كتاب كامل جورج سلوم - مسرحية لم تكتمل بعد ...نص من كتاب (الانفصال عن الواقع )

لا أريد استكمال التمثيل في هذه المسرحية .. ولو أسندتم إليّ دور البطل !.

أنا أعترض على النص الذي تبدّل عدّة مرات مذ وقّعْنا عقدَ العمل ..

كان النصُّ الذي وافقنا وتدرّبنا عليه منبثقاً من إرادة الجماهير فيتفاعلون مع الممثلين .. وينزل المسرح إلى الشارع أو يصعد الشارع إلى المسرح ...فالمسرح نبض الشارع .. والمسرحية ما هي إلا مجموعة مشاهد وفصول مقتطعة ومجتزأة ومفصّلة من الواقع بكل مفاصله .. هكذا علّمْتُمُونا ... وتصبح المسرحية حدثاً حقيقياً .. وواقعياً

في كل يومٍ تشطبونَ صفحاتٍ وحوارات .. بذريعة الظّروف التي تتغيّر ..والحيثيّات التي تتبدّل ..وذلك يقتضي التعديل ..فيتوجّب علينا أن ننسى ما حفِظنا ..ويأتينا الملقّن بكلماتٍ وأحداث ما أنزل الله بها من سلطان ..لقد تحطّم هيكل المسرحية وفقدت بنيانها المُتكامل ..وتداخلت فصولها ومشاهدها ..ضِعنا في ضَياعكم وسيضيع جمهورنا معنا ..هل هذا هو المطلوب ؟..

هل المطلوب أن ننفصل عن واقعنا ؟؟؟



كانت المسرحية مُستقاة من الواقع الحيّ ..خلفيتها حارتنا ...ولباسُها لباسنا ..وكلامُها لهجتنا المَحكيّة ..لماذا أصبحت خلفيتها صحراء عربية ؟...ولهجتها بدوية !..لماذا استبدلتم لباسي بعباءة ووضعتم على رأسي شماغاً وغترة وعقالاً ؟ ..

ألا يعتبر ذلك انفصال مسرحي عن الواقع ؟!



كانت المبرّرات والمسوّغات ... إرضاء السّوق ..فالمسرحية قد تجولُ عربياً..

ثم فرضتم اللغة الفُصحى ..وانقلبت الأحداث تاريخية مشتقّة من زمن الأمجاد التي لا خلاف عليها ..فأصبحت الخلفية بغدادية ..واللباس عمامة وكوفية ..وبعض الفصول جاءت أندلسية ..على احتمال أن تصل المسرحية من الخليج إلى المحيط ..وهكذا يداعبون ويغازلون الحلم العربيّ الذي يقتضي منا النوم طويلاً ..وطويلاً جداً لنحلم ..ونحتلم ..ونستحلم !!

وتفسير المنامات والأحلام والإحتلامات العربية مختلفٌ عليه

وهنا استمرّ الانفصال ..وغدا فصاماً ..فالمطلوب أن نعيش في الماضي وللماضي فقط !..والماضي كذوب ..والحاضرهروب ..والمستقبل غير محسوب .. وتبّت يداكم يا أبناء أبي لهب

ثم تغيّرت الحيثيات أيضاً ..بإدخال فصلٍ للرّبيع العربي ..يقتضي المشهد الأول منه أن يثور الجمهور على الممثلين ..ويطالبوا بإسقاط المسرحية كلّها ...فأصبحت الخلفية فوضى خلاقة ..واستنبتوا للممثلين ذقوناً ..ومنعوا الممثلات من الظهور إلا بارتداء النقاب ...فلم تعد الممثلة معروفة إلا من صوتها ..ثم حذفوا الحوار مع النساء باعتبار صوت المرأة إحدى العورات المتّفق عليها ...فأصبحنَ يمثلن بالإشارات !..وبالتالي تراجعت أجور بطلة المسرحية ..فلا نص تحفظه ولا تبديل ملابس ..ولا مصاريف للتبرّج والزينة على المسرح ..وغدت أجرتها نصف أجرة البطل شرعاً ..

أحسنتم ..فقد غدا انفصالنا شرعياً !

نحن الممثلون تعبنا من حفظ الأدوار ...لماذا لا يبدأ العرض وننتهي من هذه المسرحية ...وننطلق إلى عملٍ تمثيليّ آخر أكثر قبولاً وأقل تبدلاً وتخبّطاً ...يا سيدي دعونا نمثل مسرحية للأطفال يكون أبطالَها (أرنبٌ وسلحفاة )...

أو مسرحية (كليلة ودمنة )...أبطالها حيوانات ولا حيف عليهم مهما قالوا ..

أو مسرحية ( ليلى والذئب) ...ولكن ليلى عورة ولا يمكنها الظهور .

طيّب..ما رأيكم بمسرحية ( علي بابا والأربعون حرامي)؟..هذه مسرحية يمكن عرضها وكلّ ممثليها وممثلينها ومن تمثلهم ومن تمثل بهم ومن تمتثل لأمرهم .. رجال في رجال .

قال المخرج :

-يجب أن ننتظر فالحيثيات تتبدّل ..وقد سمعت أنهم طلبوا من المؤلف فصلاً باللغة الانكليزية ..فنحن في عصر العولمة ...ويجب أن تفرحوا لذلك ..أنتم ممثلون مغمورون وشاءت ظروفكم أن تنتقلوا فوراً إلى العالمية ..وأجوركم التي ستتقاضونها بالليرات الخجولة ستنقلب إلى العملة الصعبة ..انتظروا وسترون ...ربما ستتفرّج عليكم أمم الأرض ..(وتصبحون عبرة لمن اعتبر) !!!...تدرّبوا قليلاً على اللغات الأجنبية في فترة الانتظار ريثما يأتينا النص المكتوب .

قلت :

-يا سيدي ..أنا باعتباري البطل سأتكلّم نيابة عن الجميع ..هَرِمْنا جميعاً ونحن ننتظر النص الجديد ..البطلة الحسناء أصبحت عجوزاً شمطاء ..وأنا لم أعُد أقوى على الانتصاب والشموخ لساعاتٍ طوال على خشبة المسرح ..فقدتُ قوة صوتي وفقدت نبرة الاعتداد بنفسي كبطل..صرت ُ محنيّ العنق ..محدودب الظهر ومكسور الوجدان ..كنت أمثل بدون مكبّراتٍ للصوت ..الآن أنا بحاجة لزرع بطارية فوق مؤخّرتي ..كي يبقى صوتي مسموعاً..



وأخيراً وليس آخراً...جاءت التعليمات بأنّ المسرحية أصبحت نوعاً من (الفانتازيا ) ..معالجة إبداعية للواقع المُعاش بطرقٍ غير مألوفة ..إسقاط الأسطورة والخيال ضمن النص ..انفصال كامل عن الواقع واللجوء إلى السِّحر والخرافة لحلّ المشكلات ...لباس الممثلات لا ينتمي لأي زمن ..وبالتالي سيمرّ العرض هذه المرّة بدون مشاكل .

قلت :

-ولكن أين الطابَع العربي في هذا العمل ؟..وكيف سننطلق به إلى العالمية التي وعدتم بها؟..

قال المُخرج :

-لا أدري ..لقد استغنوا عن خدماتي ..إذ لا داعي للمخرج في المسرحيات الحديثة .

-هل تعرف عنوان المسرحية؟

- سيكون عنوانها (ألف ليلى وليلة )!..الأولى مقصورة والثانية مربوطة... هكذا كُتبَتْ من المصدر ..ولا أدري لماذا ؟!.. قد يكون خطأ في الطباعة .. لا يمكن مناقشتهم ...لأن المؤلفين أجانب كما تعلم .

قلت :

-والنص ؟..أين النص المكتوب لنبدأ بالقراءة وحفظ الأدوار ؟

-هههه ..لا داعي للعذاب والإجهاد ..ألم تقلْ قبل قليل بأنكَ هرمت واستُنزفَت قواك وأنت تنتظر ؟..

المسرحية الحالية جاءت على طريقة (خيال الظل) أو (كراكوز وعيواظ)..أنت فقط تستسلم على المسرح وتسترخي ..يربطون يديك ورجليك ولسانك بخيوط دقيقة إلى الجهازِ الآليّ المحرّك ...وهو يُحرّكك ..لا داعي حتى لصوتك ولا لحوارك ولا داعي لإظهار انفعالاتك أثناء التمثيل ..فالصوت يخرج من الجهاز باللغة التي يريدون ..ستستمتع بصوتك الذي يختارونه ..وستَسْعد بالحوارات التي ستقولها ولا تعرف عنها شيئاً ..ولولا أنك مربوط اليدين ستصفّق لنفسك طرباً ...

قلت وقد سيطر عليّ الذهول والاستثارة :

-بالله عليك يا صديقي المخرج المتقاعد ..ماذا عن الممثلات ؟..ماذا سأقول لصديقتي البطلة التي تنتظر أيضاً ؟..لباسها ..زينتها ..شعرها ؟

-قل لها أن تستسلم على المسرح وتسترخي وتستمتع فقط ..وستمرّ المسرحية بشكل انسيابيّ وسَلِسْ..قل لها ..لا تجتهدي فالاجتهاد على المسرح الحالي كفر وأي كفر ..لا تظهري عواطفاً ولا انفعالات إبداعية ..لا تحاولي مقاومة الخيوط التي رُبطت إليكِ ..فتبدو حركاتكِ نشازاً..الجهاز المحرّك مُبرمَج آليّاً ..يحرّكها ..يقوّلها ..يعرّيها ..يُبكيها .. يستخرج دموعَها عنوةً ..ويمسحها ..فقط مطلوبٌ منها الحضور وقت العرض والاستسلام للأجهزة .

قلت :

-أنا والله مشتاق لحضورهذه المسرحية العصرية..بقدر اشتياقي للعمل بها ..متى سيبدأ العرض وتُرفع الستارة ؟

أدار المخرج ظهره ..وطأطأ رأسه وسدّ أذنيه ..إذ لا جواب لديه .!!!!!!

فالمسرحية مستمرة –على ما يبدو- ولكنها لم تكتمل بعد .

د. جورج سلوم

*************************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى