سعيد مكاوى - فتاة تقيم بمفردها

سعيد.jpeg

عرف فور انتهاء مكالمة حماته المستقبلية أن اليوم لن يمر بخير، تلك المكالمة التى هنأته فيها بترقيته إلى منصب رئيس الحسابات، وكان قد أبلغ خطيبته ريهام بالخبر منذ شهرين أثناء مشاهدة فيلم سينمائى، وقاله لها همسًا وخفية حين تحرك أخوها الصغير تجاه دورة المياه. أخوها الصغير الذى تصمم حماته على أن يصطحبهما فى كل الخروجات، وأفهمته أن يراقبهما كضابط أمن محترف، يجلس بينهما فى قاعات السينما غير مهتم بمتابعة أحداث الأفلام التى تدور أمامه لأنه منشغل دائمًا بالتلفت يمينًا ويسارًا وإلى الخلف حتى لا تتسلل أياديهما وتتلامس. وكان عاصم حريصًا ألا تخبر أمها بالترقية حتى لا تترجمها إلى أرقام وتتعجل الزفاف وتحيل حياته إلى جحيم، وها هى حماته تزغرد فى التليفون زغرودة أشبه بعواء ذئب عند حصاره لحمَل صغير، ثم نتيجة بحث الصور عن مكاوى سعيدتطلب منه الحضور فى المساء للاحتفال بهذه المناسبة، وافق عاصم على مضض، ثم أغلق الهاتف وهو يلعن خطيبته ريهام التى لم تقدر على الاحتفاظ بالسر لمدة أكبر.


جلس عاصم على كرسيه المعدنى المميز بكسوة جلدية فاخرة ووسادات للذراعين والرقبة والرأس، وذراع معدنى صغير يدير الكرسى فى شتى الاتجاهات، ثم غرق فى الكرسى الوثير الذى كان لوقت قريب يشعره بالراحة والوجاهة، وأصبح فى تلك اللحظة يزيده اختناقًا، جعله يغادره بسرعة ليرنو من شرفة المكتب الزجاجية المطلة على الشارع، مانحًا ظهره للغرفة التى بها موظفان وآنسة حديثة التخرج يعملون تحت إمرته، والتى كانت منذ لحظات قبيل مكالمته مع أم ريهام مليئة بالثرثرة والضحكات، وقد صارت الآن فى صمت المعابد والكهوف المهجورة، بعد أن تنبه الموظفون لحالة عاصم المتكدرة عقب المكالمة، فانكبوا على دفاترهم دون أن يجرؤ أحدٌ منهم على سؤاله عن سبب تكدره، حتى رن هاتف مكتبه الموضوع خلف لافتة النحاس الصغيرة المحمولة على عيدان أبنوسية على هيئة مثلث، والمكتوب عليها بخط الثلث اسم عاصم الثلاثى ووظيفته الحديثة رئيسًا لقسم الحسابات والمراجعة، تلك اللافتة التى أهدتها له ريهام بمناسبة الترقيه. ظل التليفون يرن رنينًا متصلاً، لم يأبه له عصام حتى تحركت الفتاة وتلقت المكالمة، ثم هرعت إليه وهمست بأن رئيس الشئون القانونية يطلبه على التليفون، ابتسم عاصم ساخرًا وهو يقول فى نفسه "ها هى بشائر المصائب تهل".. وسار بتؤدة ودار حول مكتبه بمهل، ثم جلس على الكرسى، وسحب سيجارة وأشعلها وهو يمد يده بتراخٍ نحو السماعة الموضوعة فوق دفتر المراجعة، كأنه يعلن لمرءوسيه بأن الأمر تافه وغير ذى أهمية، وكان يُسمع بين الحين والآخر يهمهم بكلمات مثل: (حاضر.. طيب.. هو فيه منشور نزل بكده) وهو يجاهد أن يبدو وجهه شمعيًا خاليًا من الانفعالات. وعقب انتهاء المكالمة عاد الصمت مرة أخرى إلى المكان، ولم يتشجع أحد مرءوسيه على سؤاله عما يحدث، لا أقدمهم وظيفيًا ولا حتى الآنسة أقربهم إلى قلبه، ثم فجأة تحول هذا الصمت المريب إلى صخب شديد، بدخول سعاة الطابق الثالث إلى الغرفة، وهم يفتحون الباب على مصراعيه ويثبتون ضلفتيه بالشناكل فى كل جنب، وبعضهم أزاح طاولات الشاى الخشبية المتراصة أمام كل مكتب، ثم خرجوا وعادوا بمكتب كبير وفخم وأضخم من الذى يجلس عليه عاصم ذاته، ثم وضعوه فى موازاة مكتب عاصم بالقرب من شرفة الغرفة.


كان عاصم قد غادر الغرفة بمجرد دخول السعاة، دون أن يشفى غليل مرءوسيه ويخبرهم بما يحدث، مما جعلهم يتركون أماكنهم فور مغادرة العمال ويلتفون حول المكتب الجديد الذى حل ضيفًا على الغرفة، أحدهم تلمّسه ثم دق عليه مختبرًا متانته، وثانٍ جرب كرسيه الدوار، بينما انشغلت الفتاة برفع العلبة الخشبية المزخرفة الحاوية لعلبة مناديل ورقية معطرة ومرطبة كى تتشممها ثم انتشت بعطرها، تاركة زميليها يتجادلان وأحدهما يجزم بأن هناك رئيسًا جديدًا للقسم فى الطريق، والثانى يتحسر على عاصم الذى لم يهنأ بعد بمنصبه، ثم تمادى الرجل الأول وتحرك تجاه مكتب عاصم وهمَّ برفع اللافتة الخشبية، غير أن الفتاة صرخت فى وجهه وطالبته بأن يخفف من غله، وطالبه الزميل الثانى المحنك بأن يتريث حتى ينجلى الأمر.


عاد عاصم بابتسامة مرسومة، ثم أخبرهم بأن زميلة جديدة التحقت بالقسم وستداوم من الغد، وبعد فترة صمت قليلة أبلغهم وهو يتحسس كلامه بأنها ليست غريبة عن الشركة، فهى زميلة قديمة لكنها لم تعمل بالمحاسبة من قبل، ثم طلب منهم الترفق معها وتجنيبها العمليات الحسابية المعقدة أو مراجعة المستخلصات المالية، وعندما ظهرت الحيرة على وجوههم قال بحسم إنه فقط الذى سيكلفها بالمهام، ثم خفض صوته قليلاً وقال برجاء موجهًا حديثه للآنسة وطالبًا منهم عدم الاحتكاك بها، لحظتها تشجعوا وسألوه بصوت واحد عنها، فأجاب وهو يجاهد ألا يتعدى صوته جدران الغرفة: الموظفة الجديدة هى سميحة مديرة مكتب رئيس مجلس الإدارة.


لو كان قد أخبرهم بأن شركة المقاولات التى يعملون بها ستغير من نشاطها وتبيع "سمك وجمبرى"! أو قال لهم بأن مالكها اكتفى بما كسبه وسيغلقها فى الغد، كانت دهشتهم ستقل عمَّا عبروا عنه بصمتهم وذهولهم وخوفهم المخبوء، لدرجة أن الزميل الذى يغالبه الحقد على عاصم امتقع وجهه هو الآخر، فالخطر سيمسّهم جميعًا بلا استثناء، فسميحة معروف عنها أنها بركان أذى، وتملك صلاحيات تفوق صلاحيات مديرى العموم كلهم، وأمرها نافذ على الجميع موظفين أو عملاء، بما تملكه من حظوة عند رئيس مجلس الإدارة ومالكها، وبأقدميتها التى لا تتعداها أية أقدمية، عشرون عامًا كاملة منذ أن غامرت وهى فتاة صغيرة عمرها عشرون سنة بمهنتها كسكرتيرة فى آخر الكادر الوظيفى بإحدى شركات القطاع العام، وقدمت استقالها فى التوقيت ذاته الذى قدم فيه مهندس التنفيذ الشاب الذى لا يتجاوز عمره الثلاثين استقالته من الشركة نفسها، وقد قيل إنهما كانا متفقان على ذلك، وقيل أيضًا إنه علم باستقالتها مصادفة وهو يخلى طرفه من الشركة، وكان فى حاجة إلى سكرتيرة فطلبها للعمل معه... المهم فى الأمر أنها شاركته بداية من تلك اللحظة كل سنوات كفاحه حتى نما مكتبه الإنشائى الصغير وتضخم، إلى أن أصبح شركة استثمارية كبرى تضم مئات العاملين، ويدوى اسمها كالطبل فى عالم الإنشاء والمقاولات، ولها علامة تجارية مميزة صارت مصدر ثقة للمتعاملين معها، وعلى مدى هذه السنوات الطويلة، سرت شائعات وتسربت أقاويل عن مدى قربها من صاحب الشركة، أو بأنهما متحابان وفى سبيلهما للزواج وسيطلق زوجته ويرتبط بها، وفى أحيان أخرى بأنه سيحتفظ بالزوجه الأولى أم أولاده بجانبها، لكن الأيام تمر والحال هو نفس الحال، وتنام الإشاعات والأقاويل فى سبات عميق، ثم تصحو فجأة كلما أطاعها صاحب الشركة ولبى لها أمرًا صعبًا أو طلبًا مستحيلاً، مثل رفت مدير عام لأجل خاطرها أو إغلاق قسم بكامله لأنها "خبصت" عليه وادعت أن موظفيه لصوص ومهملون، كما أن رفضها المتتالى لكل عروض الزواج التى عرضت عليها من موظفين كبار ومهندسين طموحين ومقاولين انتهازيين، كان يؤجج هذه الشائعات، وكلما زاد سنها وبدأ الكبر يظهر على ملامحها واعتقد البعض أن سبل المقاومة أوشكت أن تسد فى وجهها، وستخلى قلاعها قريبًا وتستسلم لأول طالب زواج، كانت تتعنت وترفض وتكاد تجرس من يطلبها للزواج، ثم لا تمل من سرد قوائم طالبى الزواج منها وهى تسخر منهم فى تشفٍّ، حتى جزم بعض العاملين بأنها فعلاً متزوجة من مالك الشركة فى السر.. وارتكنوا إلى هذا الزعم.

نتيجة بحث الصور عن لوحات

وبرغم تقدم العمر وزحف بعض التجاعيد على الوجه فسميحة لم تزل جميلة، تحافظ على رشاقتها، جسدها متناسق محفوف بالإثارة، خال من الترهل والبدانة، تسير بتؤدة، وإذا استدعاها صاحب العمل هرولت بخطوات محسوبة كأنها فتاة فى الثامنة عشرة من العمر.


مبنى الشركة من طوابق أربعة، الطابق الثالث منها مخصص بكامله لرئيس مجلس الإدارة ومعاونيه وأفراد سكرتاريته التى ترأسهم سميحة، وهنالك مصعدان للمبنى؛ الأول خاص بمالك الشركة ومديرة مكتبه والثانى لباقى العاملين، الصاعدون بالمصعد الثانى غالبًا ما يبسملون ويحوقلون فى رحلة الصعود والهبوط خشية أن يفتح الباب فجأة فى الطابق الثالث وتراهم سميحة فتتذكرهم وتدبر مصائب لهم، فهى عندما يغيب صاحب الشركة لسبب ما، تختار طابقًا ما تكبس عليه وهى تسير بلا صوت فى طرقاته جيئة وذهابًا لعلها تضبط استهتارًا بالعمل كمدرس التربية الرياضية مفتول العضلات الذى يسبب الرعب لتلاميذ المدرسة الابتدائية، سعاة ذلك الطابق أيضًا يتجنبونها حتى لا تتسبب فى قطع أرزاقهم بوشاية ما صحيحة أو كاذبة.


ساد التجهم أجواء الغرفة وكل من بها داهمه توجس أن يُضحى به، وبالتالى لن يصبح قادرًا على سداد أقساطه والتزاماته، وسيتقهقر إلى الركن المؤلم فى حياته الذى ظن أنه نأى عنه تمامًا؛ رحلة البحث عن عمل عن طريق الإعلانات المبوبة أو الأقارب والوسطاء ثم الفحص والاختبارات حتى يجد ما يناسبه ويفاجأ بأن الأجر أقل كثيرًا مما يناله فى المؤسسة. ثم بدأت الهمهمات تعلو وعاصم منشغل عنهم حتى همست فى أذنه الآنسة بأن موعد الانصراف حان.


اعتذر عاصم عن موعده مع خطيبته بمنزلها فى المساء، وأخبرها خلال المكالمة الطويلة بملخص لما حدث وهو يغمز ويلمز إلى نحس حماته وتقبلت الفتاة السخرية المريرة من أمها بعد أن ضخم لها عاصم من خطورة سميحة، ثم همست له بأنها ستنتظره حتى آخر العمر لأنها أوقفت حياتها عليه، فهدأ وضحك وهو يطلب منها أن تقص له الإعلانات التى تناسب مؤهلاته وتحتفظ بها فربما يحتاجها.


فى الصباح التالى جاء موظفو الغرفة على غير العادة قبل موعد الحضور بدقائق وعلى رأسهم عاصم، وفى تمام الساعة الثامنة أتت سميحة تتقدمها ابتسامة عريضة وسلمت عليهم جميعًا وهى تتعرف عليهم واحدًا إثر الآخر، واتسعت ابتسامتها أمام عاصم وهى تفتعل الامتثال أثناء طلبها منه أن يعلمها مبادئ العمل وأن يترفق بها، وهى تعده بأن تفهم بسرعة، وسحب عاصم كرسيًّا وجلس بجوارها وأمامهما دفتر محاسبى ظل يشير إلى خاناته المربعة ويفسر لها الأرقام الموضوعة بها، بينما باقى موظفى الغرفة يفتعلون العمل، لم يقطع هذا الدرس التعليمى إلا دخول رئيس سعاة الدور الثالث الذى انحنى تجاه سميحة وهو يخبرها بأنه لقن سعاة هذا الطابق مواعيد مشروبها وسلمهم "الماجات" الخاصة بها وعلمهم طريقة صنع النسكافيه الذى تفضله، كما كلف كهربائى الشركة بإضافة زر إلى الجدار الذى خلفها ليسهل عليها استدعاء السعاة، انصرف رئيس السعاة واعتذرت سميحة عن مقاطعته لعاصم ثم أومأت له لإتمام ما بدأه.

نتيجة بحث الصور عن لوحات

وطوال ذلك اليوم لم يخرج أحد من موظفى هذا الطابق الذين يتجاوز عددهم الثلاثين، والمنتشرين فى ست عشرة غرفة على الجانبين، واختفى أيضًا الصوت الذى يسود قبيل صلاتى الظهر والعصر والمصلون فى سبيلهم للوضوء؛ صوت "الشباشب" البلاستيكية الخارجة من كل صوب وحدب وهى تطرقع على أرضية الطرقة الرخامية حتى حمام الطابق الكبير الذى كان فى مواجهة غرفة عاصم، اختفى هذا الصوت تمامًا حتى خيل لعاصم أن أمرًا جللاً منعهم عن الصلاة، فخرج يتفقدهم ووجدهم يصلون داخل غرفهم فى مجموعة قليلة، وأهملوا صلاة الجماعة التى كانت ترج الطابق رجًا، واستمر الأمر بعد ذلك، الذى كان يغيظ عاصم جدًا نظرات غالبية العاملين وابتسامتهم البلهاء بعد دخول الست سميحة فى حياته، نظرات فيها تشفٍّ وفيها شفقة وتحيات يتسلل الخبث من بين جوانبها فى الطرقات وفى أتوبيس الشركة، خاصة عند موعد الانصراف حين تتهادى سيارة الآنسة سميحة بجوار الأتوبيس وتخرج يدها من النافذة لتحيى عاصم القابع خلف الزجاج، فتنهال عليها تحيات كل من بالأتوبيس، ثم مكالمات عبر هاتف منزله أو محموله من زملاء فى أقسام أخرى ليست بينه وبينهم علاقة، ولا يدرى من أين حصلوا على أرقام هواتفه، ينصحونه ويحذرونه ويأسفون لشأنه ثم يذكرونه بمصائبها فى الأقسام الأخرى التى انتقلت إليها بصفة مؤقتة، ويجزمون بأن مالك الشركة لا يستطيع الاستغناء عنها، وأن ما حدث بمثابة خلاف بين زوجين وسيتصالحان وترجع إلى موقعها فى خلال فترة قصيرة، وبالغ أحد المتصلين وأخبره بأن الأمر ليس فيه مشادة ولا خلاف، إنما مالك الشركة عندما يستغلق عليه بعض ما يدور فى أقسام الشركة المختلفة؛ يفتعل هذة المشادة ويرسلها لكى تجلى له الموقف. فليكن ما يكون قالها عاصم لنفسه ورمى طوبة الشركة بأكملها حتى موضوع زواجه، برغم اقتراب الخطيبة منه وجدانيًّا فى تلك الأيام إلا أنه لم يستبعد أن يحدث الانفصال بسبب الأم المشاكسة التى لا تزال تحث ابنتها على طلب التعجيل بالزفاف.


تغيرت عادات سميحة بعض الشىء فى الطابق الرابع، فلم تعد تخرج إلى الطرقة وتتهادى فيها كما كانت تفعل فى الطابق الثالث، بل على الأغلب لم تكن تغادر مكتبها، وتظل منكبة على الأوراق التى يضعها عاصم بين يديها، فقط كانت تقف خلف نافذة الشرفة الزجاجية مرتين فى اليوم فى توقيت دقيق؛ الساعة التاسعة صباحًا لكى ترقب سيارة مالك الشركة وهى تقف أمام المدخل، وفى الثالثة بعد الظهر عند موعد خروجه، كانت كالأم التى تترقب طفلها الصغير فى ذهابه وعودته من المدرسة، وتظل بعد كل وقفة شاردة لدقائق ثم تعود لما كانت عليه.


قبل منها عاصم كوب النسكافيه ثم دعاها إلى فنجان من القهوة وسرت بينهما أحاديث، حينما لاحظ أن مدير الشئون القانونية - الذى حل محلها مؤقتًا - يزورها كل بضعة أيام ليهمس فى أذنها ببعض الكلمات، وعبر عاصم عن رأيه فيه مرة بعد خروجه مباشرة دون أن يعمل حسابًا للمستقبل، وقال لها بأنه شخص انتهازى ويبدو كالعميل المزدوج، نظرت إليه سميحة طويلاً ثم ابتسمت وعلقت بأن غالبية موظفى الشركة من هذا النوع. ثم مر أسبوعان توقفت فيهما زيارات السيد رئيس الشئون القانونية، وسألها عاصم عن السبب فلم ترد، وعندما استفسر منها إن كانت قد أبلغته بما قاله، وبخته بتقطيبة وقالت ببساطة إنها لو كانت ترغب فى ذلك لقالته أمامه دون أن يجرؤ أحد على لومها، ثم تشاغلت بالنظر فى الخطوط التى شكلها البن فى قعر الفنجان، تركها عاصم بضع ثوانٍ ثم مد يده وتناوله منها وسط دهشتها ونظر إلى الخطوط بإمعان ثم قرأ ما فيه معتمدًا على حدسه، ومعلومات لا يزال يذكرها حين كان مهتمًا بهذا الموضوع، بدا وجهها خاليًا من الانفعال فى بداية قراءته ثم تدفق فيها الاهتمام كلما أخبرها بمعلومة قريبة منها، وبذكاء استطاع أن يكسبها إلى صفه دون أن يغامر بذكر أية معلومات عما يدور فى الشركة عن علاقتها بمالكها، وأنهى الفنجان دون أن يشفى غليل المتنصتين فى الغرفة، غير أن المساحة التى تقلصت بينهما أغرت مجموعة من زملائه وموظفى الشركة بالتلسين عليه والتغول فى حقه، حتى أن بعضهم أكد نجاح سميحة فى استقطابه إلى صفها وزرعه جاسوسًا على موظفى الطابق الرابع، وتغير شكل استقبالهم لعاصم بعد هذه الإشاعة بدلاً من الابتسامة البلهاء والترحيب المبالغ به إلى ابتسامات مبتورة ومحاولات لتفادى رؤيته بالتنحى سريعًا إلى الزوايا والأركان بمجرد هلته.

نتيجة بحث الصور عن لوحات

شهر كامل مر دون أن يعيدها مالك الشركة إلى موقعها، وقد كان هذا غريبًا فأقصى مدة قضتها خارج مكتبها كانت ثلاثة أسابيع، لكن رغم ذلك لم يظهر عليها أى ضعف أو انكسار، ظلت تأتى يوميًا فى كامل تأنقها بملابسها الزاهية التى على أحدث الطرز والموضات.. ثم دخل عاصم ذات يوم مقر الشركة فوجد حركة غير عادية من موظفى الأمن والاستقبال إلى الموظفين الصاعدين على الدرج وفى المصعد، لم يبدِ عاصم اهتمامًا وتلهفا على المعرفة احترامًا لمنصبه، غير أنه لمح عاملاً مشتركًا فى مجالات رؤيته المختلفة من أسفل إلى أعلى... كان هناك ورقة يتداولونها وهم ينظرون لها بإمعان، خمن أنها صورة من جريدة تتضمن حادثة أو جريمة مخلة بالشرف أو ربما مباراة رياضية دارت بالأمس ولم ينتبه لها لأنه غير مهتم بالرياضة، لكن عند جلوسه على مقعده وجد موظفيه وبيدهم ورقة الجريدة، ودون أن يسألهم أو يطلبها منهم، أقبل عليه أحدهم وفتح صفحتها على إعلان مبوب باسم الشركة، وأشار بسبابته المميزة بغزارة الشعر عند العقلة وقال بتشفٍّ: انظر! نظر عاصم فوجد إعلان الشركة يطلب فتاة حسناء بمؤهلات عالية تجيد أعمال السكرتارية والعلاقات العامة ويفضل خريجات الجامعات الأجنبية. أخفى عاصم دهشته بتقطيبة ثم نظر إلى ساعته وأمرهم بإخفاء الجريدة فسميحة على وشك الدخول، بعدها بلحظات دخلت سميحة ومارست طقوسها المعتادة ثم أخرجت الجريدة على غير عادتها وفتحتها على الصفحة التى بها الإعلان وابتسمت ابتسامة عريضة، ثم أشارت إلى عاصم الذى اقترب منها وقرأ الإعلان وأظهر دهشة كأنه يراه لأول مرة، بينما ضحكت هى ضحكة صافية كأنها تدرك أن مالك الشركة يلاعبها؛ وأنه فى نزعه الأخير ويحاول إغاظتها حتى تتصل به ويتعاتبان ثم تعود الأمور إلى ما كان، لم يجد عاصم ما يقوله فسكت لكن سميحة أكملت ضحكتها بقولها: إعلان أونطة.. أهو كلف الشركة كام ألف جنيه وحيعمل كذا مقابلة وبعدين مش حيختار حد. وفعلاً تم تحديد مواعيد للمقابلات وانتهت على غير رغبة سميحة، فقد اختار صاحب الشركة فتاة خريجة الجامعة الأمريكية تبدو كالمتباريات فى مسابقات ملكات الجمال.


تجاوزت سميحة الصدمة بسرعة وتماسكت وهى تؤكد بأن هذه الفتاة لن تتحمل العمل وستستقيل بسرعة هربًا من اجتماعاته المستمرة دون راحات كافية؛ ومن تقلب مزاج الباشمهندس، ولن يشفع لها جمالها عندما تورط الباشمهندس فى كثير من المشاكل مع كبار العملاء فالهطل والغباء يبدوان جليًّا على وجهها، ثم راهنت سميحة من بالغرفة على أن الفتاة لن تمكث أكثر من أسبوعين، ولم يقبل أحد على مراهنتها باعتبارها فى حكم الرابحة لأنها أدرى بالباشمهندس وبأحواله، لكنها خسرت الرهان ومر على وجود السكرتيرة شهرًا كاملاً ولم تبدُ بادرة واحدة منها أو من مالك الشركة بأن أحدهما ضاق بالآخر.


ولم تغير سميحة عادتها بالتلصص على صاحب الشركة صباحًا ومساءً، لكن وقوفها خلف زجاج النافذة فى الفترة الأخيرة أثار غمزات كل من بالغرفة، كان ظهرها يرتعش بشدة وتبدو غير قادرة على التماسك وهى تمسك بشرائح الستائر المعدنية حتى لا تتهاوى، ثم تعود إلى مكتبها شاردة لبعض الوقت، شعر عاصم مرة بأن قدميها تكاد لا تسعفانها فاقترب منها ووقف بجوارها، وتوقع ثورة من وجوده فى حيزها، لكنها نظرت إليه بإهمال ثم تابعت ما تترصده؛ خرج مالك الشركة من سيارته وأسرع فى دخول الشركة، فهمست لعاصم متسائلة: دا منظر صاحب شركة! بيجرى زى العيال الصغيرين.. هو نسى إنه قرب من الخمسين! لم يعلق عاصم فاستطردت: تلاقيه مستعجل يشوف السنيورة بتاعة الجامعة الأمريكية... ويشاور لها بإيده تخرج وعشر دقائق بالظبط يناديها تجيب له دوسيه من المكتبة قدامه.. من الرف التحتانى عشان توطى ويشوفها من ورا، وهى بتديله الدوسيه يشدها من إيدها نتيجة بحث الصور عن لوحاتويقعدها على حجره... ثم انتبهت لخطورة ما تقوله فعقبت أصل دول بنات مايصين.. الجيل الجديد كل ربايته كده.


أيام قليلة أخرى مضت وتحولت سميحة من ثمرة تين متوردة وشهية إلى تينة عجفاء يابسة، ثم تركت استقالتها مع ساعى الطابق الثالث دون أن تعلم أحدًا بذلك.. ثم كلف عاصم بأن يسلمها مكافأة نهاية الخدمة التى قررها لها صاحب الشركة، وكانت شيكا "مقبول الدفع" بمبلغ ضخم من المال، بعد أن تهرب مدير الشئون القانونية من هذه المهمة، اتصل بها عاصم على رقم تليفونها الخاص الذى لم يكن يعلمه إلا مالك الشركة، وقبلت مقابلته فى بيتها وهى تقول إن معظم سائقى الشركة يعرفونه.


كان وجهها الخالى من المساحيق قد جعلها تبدو فى الستينات من عمرها، أمسكت الشيك ونظرت إلى أرقامه طويلاً وضحكت ضحكة صاخبة دون تعليق ثم ألقته بجوارها، طلبت من عاصم أن يفتح الثلاجة ويتناول ما يريد من مرطبات واعتذرت بأنها تقابله بمفردها فى هذا اليوم بعد غياب الخادمة. أمام إصرارها اضطر عاصم لإحضار علبتين من الكولا، ناولها إحداهما فخذلتها قبضتها وسقطت على قصبة قدمها فتألمت، اعتذر عاصم فأسكتته بإشارة من يدها.. بدت متعبة جدًا... سألها عاصم مجاملاً هل من الممكن أن يعاود زيارتها؟ أبدت أسفها لأنها ستغادر مصر إلى دبى لتقيم مع أختها التى تعمل هناك، قام عاصم مستأذنًا فى الرحيل، طلبت منه بوهن أن يغلق الباب خلفه فى هدوء، حتى لا ينتبه الجيران إلى زيارته فيظنون بها السوء لأنها فتاة تقيم بمفردها.



.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى