قال: أستطيع أن أجعلكم أغنياء.
فصفقنا له كثيرًا، وانتظرنا خروج البقرة من البيضة، وانتظرنا أن تمتلئ بطوننا ولكننا نمنا ونحن نصفق وننتظر، وعندما صحونا نظرنا لأنفسنا واندهشنا، فقد وجدنا أننا عرايا، ومشى الحاوي.
(2)
قلنا: إذا جاء مرة ثانية فلن نجعله يخرج من قريتنا حيا، وسنأخذ البيضة تتمخض بقرة وخبزًا. لكن جاء الحاوي يحمل عصا في يده.
قال: أستطيع تحويل التراب إلى ذهب بهذه العصا.
تجمَّعنا حوله، قلنا: لنرى كيف تستطيع التراب ذهبًا.
قال: فلتصفقوا لي كثيرا وتباركوني وتصمتوا، فأنا أستطيع تحويل التراب ذهبا.
قلنا: لنصمت، فالصمت من ذهب، وهذه حكمة بليغة نعرفها جيدا.
وصفقنا له، وباركناه، وقلنا نشتري بالذهب قصورًا، ونشتري ملابس جديدة، تذكرنا أننا جوعى فقلنا نشتري خبزا، وانتظرنا ونحن ننظر في التراب الذي سيكون ذهبا، ولكننا نمنا، وعندما صحونا، نظر كلٌّ منا إلى الآخرين، ولم نجد أذرعنا فقد أخذها الحاوي وهرب.
(3)
ولأننا أصبحنا بلا أذرع فقد أقسمنا إذا جاء الحاوي أن نقطع ذراعيه وقدميه أيضا، ولكن جاء الحاوي يحمل زجاجة.
قلنا: سوف نقتلك أيها الحاوي.
قال: لن تستطيعوا أيها الناس الطيبون، فأنا أحمل لكم إكسير الحياة.
قلنا: وما إكسير الحياة يا حاوي!!
قال: لن تموتوا أبدا ستكونوا خالدين.
قلنا: ولكننا جوعى.
قال: لن تحسوا بالجوع.
فتجمعنا حوله وصفقنا له، وباركناه، وقلنا لن نجوع بعد الآن، ولن نموت، سنكون خالدين، وانتظرنا أن يخرج إكسير الحياة، ولكننا نمنا، وعندما صحونا أصبحنا بلا سيقان، فقد أخذها الحاوي وهرب.
(4)
قلنا: أصبحنا عرايا، فقدنا أذرعنا، هرب الحاوي بسيقاننا، ونحن جوعى، ماذا تبقى لنا!!
نظرنا إلى أنفسنا فوجدنا أن عقولنا مازالت تعمل في رؤوسنا، نسي أن يأخذها الحاوي، قلنا لن يجيء بعد اليوم، لأنه نسي عقولنا، سوف يخاف أن نبطش به.
في اليوم التالي جاء الحاوي يحمل آلة عجيبة بين يديه، قال: إنها سحرية.
قلنا: وما هي؟
قال: يستطيع كل منكم أن يرى نفسه فيها.
رأينا أُناسًا يتحركون، كانت الرؤوس منكسة، وسمعنا أُناسًا يتكلمون.
قلنا: إنك حقًا ساحر أيها الحاوي، وكنا نريد قتلك.
قال: ما جئتُ بهذه الهدية إلا لأنكم طيبون.
فلنا فلندعُ له على حُسن ظنه بنا، ونشكر الله على نعمته التي اختصنا بنا دون القرى، ولكننا جوعى بطوننا خاوية، أمعاؤنا كادت تذوب.
قال: ستنسون كل هذا الآن، لن تحسوا بالجوع، سيبني كل منكم قصرًا، وستخرج بقرة من البيضة، سيتحول التراب إلى ذهب، فقط اجلسوا لتشاهدوا.
قلنا: لنكن عبادا شاكرين فقد أنعم الله علينا.
وعوَّض صبرنا خيرا بهذا الرجل الصالح.
في الصباح، نظرنا فلم نجد الحاوي، ونظرنا فلم نجد آلاته السحرية، عندئذ شعرنا أننا جوعى لأننا لم نكن قد نمنا بعد.



* قصة الحاوي – المجموعة القصصية حكايات الديب رماح – الطبعة الأولى 1987م -الطبعة الثانية 1995م – مركز الحضارة العربية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى