محمد فوزي سعيد - قلب ماريا..

أعشق ماريا ورائحتها .. لا أستطيع الحياة بدونها

أعشق الحياة معها في هدوء وسكينة واستمتاع بكل دقيقة

أحب أن أغوص في أحضانها،إنها الشيء الوحيد المريح في هذا الكوكب السخيف المملوء بالألم والإحباطات

ترابها الزعفران يملأ أنفاسي وأشعر بأنني لا أستطيع الابتعاد عنها لحظة واحدة ، كل ما أهتم به السير في الطريق من منزلي بسيدي بشر قبلي وحتى الكورنيش وأنا أحمل مقعدي الصغير والثلاجة والسنارة و( ترمس ) الشاي وبعض المأكولات وعدة كتب تكفي فترة جلوسي الطويل للصيد على الكورنيش أو ربما أتركها وأتأمل الحياة من حولي وأحاول جاهدا أن أتصالح مع ذاتي غير عابئا بكل ما يدور على شواطئ ماريا وشوارعها

كعادتي أقفز من فوق سور الكورنيش وأتجه إلى الصخور الموضوعة لمنع تآكل الشاطئ وأضع مقعدي وما أحمله وألقي بخيط السنارة في المياه وأستلقي على المقعد غير عابئا بما يحدث أو بالأسماك التي قد تأكل الطعم أو تسحب السنارة وتجري لا أهتم سوا بالسماء والماء والسلام النفسي والذي أحظى به فقط في هذه الأثناء

كأوراق الشجر المتساقطة يجلسون جواري … أطفال شوارع أو تائهون أو متسربون أو هاربون لا أهتم باسمهم أو وصفهم ولكن أشعر بغضة في حلقي بسبب هذه المخلوقات البريئة الملائكية التي تعيش وتموت في الشارع ونحن لا نحرك ساكنا ولا أكذب حين أقول أنني لا أقوم بأي شيء نحوهم سوى معاملتهم بلطف أحيانا

( فاين ) أحد أطفال الشارع يجلس ضمن هذه الأطفال في هذه المنطقة ويعرفني جيدا حينما يراني يجري نحوي ويهتف ( أستاذ حسين) ويحاول مساعدتي وأنا شارد في حياتي ويجلس معي يأخذ كوبا من الشاي أو جزء من السندوتش وربما يأخذ سمكة من الذي أصطاده ويجري نحو المجهول وبالمناسبة اسمه فاين لأنه يبيع (المناديل ) في اشارات المرور في هذه المنطقة

في البداية كان يتجاذب أطراف الحديث معي ويحكي لي كيف نمى في الحياة وهو لا يعرف له اسم أو عائلة بل يعرف الملجأ الذي هرب منه في طنطا وجاء إلى ( ماريا ) ولم أهتم وأحيانا كنت أطلب منه الصمت فبدأ يفهم شخصيتي وحينما يجلس معي يتقمص شخصيتي فيشرب الشاي ويأكل معي وهو ينظر للبحر والسماء ويحرك شفتاه ويشوح بيديه في الهواء مثلي ربما هو الوحيد الذي لم يشعر أنني مجنون ومن فرط عيشه مع الوافدين إلى الإسكندرية تعلم أشياء كثيرة متناقضة ما بين الأغاني النوبية ورقص ( الراب ) الذي كان مبدعا فيه لدرجة أنني تخيلت أن أبوه أجنبي … فكان يجذب الوافدين والمارة فيبدأ في تقليد رقصات مايكل جاكسون وبإتقان فينال إعجاب الجميع وربما يأخذ منهم في النهاية بعض الملاليم يعيش بها

ذات يوم وجد فاين بعض الشباب فتحوا أبواب سيارتهم ورفعوا صوت الأغاني الغربية واندمجوا في رقص الراب فانخرط فاين وسطهم وأخذ يرقص والتف حولهم المارة … أحد الشباب حاول منافسة فاين في رقص الراب فاكتسحه فاين ورفع يده ببعض الإشارات الكبيرة التي لا يفهمها سوى الشباب والرجال الكبار فضحك الجميع على الشاب والذي اقترب من فاين وصفعه عدة صفعات سمعت صوتها وأنا جالس على الكورنيش دون أن يتحرك أحد لينقذ الطفل ولأول مرة في حياتي وربما من المرات القليلة في حياتي التي اتخذت فيها موقفا تحركت ووقفت أمام الشاب ووضعت فاين في ظهري وهو يبكي بحرقة بصوت مرتفع فنظر الشاب لعيني التي أطلقت كراهية وغضب كبيرين فتحرك راحلا واصطحبت فاين للشاطئ ليجلس جواري وأعطيته كوبا كاملا من الشاي وسندوتش جلس يأكله والدموع في عينه ولأول مرة يجلس شاردا ولا يتحدث … راقبته فوجدت نظرات إصرار وتحدي وانتقام مرعبة تنطلق من عينيه حاولت مداعبته لم يعبأ بي ثم رحل … للأبد

لم أحسب كم مر من عمري لأنني لا أهتم به ربما مر عقد أو عقد ونصف العقد من الزمان كل ما أراه أن شبابي انهار وظهرت ملامح رجل في نهايات العقد الرابع من العمر ولأني أعلم أن أطفال الشوارع مثل القطط تدور وتلف من مكان لأخر دون قيد أو شرط لم أبحث عن فاين وجاء الكثير من الأطفال المتساقطة واختفت ولم أهتم بهم فهي ظاهرة ممتدة لن تنتهي قتلهم أهلهم بغير حق

وبعد هذه السنوات توقفت سيارة فارهة على الكورنيش وكعادتي لم أهتم وهبط قائدها فالتف حوله أطفال الشارع طالبين الأموال فدفعهم الرجل بعنف وقسوة بالغين فتحركت من مكاني في غضب وكأن هذه العاصفة من اللاقلب واللارحمة هي الشيء الوحيد الذي يحرك قلاع قلبي المتحجر وأسرعت نحوه أجذبه من يده بعيدا عن الأطفال وهو يضربهم بلا مبرر ونظرت في عينه وشعرت بالصواعق تجتاح عقلي … إنه هو فاين الطفل البرئ الذي لم يعد بريئا … تبدلت ملامحه إلى شيطان يسير على الأرض نظرت له مصدوما وتأملني كثيرا ثم قال في حب ( أستاذ حسين ) نظرت له طويلا فحرك كتفيه في حركة استعراضية لأراه في ثوبه الجديد فنظرت له نظرة كلها ألم وعلم أنني قرأت حياته السابقة فتلفت حوله ووضع رأسه في الأرض … عدت إلى الشاطئ فجرى خلفي كما كان يفعل وشعرت لأول مرة به وكأنه كان يتمنى أن يظل كما هو فاين البرئ ولا يتورط فيما فعله … جلست على الشاطئ وأنا أتظاهر بالقراءة فأمسك بكوب الشاي المنتهي كعادته وأخذ يرشف منه في لذة وشرد في السماء وأخذ يحدث نفسه مثلما كان يفعل قديما وشعرت به يوبخ نفسه … بكيت من داخلي دون دموع وقلت دون أن أنطق نحن السبب يا (فاين) نحن من تركناك تموت وتصبح شيطانا … شعرت بقلب ماريا يتمزق من فرط الألم والحزن على أحد فلذات أكبادها الذي انهار وربما قضى على أجيال عديدة معه …


محمد فوزي سعيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى