كتاب كامل جورج سلوم - استعباد العبابيد - نص من كتاب (الإنفصال عن الواقع)

ما كان عبدٌ أعظم من سيّده .. لا ولن يكون ... هكذا تعلّمنا

وسواد القوم دون سادتهم وأسيادهم .. فالناس مقامات

ولو كبرتَ أو استكبرت فهناك دائماً من هو أكبر منك .. تلك القواعد من محفوظاتنا أيضاً

ومن اعتلاك فانبطح تحته .. حافظ على حذائه لمّاعاً .. امسحه بأكمامك .. ويلكَ لا تتفل عليه قبل مسحه .. انتبه فهو يراقبك من عليائه

ومن تزوّج أمّك فحُكماً سيكون عمّك .. فقد أعطته أمك لجامها راضية .. وشرعاً سيضع رجله في الرّكاب .. وسيركب السرج الذي تركه أبوك شاغراً .. فهل ستتمرّد على أمك؟

تلك هي أدبياتنا الموروثة ..

والسكوت من ذهب .. ومن رضيَ عاش .. والقناعة كنز لا يفنى .. إنها مسلّمات منزّلات في شراييننا .. نرضعها مع حليبنا

لذلك لم أطمعْ بالكثير ..

بل ما تيسّر من نتاج الحقل في حمأة السعي اليومي .. وأترجّى خبز الكفاية ..قانعاً بقسمة الله على عباده .. واثقاً من حكمته وهو الحكيم .. متوخياً الابتعاد عن كبائره وهو الكبير .. معتمداً على محبّته .. عدله .. كرمه .. ورحمته .. وهو العادل والكريم والرحيم..

تلك بعض أسماء الله الحسنى .. كثيرة وتحكي عن صفاته (جلّ جلاله) .. ولكنها تعجز عن حصرها .. والله واحد وإن تعدّدت أوجه بركاته .

أنا عبدُ الله ومن جملة عباده .. وقد أسـتصغر نفسي فأصبح عُبيدَ الله لأكون أقلّهم شأناً

والآخرون أيضاً عَبيدٌ للرحمن والمنّان والديّان .. وعَبيدٌ للرّحيم والعظيم والكريم والحكيم .. والجبّار والغفار والقهّار .. وكلنا تحت رحمة الباري والمُميت والقيّوم..

أولئك العبيد كانت حقولهم متساوية في البدء .. ومتجاورة .. وكلها مزروعة بالقمح .. وكانت الشمس تشرق على الجميع وتوزّع أشعتها عليهم بالتساوي..

وكانت الغيمة الحُبلى بالمطر تزورهم وترشرشهم بأمواهها .. دونما تمييز بين حقل عبد القادر وعبد الفتاح .. حتى أن الحدود بينهم لم تكن واضحة!

وعندما يأتي الحصاد كانت الغلال متساوية .. وزناً وأكياساً .. وخبزاً .. وكانوا يتركون بعض نثرات القمح للعصافير .. حتى أن عرائس المروج كنّ يزرن الحقول في الربيع وهنّ بنات عم حوريات البحر!

وكانت المواشي والأنعام تسرح في الرّياض ولا تقرب القمح الأخضر .. فالكلأ وافر في المروج المجاورة .. ولا داعي لوضع سياجٍ يسوّر المزروعات في ذلك الوقت.

والكل كان يعلم أن لله في خلقه شؤون وهو يرزق من يشاء ...

إلا عبد الجبّار وزوجته ابنة عبد المهيمن فقد كان لهما رأيٌ آخر .. والليل عندهما كان طويلاً وكافياً لينمو الشوك بجانب الورد .. لم تحبل زوجته فلمن يزرع؟

لا أولاد لديه .. فهل يشقى ليأكل أولاد عبد الشكور ؟.. وما أكثرهم .. كالقرود أصوات صخبهم وصياحهم في كل مكان..

وهكذا تميّزت أرض عبد الجبّار باصفرارها .. ونمت فيها الأشواك والأعشاب الطفيلية .. ومازالت الشمس تشرق على الجميع لكنها كانت تحرق تلك الأرض حرقاً .. وعزفت الغيمة عنها وتجاوزتها وألقت حمولتها عزوفاً عنها..

يومها كفر عبد الجبار بربّه .. واتّهمه بالمحاباة .. فكيف يأمر الغيمة أن تغضَّ الطرف عن أرضه؟..

وصارت صلاته عدائية .. هجومية

اللهم أحرق أرضهم كما أحرقت أرضي .. وشتّت شملهم كما أوقفت نسلي..

اللهم دمّرهم وابعث فيهم أمراضك وأوبئتك .. يا جبار .. فلا تقوم لهم قائمة!

اللهمَّ فلتأتِ نار جبروتك على صغارهم المتكاثرة .. ومواشيهم التي أكلت الأخضر واليابس .. وبيوتهم التي تمتد كالسرطان بين ظهرانينا.

وكانت زوجته (ابنة عبد المهيمن ) تتميّز غيظاً وتستشيط غضباً .. كلما شاهدت امرأة متثاقلة بحملها .. أو سمعت مناغاة رضيع على صدر أمه .. فأطلقت صلاة إلى ربها..

اللهم اقطع ذراريهم .. وجفف ضروعهم المكتنزة بالحليب .. يا مهيمن!

اللهم أطربني بأصوات بكاء أطفالهم .. برداً وجوعاً .. فيكرهون الإنجاب.

اللهم جفف أرحامهن كما جففت أرضنا .. أجدبها .. أسبغ عليها قحطك .. مزقها بأجنّة الهموم المتكاثرة..

اجعل مخاضهنّ عسيراً ومميتاً .. فلا تعاودن الكرّة .. وازرع الفرقة بين رجالهم ونسائهم .. فيهجرون المضاجع .. فنُهيمن نحن عليهم يا مهيمن! .. اقهرهم يا قهار .. ضرّهم يا أيها الضار.. وتلك من أسماء الله الحسنى أيضاً..

واستنبط الخلق أسماءً للخالق حسب صلاتهم وموضوعها .. فيريدونه رحيماً إن عصوا .. وكريماً إن بخلوا .. وقوياً إن ضعفوا .. وشافياً إن مرضوا .. ويصادقهم القول إن كذبوا .. يريدونه شاهدَ زورٍ أيضاً.. (والله على ما أقول شهيد !!!..حتى ولو حلفوا كاذبين)..

لكن الحكيم والعظيم والعادل لم يلقِ بالاً لكلّ تلك الثرثرة .. وإن كانت على خشوع .. ولم يلتفت لصلواتهم ولو بللوا سجاجيدهم بالدموع..

وهنا بدأ الانفصال عن الله .. لا لم يعد الله (يهوى*) كما نهوى .. فكيف يستجيب الخالق لفريقين يتقاتلان باسمه .. ويحملان رايته ؟.. والكل يقاتل أخاه ويطلب من الله أن يكون له نصيراً على أخيه؟.. وكيف يكون المقتولون من الطرفين شهداء لديه؟!

لابدّ إذن من ربّ آخر لكل طرف

لابدّ من آلهة أخرى ..وكثيرة.. لترضي أهواء الناس المتضاربة

سجدوا ودقوا رؤوسهم بالأرض حتى اسودّت جباههم .. وابتهلوا إلى كل الجهات لأن القبلة لم تكن معروفة لديهم بعد.

فلنوجّه صلاتنا إلى الشمس ... هكذا قالت لزوجها

عساها تغيب عن أعدائنا وتنكسف.. وهكذا عبَدوها .. وظنوا أنهم ملكوا الشمس وأصبحت لهم وحدهم

وصلواتٍ إلى الغيم عساه ينساهم .. وإلى القمر فينخسف عسى أن تظلم لياليهم .. وظنوا أنه بصلواتهم قد ملكوا القمر .. يريد العبد بصلواته ( وهي بضع كلمات ) أن يملك كل شيء!..

يريد العبد (العبّاد والعبّود والعبّيد ) أن يستعبد كل شيء .. حتى آلهته

فتزاحمت الصلوات المتضاربة .. وتحطمت كلماتها المتصارعة في زحمة الآلهة وسمواتها..

لا تنسوا الصلاة إلى كل شيء .. والدعاء على كل شيء

إلى الثور أيضاً .. عساه يقود بقراته إلى حقولهم يأكلونها ويخربونها ..

وإلى التيس ومعزاته .. ويعيثون فيها فساداً .

والفئران والقوارض .. تنخر تربتها نخراً ... وحيث وجدت الفئران وجدت الأفاعي..

لابد من تماثيل يعبدونها .. والحجر أصلب من البشر .. وهكذا نحتوا الإله الذي يحقق غاياتهم ويقاتل الآلهة الأخرى

والصلاة يطلقها العبد كيفما شاءت شياطين أفكاره ..

قال لها :

-ما هذا يا امرأة ؟..نهارهم أقوى من ليلنا .. ورحمانهم أعظم من جبارنا .. ورحيمهم ساد على مهيمننا .. فلنعبد النار والريح والأعاصير والفيضان والزلزال والشيطان .. وعلينا وعلى أعدائنا.

وهكذا بدأت النار في حقلهم اليابس فقلبته رماداً .. وجاءتها الريح فاشتد أوارها وامتدت ألسنتها إلى الحقول الخضر تأكلها .. تشرذمها .. تبعثرها وتهلكها .. وهجرت العصافير من الأدخنة الخانقة .. وجاع الأطفال فلا حليب في الضروع .. ولا خبز يقي من الجوع

وظهر المال والذهب وغيرهما ... كأسيادٍ للناس وكآلهةٍ مستحدثة عصرية .. فمن دفع عاش..

ومن لم يدفع ..عليه أن يعمل عبداً لعبد الجبار اتقاءً لناره ... وصار هناك عبيد أيضاً لعبد عبد عبد الجبار .. وكثرالعبابيد في بنية هرمية !... وشرعنوا أنظمة عشائرية وإقطاعية و.. و..

يومها أضاف عبد الجبار كنية الى اسمه لتمييزه .. فأصبح عبد الجبار الناريّ لكثرة ما عشق من النيران .. وزوجته لقبها الأريحية .. لكثرة ما استحضرت بصلواتها أفواجاً من الأرياح الهوج .. وخاف العباد من سطوتهم وسلطة آلهتهم .

فمن سيزرع .. يجب أن يأخذ بركات الناري والهوجاء قبلاً .. وإلا..

وبعد الناري جاء الخنفشاري والحرباء .. والإنكشاري والعنقاء والبتراء والشمطاء والفراهيدي والتفعيلي .. وأبو سياف وابن أبي ساطور.. وكثرت الآلهة التي يصلون لها ويخطبون ودها

لكن عبد الشكور ماحاد عن الصراط المستقيم .. وما فتئ يصلي الى الرحمن الرحيم عالماً أنه يمهل ولا يهمل ... فعاش في نعمة الراضي بما قسمه رب العالمين..

وأنا مازلت أصلي كل صباح إلى الله .. شاكراً كعبدٍ شكور

وبالشكر تدوم النعم

مبتهلاً

إلى الكافي وليس إلى عبد الكافي

وإلى المُعين ... وليس إلى عبد عبد المعين وما يليه من العبيد والعبابيد ..

حامداً رب العالمين .. الذي لا يُحمد على مكروه سواه .

********************

د. جورج سلوم

* ملاحظة : (يهوى ).. أيضاً أحد أسماء الله

********************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى