مزوار محمد سعيد - نور من منابع الأوهام

يرى ابن خلدون عبد الرحمان بأن المغلوب مولع بتقليد الغالب، وهو أمر طبيعيّ بالنسبة إليه، حيث نجد أقواما بأكملها اليوم ترفع لواء التقليد هذا، ومن زوايا مختلفة، في اللباس، المأكل والمشرب، المظاهر الثقافية والاجتماعية، ولا عيب في هذا مطلقا، بل على العكس تماما، حتى وإن وصل بالبعض إلى الانسلاخ بالكامل من ثقافته الأم، وخضوعه بشكل يكاد يكون مطلقا في ثقافة غيره.

كما أننا نجد فيلسوف الجزائر المطرود "مالك بن نبي" يخضع الشعوب لمبدأ "القابلية للاستعمار"، ومن معاني هذه الفكرة، أن الاستعمار يسكن أفئدة من يستعمرهم قبل سلبهم ثرواتهم المادية والبشرية، ليستكين بالنسبة إليهم في خانة: القدوة، لهذا تراهم يحبونه، ويقلدون طريقة معيشه، وأساليب عيشه، وفي أحيان كثيرة تجدهم يدافعون عن قيم ومظاهر الاستعمار ذاته الثقافية والاعتقادية.

من مثال عبد الرحمان ابن خلدون ومالك بن نبي، يمكننا التسليم بأن الشعوب العربية اليوم (القرن الواحد والعشرين) هي شعوب مولعة بتقليد بل وبالذوبان في أسلوب الغرب المعيشي بشكل مخيف، فترى العربي يقوم بتصرفات حتى أنها في أحيان كثيرة تكون غير مفهومة ولا تفسير لها، لكنه يقوم بها من باب أن فرنسيا أو اسبانيا قام بها، يقوم بها بشكل يومي على سبيل المثال، وهنا مربط الفرس.

أثناء رحلتي القصيرة لإحدى البلدان العربية الشقيقة، وبالضبط عند زيارتي لإحدى مدنها السياحية، شاركتُ في رحلة بحرية على قارب مخصص للسياح، هو على شكل قارب للقراصنة، مع عروض تمثيلية لطاقمه، وبينما أنا على ذاك القارب، رحتُ أتجول بين أجنحته المختلفة، ملتقطا بعض الصور بعدستي الخاصة، حتى وصلتُ إلى قمرة القيادة، وهناك وجدتُ فتاتان في مقتبل العمر قد سبقتاني إلى ذاك المكان لأخذ صور أيضا، اقتربتُ منهن بلطف من أجل أن أطلب منهن أخذ صور لي، وكنا لطيفات للغاية معي، حتى أنهن لم يفارقاني منذ تلك اللحظة وطول اليوم.

السر وراء ذاك اللطف، هو شكلي الذي كان غربيا بامتياز مع قبعة على الطريقة الايطالية، ولكنتي الانجليزية الغريبة، فاعتقدن أنهن مع شاب انجليزي قصد البلاد العربية سائحا، قد يتحول لمشروع زواج، والزواج يتحول لمشروع تأشيرة نحو الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وأخذن يتسابقن في خدمتي وربط وصال الود معي بشكل محموم في بعض اللحظات، فلا علاقة الأخوة التي تجمعهما حالت بينهما وبين هذا التنافس، ولا غرابة شكلي وقبح منظري جعلاهن يتراجعان عما هما فيه، ولكم كانت دهشتي كبيرة، عندما عرفاني على العائلة المرافقة لهن، أبوهن وأمهن، رغم أنهن يعتبرن من عائلة محافظة.

إحداهما التقطت صورا فوتوغرافية، الأخرى اهتمت بمعرفة وضعي الاجتماعي والثقافي وتوجهاتي الفكرية، حتى أنهن أبدين رغبة في عناقي على فترات إن لم أقل أمورا أخرى، وكم كانت دهشتي عميقة عندما جلس الأب يراقب بناته وهن يعرضن أنفسهن لمنافسة شرسة بينهن للفوز بقلب الرجل الانجليزي الذي لا يعرف عنه سوى أنه يتحدث الانجليزية، كما أن ابتسامات الأم إلي لطالما حملت لي رسائل الطمع والحيلة وهي تجلس بدورها تراقب بناتها ينسجن خيوط مؤامرة واضحة المعالم للظفر بتأشيرة الدخول للبلاد الغربية.

من أجل السير على التراب الأوربي أو الأميركي يقدم العربي بناته قرابين لذلك، لا يهم الثمن، بل ما يهم هو تذوق الاسلوب الغربي من العمق، وهذا مؤسف ومحزن في الآن ذاته.

مرت الساعات وأنا "أمثل" دور الشاب الإنجليزي السائح، بعدها انتفضت نخوة بداخلي من شدة هول تلك الصدمة الناتجة عن ذوبان وتلاشي كل ما تعلمناه عن الثقافة الجزائرية من أجل اقتناص مفتاح لإحدى الأبواب الأوربية، وبدون مقدمات، عدتُ إلى جزائريتي متحدثا بلهجتي المحلية الواضحة، صدمت الفتاتان، وهرولتا نحو أبيهما وأمهما غير مصدقتان لما يسمعان، فحلم زيارة والإقامة في لندن قد تبخر، والشاب الانجليزي لم يكن كذلك سوى في خيالهن، بل تحول في ضربة واقع قاسية إلى أصله، لتخرج صورته الجزائرية بين الأمواج التي كانت ترتطم بقارب القراصنة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى