يوسف زيدان - سكان السطح

مرت أسابيعُ بعد عبور أبى إلى النهار، فتوهَّمتُ أن استرحتُ من وصيته الأخيرة المربكة، لكنه جاءنى، ليلة أمس، منامًا وأعاد علىَّ ما كان يوصينى به مراراً وتكراراً مريراً: لازم تحل مشكلة السطح.. العجيب فى الأمر أن المرحوم أبى كان يُفاخر بأن إحساسه عالٍ بالأمور المهيأة للتفاقم، ولطالما استطاع علاج جسام المشكلات بأقل جهد، لمبادرته إلى حلِّها قبل أن تظهر وكان يتنهَّد راضياً بعد اختتام كلامه بالعبارة المعتادة: الوقاية خيرٌ من العلاج!

لماذا إذن، لم يُنه هو مشكلة سكان السطح وأوصانى بحلِّها، وهو يعرف أننى قليل الحيلة؟ فعلاً، أمره عجيب. قبل وفاته بفترة، رافقته فى تطوافه اليومى بحوافِّ الميدان الفسيح، المفتوح عليه زُقاقنا. يومها سألته عن سبب تسويفه وعدم تدخُّله فى مشكلة سطح بيتنا التى تفاقمت، فقال وهو يهزُّ عُكَّازه إنه لا يحب الكلام أثناء المشى، لأن هذا وقت التفكير وليس التفسير، وأمرنى بالصبر حتى يُتمّ دورة طوافه السابعة، ثم نجلس بمقهى «الفُرجة» فيقصُّ علىَّ القصص هناك وهو يحتسى الينسون. وقد كان.

الأمر بدأ وبدا فى أوله، هيناً، ثم تعقَّد فأضحى مُشكلة تعاظمت رويداً، حتى أمستْ مُعضلة، وأبى لم يشهد البدايات لأنها أسبق زمناً من مولده، ويُقال إنها جرت أيام جَدِّه، وفى قولٍ آخر أيام جَدّ أبيه، فهو الذى اجتهد حتى وجد قطعة الأرض وبنى عليها البيت العريق الذى نسكن فيه الآن ونُبتلى. فى ذاك الزمان، لم يكن هذا الميدان معيَّن الشكل محدود الجوانب بهذه الشواهق، وكان هذا المقهى «تعريشة» يأوى الناس إلى ظل أشجارها، ويحترسون فى طريقهم إليها من النقائع التى تنزُّ بالماء وقت فيضان النيل. وكما هو معروف بالإجماع، حسبما قال، كان الخير آنذاك وفيراً والإنسان إنساناً. وقبل أن يستقيم الزقاقُ بالبيوت ثم يتفرَّع فى حارتين، كلتاهما مسدودة، تمَّ بناء بيتنا بإشراف مهندس مصرى من أصل يونانى أو إيطالى، أسرته من أصل مصرى. وهو الذى وضع أصلاً تصميمه بحيث يليق بسُكنى الناس، غير البؤساء، فكان بيتنا من يومه الأول على ما هو عليه الآن: ثلاثةُ طوابق عالية، فى كلٍّ منها ثلاثُ شققٍ فسيحة، فى كلٍّ منها ثلاثُ غرفٍ «يجرى فيها الخيل»، بحسب التعبير الذى استعمله أبى.

وكان سطح البيت خالياً إلا من جدران رقيقة تفصل بين تسع حجراتٍ غير مسقوفة، ليستخدمها السكانُ فى نشر الغسيل أو لتخزين ما لا يلزم الاحتفاظ به فى شُققهم الأنيقة. وفى وسط السطح، كان هناك خزان مياه كبير لتأمين اندفاق الماء من علٍ! صحتُ مندهشاً: وهل هُدَّ هذا الخزان؟ فصاح فىَّ: لا تقاطعنى، واسمعْ تعِ، واعلم أن العجلة من الشيطان والمتعجلين هم أقاربُ الأبالسة المتنكرين فى صورة بشرية لخداع العوام بصيد الهوام وتخليط الكلام.

- خلاص يا بابا، أنا آسف.. كَمِّل لو سمحتْ.

■■■

فى مدخل البيت، الذى كان عند بنائه يحوطه فراغ، جعل المهندس للبواب مسكناً تحت السلم يتألف من حجرتين وممر متسع فى آخره دورة المياه التى كانوا قديماً يسمونها: بيت الراحة. وقد جَدَّ أبى، أو جَدُّ جَدِّى، فى إيجاد «بواب» للبيت يُشترط فيه، بحسب معايير ذاك الزمان، أن يكون ابن حلال، وظل شهوراً يرفض تأجير الشقق، قائلاً إنه لن يخادع أحداً ويُسكنه فى بيتٍ بلا بواب، طمعاً فى قَدرٍ زهيد من حطام الدنيا، يقصد المال، فلما استطال بحثه عن شخصٍ مناسب، لَانَ لساعى بريدٍ كان معروفاً بوداعته ولُطف ألفاظه واحترامه للآخرين. كان اسمه عبدالنصير، وقَبِلَ رجاءه وإلحاحه وتوسلاته، ووافق على أن يعمل ابنه الشاب بواباً. بل استبشر بهذا الاختيار لأنه رأى الولد اليافع خجولاً كسيفَ النظرات خفيض النبرات، وفى الوقت ذاته عَبِل مفتولُ البنيان مشرقُ الملامح، فظنَّ أنه المناسب لحراسة البيت وسكانه، لاسيما أنه اختارهم من ودعاء الناس، وضحَّى أحياناً ببعض الأجر لضمان جودة الجيرة.. عملاً بالمبدأ الذى هجره البشر بسبب الزحام: الجار قبل الدار.

يُقال، والعُهدة فى ذلك على الرواة، إن البواب عندما دخل أول مرة مسكنه، بكى فرحاً ومال على يد جَدِّنا وقبَّل يده، ويُقال بل قبَّلَ قدميه، وتعهَّد له بأن يبقى للأبد خادمه الطيِّع الذى يبذل الروح والدم فداءً له، فأخطأ جدى الأول وقال له مواسياً: خادم القوم سيدهم.. فقال له البواب الذى كان اسمه جميل الطلة: بل أنت والسكان السيدُ والسؤددُ!

وبعد أعوامٍ من عمل البواب، تسلَّل فى الليل لصٌ نحيلٌ صعد إلى السطح للاستيلاء على الغسيل، فلم ينتبه البوابُ لذلك، ويقال إنه انتبه فغضَّ الطرف واستنام آملاً أن يحلم بما يطفئ لهيب شوقه للفتاة التى يحبها ولا يجرؤ على النظر نحوها، طويلاً، حين تعبر من أمامه وهو متكوِّمٌ فوق الدِّكَّة البائسة بمدخل البيت. البنتُ ساحرة الملامح وحالمة النظرات، وهى نادرة الجمال لأنها من أهل اليُسر وأسرتها غنية ومن أصولٍ أجنبية، وقد توهَّم «جميل» أنها شغوفة به، لأنها تُلقى عليه التحية فى الصباح، فهام بها، وراح يحلم بالاتحاد بها فى خيمة الخيال. وأحلام المحروم حلوة، بقدر ما هى مستحيلة، ويُقال إنها تُفضى بصاحبها إلى الهوس.

لما تكرر السطو على الغسيل، استغرب السكان من إهمال البواب، ولاموه فاعتذر بأنه يقضى نهاره مجتهداً فى خدمة السكان! سألوه: أين هذا الاجتهاد وما هى تلك الخدمات؟ فقال إنه يراقب الفراغ المحيط بالبيت، وهذا عملٌ لو تعلمون عظيم.. وبعدما احتاروا فترة، اقترح عليهم الحل فوافقوا، فأحضر قريباً له ليعمل مساعداً وأخبر الناس بأن مساعده اسمه «مُساعد» فانخدعوا بذلك واطمأنوا إلى حين.. وهكذا صار «مساعد» هو الذى يراقب العصافير التى تطير حول البيت نهاراً، ويتولى «جميل» الحراسة ليلاً والسهر فى سرداب الأحلام المستحيلة مع محبوبته «صوفيا» الغافلة عنه وعما يعانيه ويعانى منه.

لكن السطو على السطوح تكرر، فاهتاج السكانُ، لاسيما أن إحدى الجارات رأت السارق يعبر من أمام البواب بلا اكتراثٍ وهو مُحمَّل بما نهبه من فوق السطح.. فاحتدّ أحد السكان، وكان أصله من الصعيد، فقال للبواب إنه ومساعده لا خير فيهما وعليهما أن يتركا العمل لمن يستطيعه، وقال للجيران إن عليهم استبدال هذا البوَّاب ببوَّاب ذى مهابةٍ تُرهب «حرامى الغسيل» وتردعه عن تلك الجرأة منقطعة النظير. تدخل فى النقاش ساكنٌ عطوف، رقيق القلب، قال للبواب: هل تعانى من أى مرض، أو لديك مشكلة فى النظر؟

- أبداً يا عاطف بك، أنا صاغ سليم.
- طيب، إزاى الحرامى يعدِّى قدامك وإنت سرحان كده؟
- أكيد بيقرا تعويذة.
- تعويذة! إزاى يعنى، بيقول إيه؟
- وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون.

■■■

كان السكان يبحثون عن بديل للبواب، وهم غافلون عما يفعله من استقدام أقاربه للسكنى معه، وأثناء ذلك جرى أمران لا صلة بينهما إلا عند علام الغيوب، الأول أن السُّـكان كَفُّوا تماماً عن استعمال السطح وعن الصعود إليه، والآخر أن «صوفيا» تزوَّجت وتركت شقة أهلها، فأصيب البواب بهوسٍ خفىٍّ.. وفى يوم شتوىٍّ دافئ، جاء السكان برجلٍ عليه حُلة من الذِّلة، ليكون مكان الفاشل. وهنا فوجئ الجميع بجميل وقد خرج إليهم من مكمنه الكائن تحت السلم، وهو يرتدى عباءة مزركشة الأطراف بوشىٍ يلمع كالنياشين، يحوطه ويسير وراءه قطيعٌ من أقاربه، وقال بنبرة الواثقين إن زمن الظلم انتهى، ولن يتولى الأمر أحدٌ غيره، وأشار بطرف عصاه اللينة إلى الرجل الذليل المجلوب، فاختطفه من بين السكان ثلاثة من ذئاب البواب، وأوسعوه ضرباً وشتماً أمام البيت، ففرَّ هارباً وارتاع السكان.

فى غمرة الارتياع، أعلن البواب أنه لن يُسمَّى من بعد اليوم بواباً، وسوف يتخذ لقب «الحارس»، ومن يحرص على سلامته الشخصية من السكان يجب عليه أن يتأدب فلا يعترض ولا يحلم بالاعتراض.. سكت لحظةً استمتع فيها بذهول السكان، ثم استكمل كلامه مؤكداً أنه جاء للعمل هنا على أساس واضح، هو أن خادم القوم سيدهم! فمن يحرص على سلامته الشخصية عليه أن يتأدَّب فلا يعترض ولا يحلم بالاعتراض، وختم كلامه بأن العصا خُلقت لمن عصى والتعريض جُعل للمعترضين والرضا بالقضاء والقدر هو عنوانُ التقوى وسرُّ السلامة، ولا بديل عن ذلك إلا الندامة، فمن يحرص على سلامته وسلامة أسرته عليه بالأدب ومكارم الأخلاق والتعامى إذا عزَّ العمى، فلا يخطر على قلبه هاجس الاعتراض، فالمعارضة هوى يهوى بأهله إلى السهيقة السحيقة، فهل يريد أحدٌ منكم أن يذوق السهيقة السحيقة.. هنا، قال الأستاذ «عاطف بك»، وهو يتحسَّـس ألفاظه: لو سمحت، ما معنى السهيقة؟ فزعق فيه حارسنا: اخرسْ.

فخرس، وخرص.

الوحيد الذى حاول فى ذاك اليوم الاعتراض، وبالأحرى فكَّر فيه، كان الساكن الصعيدى الذى جعله الحارس عبرة، إذ خُرِّبت شقته واستباحها صغارُ الحراس وبعض المذؤوبين، فحمل عاره ورحل فى صمتٍ إلى الضاحية التى يُستعبد فيها الذين كانوا أعزاء، وانقطع من يومها خبره.

■■■

خيرةُ السكان هجروا البيت وهاجروا إلى الأحياء البعيدة، وفى خلال تلك السنوات استوطن السطح أعوان الحارس وأسرهم وفيرة التعداد، ثم استقدموا المزيد من أقاربهم ومعارفهم الذين على شاكلتهم، فازدحم بهم السطح وفشا فيهم التسطيح والأفعال العجيبة، فكان من ذلك أنهم كانوا إذا اشتد فى الصيف حَرُّ الظهيرة يصعدون سلم خزان المياه الذى أسموه «المسبح» ويلقون أنفسهم فيه، بملابسهم، وهم يبتهجون كحالهم فى أيام الأعياد التى يلطخون فيها الجدران بالدم، اتقاءً للحسد بالكفوف الدموية، مما اضطر الباقين من السكان لتركيب مواتير ترفع إليهم الماء من دون مروره على الخزان.

وكان من أفعالهم العجيبة بالسطح، أنهم زادوا عدد حجرات الغسيل التسع، فجعلوها تسعين، وليتهم اكتفوا، بل قاموا بناءً على نصيحة أحد الحراس الصغار الذين صاروا مع مرور الوقت كباراً، بسقف الحجرات بجريد النخل وأفلاقه، وبنوا فوقها أكشاكاً خشبية سموها: الشعاب الشعبية. ويقال إن عدد سكانها، بلغ مؤخراً أضعاف عدد القاطنين بقنوط فى الحجرات التسع التى صارت تسعين، على باب كل جُحر منها مكتوب بخط ردىء: الثقة بالله وبه نستعين، آمين، آمين، آمين.

لكن أعجب ما جرى فوق السطح، هو ما وقع قبل فترة، إذ انتشر بين سكانه مرضٌ غريب، وسببه مريب، هو المرض المسمى بينهم باسمٍ محيّر: أبوالنوم.. وهو مرضٌ مزمنٌ، له عرضٌ وحيد هو النعاس والوسن ليلاً ونهاراً، ومن يومها وهم ينامون، ولا يصحون من نومهم إلا لنوم آخر! ومع ذلك لا يحلمون، ولا يأملون فى اليقظة، ولا يحبون الاستفاقة، وقد أفهمهم الواعظ المشهور بينهم باسم «كتكوت» أن السكوت والسكون لا يكفيان لشكر السماء على تلك الهبة التى تُقرِّبهم من معجزة أهل الكهف، مما جعلهم يؤمنون بأن النوم الذى يعقبه نوم ويسبقه نوم، هو علامة الفوز الدائم كل يوم.

ومع مرور الأيام واحتدام الحال، طرد شخيرُ سكان السطح سكان الشقق، فصارت مرتعاً بديعاً للفئران، ولم يعد يسكن هنا إلا ورثة البيت، ولم يبق من هؤلاء الورثة إلا أنا وأبى الذى عرج إلى النور قبل شهور، أو لعلها أعوام، وأوصانى قبل وفاته بما أوصاه به أبوه قبل وفاته:

لازم تحل مشكلة السطح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى