كاهنة عباس - المكان

لا تسمّ المكان لا تسمّه ودع أشجاره وزهوره تتحدّث عنه، لا تترك الأسماء تستحوذ عليه، تحوّله إلى ذكرى حدث أو شخص ، فالمكان ليس بتاريخ ، المكان متجدد ،قد يحلّ به ما يحلّ ، ويزول منه ما يزول ، فما من أحد يذكر ما حدث به، فلم تسميته إذا؟ ألا يوحي اسمه أنّه رقعة واحدة متشابهة تستحضر ما مضى وولىّ ؟ ألا يتنّكر ذلك الاسم لما لتربته من روائح متميّزة ، ولأشجاره وطرقه وثناياه من أشكال متباينة ومن ألوان ؟ فمن قال أنه ملك لحائزه ؟ ألا تشنّ الحروب من أجل الأسماء : أسماء الأمكنة وتواريخها ، من يستطيع الحسم في صحّة تسميتها ، أولم تسند دائما وأبدا إلى المنتصر القاهر لا إلى صاحب الحقّ ؟ فمن هو صاحب الحقّ من منظور تاريخيّ ، ألم يكن ، المضطهد دائما وأبدا ؟ فلم تخليد المغتصب اعترافا بأن الحقّ يسند بالقوة ؟ وعن تسمية الأماكن، ألم تقتصر إلى ما انتهت إليه المعارك والحروب ؟ ألم تكتب الأماكن تارة بدم من دافع عنها وطورا بمن حاول اغتصابها والاستيلاء عليها ؟ فمن الذي عمرّها ، أهو المدافع أم المغتصب ؟ وما حكاية من استقرّ بها ؟
كيف يمنحنا المكان صفة الانتماء ،وهو المتجدد أبدا؟ هل يمكن الانتماء إلى شواطئ البحار ،ومن سمّى بعضها بالبحر بالمتوسطي وبالبحر الأحمر وبالبحر الميت وبأسماء أخرى عديدة لا تحصى ولا تعدّ؟ ما معنى هذه التسميات وإلى ما تحيل ؟ وهل يمكن الانتماء إلى البحر أصلا ؟هل يمكن الانتماء إلى الجبل أو حتّى إلى الأرض ؟
ليس المكان سوى تمثلا لصورة نطلق عليها أسماء كي نستقرّ بها فتصبح لنا ملجأ .
فلا الهجرة و لا سفر إلا من المكان ولا غربة إلا في المكان ولا رجوع إلا إليه ، إنّه القفص الذي نرى من وراء قضبانه العالم ، هو السّجن الوحيد الذي لا توجد له أبواب إلا داخلنا لأننا بدأنا بتسميته وأشرنا عليه أنه هو الّذي ينتمي إلينا وبذلنا ما بذلنا حتى نجعله شبيها بأحلامنا ، لكنّه الزائل المتحول في الزمان كالماء ينساب بين أيدينا ليزول وينهمر ، فكيف يمكن له أن يحدد هويتنا ونحن من يسعى إلى انتمائه إلينا ؟
لذلك كان سفرنا في نفس المكان مستمرا في الزمان لا يتوقف أبدا ، ولا أمل لنا في الشفاء من الغربة المتجذرة فينا ،سواء غادرناه أو مكثنا به لا نبرحه . إنه يلاحقنا حيث ما حللنا ، نحمله ويحملنا كوجهين للمتحول، إنه من يحفظ آثارنا فنروي تفاصيله كما عرفناها ونعيد روايتها أحيانا بنفس الأسماء إلى الأبد .

كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى