محمد فتحي المقداد - إضاءة على رواية (المرفأ البعيد للروائي حنّا مينه)

رواية المرفأ البعيد تصنّف ضمن المدرسة الواقعيّة في الأدب الروائيّ، فتعطي صورة حقيقية لواقع حياة المدُن البحريّة، والمهن البحريّة كالصيّادين والبحّارة، وطواقم العمل في الميناء، وعلى متن البواخر، والمهمات المنوطة بكلّ فرد، وعليه القيام بواجبه على أتمّ وجه حتّى تتكامل المُهمّة بنجاح، فطبيعة البحر تفرض عليهم التعاون؛ لتفادي الكثير من المخاطر، والمشاكل الطارئة والمستعجلة.
متعة القراءة لروايات (حنّا مينه)، تأتي من قدرته العجيبة على الوصف الدقيق، ونقله بصورة سلسة قريبة من فهم القارئ العاديّ والمثقّف. كما أنّ رسالة الكاتب واضحة تصل بسهولة، ويمكن قراءة ما وراء الكلمات من مَرامٍ، وأهداف مرمّزة على القارئ أن يتلمّسها بحسّه وذوقه الأدبيّ.
وكما يقال: (إن الشّاعر ابن بيئته)، كذلك فإن الروائي (حنّا مينه) ابن بيئته، فهو ابن لواء إسكندرونة السّليب. انتقل مع عائلته إلى مدينة اللاذقيّة على الساحل السوريّ. كتاباته تتجلّى بمتحوراتها حول بيئة البحر. يحكي حياة المدن والقرى المُطلّة على البحر المتوسّط، وحياة أبنائها بشكل مفصّل، وكلّ متعلّقات مهنة البحّارة بتفصيل دقيق، وبذلك يكون قد أثرى الأذهان البعيدة عن هذه البيئة بثقافة معرفيّة جديدة. رواية مثقّفة واعية. أدخل كثيرًا من الكلمات على وزن تفعيلات جديدة على خلاف استخدامها المعروف. وشرح كثيرًا من مصطلحات البحر ومهنة البحّارة.
وبالتوقّف عند رواية (المرفأ البعيد)، نكون أمام عمل روائيّ عظيم، بلغته السلسة بعيدًا عن التعقيد والإغراق في الرمزيّة الغامضة، القارئ هنا لايحتاج لكثير عناء لإدراك رسالة الكاتب.
فرسالته وطنيّة بالدرجة الأولى، التركيز على رموز النضال في مقاومة القوى الاستعماريّة.

الزّمن الروائي:
جاء زمن السّرد الروائي في نهاية فترة الدولة العثمانية، بإشارات أن بعض الشخصيّات ممن قاوموا الأتراك، وكانت فترة بين الحربيْن مليئة بالأحداث في مقاومة الاستعمار الفرنسي بكلّ الأساليب المتاحة، والوصول إلى مرحلة الحكم الوطني بعد جلاء آخر جنديّ فرنسيّ عن سورية 1946م، ومصير المناضلين القدماء بعد عودتهم إلى ديارهم، مثل سعيد، وزميله (سيّد) البحّار المصري، والتّشابه الكبير في مرحلة ما بعد الاستعمار في أنظمة الحكم الدكتاتوريّة التي جاءت أشدّ ظلمًا لشعوبها من الاستعمار نفسه، حسب الرواية. لأن الرواية ناقشت هذا الموضوع، مُفصِحَة عن أنّ الأنظمة الوليدة مشوّهة على شاكلة أسيادها.

الصراع الاجتماعي:

بمهارة سرديّة نقل (حنّا مينه) الواقع المعاشي من المرئي شفاهيًّا إلى عالم المقروء الروائي، فالصراع الاجتماعيّ واضح بدلالاته الطبقيّة، ما بين البرجوازيّة المحليّة المرتبطة بمصالحها، وعندها الغاية تبرّر الوسيلة، فالاهتمام الأوّل لديها جمع الأموال، والإغداق منه على ملذّاتها ورفاهها، على حساب الكادحين.
ملّاكو قوارب الصّيد هم (الرُّيّاس) مفردها (ريّس) تُنطق بلا همزة، فاللّفظ مستخدم كذلك في اللهجة المصريّة بنفس الصيغة. والعمّال الذين يشتغلون على القوارب هم البحّارة، يتمتّعون بخيرة مكتسبة أبًا عن جدّ، ملتزمون بقواعد المهنة من الشرف والأخلاق فيما بينهم في مجال عملهم. والرُّيّاس هم من يحتكرون التشغيل في الميناء، وعلى البحّارة الخضوع لأوامرهم، وفي كثير من الأحوال ما تكون ظالمة وجائرة.

شخصيّات الرواية:
بالطبع في كلّ عمل هناك شخصيّات رئيسيّة وثانوية، فمن الشخصيّات الرئيسية شخصيّة البحّار ●(صالح حزّوم)، منذ بداية الرواية تبيّن أنّه اختفى في البحر بعد محاولاته في إنقاذ من كانوا على متن قارب واجه مصير الغرق، رغم موته واختفائه فقد كانت سيرته حتى نهاية الرواية، وابنه ●البحّار (سعيد)، هو الذي ورث كثيرًا من صفاته والده الرجوليّة بعضلاته وفتوّته، وتعلّم على يديه مهنة البحّار، من غريب المصادفة أن المرأة البغيّ (كاترين) الجميلة، كانت امرأة مزواجة، وتعشق على زوجها، حيين تتّخد لها عشيقًا، وكانت تخون زوجها (الريّس عبدوش) مع سعيد بن صالح حزّوم، وكثيرًا ما كانت تفصح عن حبّها لوالده العشيق، رغم أنّه طردها من القرية لغيرته الشديدة عليها، ومما رأى من ممارساتها الجنسية مع غيره. بعد مقتل عبدوش تزوّجت من (الريّس زيدان) وقتل أيضًا، وبقيت على علاقاتها الشّاذة بخيانات ترضي شبقها المتفجّر.
تعتبر شخصية سعيد حزّوم مركبّة، حمل الكثير من صفات والده الجسميّة، وورث كذلك عشيقتة، وروى حياة والده بالتفصيل الدقيق، والخفايا غير المرئية للعامّة؛ فبطولة الرواية تنقسم فيما بينه وبين والده، تأتي حرفيّة الروائي (حنّا مينة) بتقنيّتها العالية، في استثمار خبرته السرديّة، بخروجه عن المألوف بتكوينه لشخصية صالح حزّوم الكاريزميّة، وأطلق العنان لابنه صالح أن يحكي أمجاد أبيه، وهو الذي عاش حتى نهاية الرواية بجلباب أبيه، بذكريات لم تبرحه في أيّ موقف يحصل معه أو يتعرّض له. فمن المعروف بأنّ من يَمُت تَمُت معه معظم متعلّقاته، بينما صالح عاش بطلًا لرواية المرفأ البعيد. من خلال ابنه.
يقول حنّا مينة: (مع المرأة لا قاعدة ولا معيار، وفي سبيلها، أيّ شيء لا يصير. لقد عشتُ لكي أدرك أنّ البحّار لايخون زميله لأجل ثروة، بينما يخونه بكلّ يسر لأجل امرأة). (المرأة تغيّر، تؤثّر على البحّار، كالرّيح على الشّراع). (إن نساء المرافئ عرضة دائمًا للإغراء، ولإقامة علاقات عابرة). (لكنّها امرأة مرفأ بعد كلّ شيء.. نساء المرافئ تختلف.. بينهمن الجميلات أيضًا، أكثر النّساء خبرة امرأة المرفأ..، نساء المرفأ درجات).
●وأخيرًا لانتقال الحدث الروائي إلى خارج ميناء ومدينة اللاذقية، اقتضى الأمر أن تتزوّج (ريّسًا يونانيًّا) انتقلت معه للعيش في أثيّنا واختفت معه سيرتها مع الخيانات الزوجية. لكنّ سعيد ما يزال يذكرها كلّ حين إلى جانب معشوقته عزيزة.
و في المواقع التي عمل فيها سعيد كان بجانبه رجل راشد عاقل، ففي اللاذقية كان هناك بحّار عجوز، يسترشد سعيد به ويأ،س لرأيه الحصيف الصادر عن خبرة، وأثناء عمله على الباخرة، استشرد بالبحّار الإسكندراني (السيّد)، واسترشد كذلك برأي صديقه (قاسم)، إضافة إلى استرجاع سيرة والدة على مدار مسارات الرواية.

●الشّاب (قاسم) مثقف معروف لدى شباب وعمّال الميناء، هو مثثّف مؤدلج ضمن كوادر الحزب الشيوعي، فهو أمميّ التفكير، يعمل ليل نهار من أجل تفهيم العمّال وتبصرتهم بحقوقهم، ومحاولات جادّة كانت منه في السّباحة ضدّ التيّار، لتأسيس نقابة لعمّال الموانئ، لكنّه في الأخير كانت ضحيّة صراعات مصالح البرجوازية والكتلة الوطنيّة، أثناء مقاومة الفرنسيين، ومثال ذلك ●(الريّس عبدالحميد) الذي كان يميل بتوجهه السياسيّ مع الكتلة الوطنية، والتي كانت تميل بدورها للألمان، وتمنياتهم بالانتصار على فرنسا، على رأي (عدوّ عدوّي، صديقي).
●شخصية (توفيق) صاحب الخمّارة، فقالت الرواية عنه: (حزن الخمّار, كحزن المرأة لايدوم، كلاهما يبحث عن زبون، عن ضحكة، عن نكتة. كلاهما يُبدّل صاحبه كما يُبدّل قميصه، إلى البالوعة بكلّ أحزان الدنيا. لتذهب مع المياه القذرة، مع مجاري المدينة، ولتصبّ في البحر، وهو هذا الواسع، يتقبّل كلّ شيء، ويطهّر كلّ شيء: الحزن، والقذارة، وافتراءات النّاس). بعد موت الريّس عبدالحميد شعر توفيق يالضعف والخذلان؛ نتيجة الفراغ الذي تركه بالحماية والمنعة.
●أما شخصيّة (راغب درويش) فقد جاءت الرواية على ذكره عدة مرّات، على أنّه مهرّب ولصٌّ وقاتل محترف مأجور، يؤجر خدماته لمن يدفع له المال مقابل خدماته. له سمعة سيئة اجتماعيًّا.

شخصيّات الباخرة اليونانيّة (كاسل):
●القبطان (ارتوار) بحّار إيطاليّ مناضل ضد الحزب الفاشيّ، مُعتّد بنفسه وبخبرته العريقة في قيادة الباخرة الكبيرة التي تجوب البحار ما بين موانئ المتوسط إلى أمريكا اللاتينيّة.
● الميكانيكي (جيمس) إنسان مثقف منطوٍ على نفسه، يقوم بعمله على أـمّ وجه يفاخر بخبرته العريقة في صيانة محرّكات الباخرة، وهو مثقف عالي الثقافة في المخلوقات البحريّة.
● البحّار العربي (السيّد) الإسكندراني، فقد كان صديقًا حميمًا مع (سعيد) وصديقه البحّار (عمر) وهو الذي أقنع سعيد بالسفر معه إلى أثينا للبحث عن عمل على متن البواخر العابرة للقارّات.

عمّان\ الأردن
31-7-2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى