داود سلمان الشويلي - الليالي.. قصة قصيرة

أدار نظره في أرجاء الغرفة فرآها تسبح في بحر من الضوء الاحمر الهادئ ، وصمت ممزوج ببرودة ثلجية، يمر عبر فتحة بابها الخشبي الموارب ، وشباكها الصغير الذي نشرت عليه ستارة بلون فاتح .

كان جسدها يقبع بانكماش على السرير الخشبي ، فيما راح ( اللحاف ) بقماشه ( الساتان ) اللامع يفرش حولها دفأه الوحيد.

مد نظره الى الاسفل، كانت طفلته بسنواتها الأربع تمد ساقيها النحيلتين على جسد أخيها الذي يصغرها بسنتين، فراح الاثنان يغطان في نوم عميق، خيل له أن أنفاسهما لم تعد كما كانت، وان جسديهما لم يتحركا قط . تساءل: هل يحلمان الآن؟ أجاب مع نفسه: ربما. وراحت ابتسامة صغيرة تنفرش على شفتيه في حمرة بحر الغرفة.

نزل من على السرير، فرش على جسدي طفليه الغطاء الصوفي، ثم أطفأ سجارته وترك عقبها الاصفر في منفضة السكائر التي على هيئة رأس قرد أسود، بعدها طوى حافة صفحة الكتاب الذي كان يقرأ فيه قبل أن يغير لون فضاء الغرفة، ووضعه على المنضدة الصغيرة التي تقبع بسكون قرب السرير.

رأى الى الزمن الليلي الذي ارتسم بلمعان فسفوري باهت على رسغ يده اليسرى .... كان الوقت قد تأخر كثيراً وهو لم يزل مسهداً وقد جفى النوم عينيه.

حرك اللحاف ببطء، كانت زوجته تمد جسدها المخدر بالنوم على طول السرير الذي ضمهما ليلة زفافهما الأولى.. وثوبها يلتم ما بين الساقين، أبيض خفيف يشف ما تحته. كان وجهها ينظر – أو هكذا خيل له – بعينين مغمضتين الى جدار الغرفة الآخر، فيما كان طفله الثالث بشهوره القليلة ممسكا بشفتيه الرقيقتين حلمة ثديها الذي استطال الى أمام .

مد ساقيه، كانت الريح ترسل بردها، أسوداً، داكناً...سحب اللحاف بخفة كي لا يشعرها انه سيبدأ رحلة النوم، وصوت الريح خارج جدران الغرفة يصهل بوحشية كخيول برية مطاردة.

أدار جسمه الى حيث كانت تنام، فانبسط نظره على مجموعة من الخيول العربية وهي تسابق الريح بألوانها الداكنة.. أحس بها تتقدم اليه، أغمض عينيه، لامست قدماه راحتي قدمي زوجته حيث كانتا دافئتين.. اقترب منها.. أحس بلفحة برد قد سرت تحت جلد ظهره.. مد يده اليمنى حيث كان رأسها بشعره الأسود الفاحم مرتخياً على الوسادة الوردية اللون ذات النقوش الجميلة..أدخل كفه تحت رأسها بهدوء حتى خرجت من الجانب الآخر، فرأى جسدها يتحرك لاشعورياً.. اقتربت منه.. فلامس جسدها الدافئ برودة جسده.. شعر إن خيطاً رفيعاً من الحرارة يسري في خلايا جسده.. رفع رأسه ، نظر الى وجهها فألفاه قطعة باردة من اللحم الابيض البض. و بعينين مغمضتين، وشفتين اختط اللون الوردي لهما حدوداً دقيقة:

:هل تشبهها حقا؟

تساءل مع نفسه، ثم ردد مجيباً: ربما!

عندها تذكرها.. رآها بعد فترة طويلة.. اسمرت صفحة وجهها، وترهل جسمها، وبدأ التعب يزحف الى وجنتيها.

((: سلوى أتحبينني حقاً ؟

:............

: سلوى اخبريني.

: وأهلي !؟ قالتها بحسرة .

وانقطع الخيط الحريري الذي كان يربطهما سويا.. ذلك الخيط الذي امتد لسنوات خمس خالها تلك اللحظة حلما قصيراً ولكنه لذيذ)).

: هل تشبهها حقاً!؟

هكذا خيل له عندما طلبت منه اخته الكبيرة أن يتزوج منها.. قالت له: (انها صغيرة ، وجميلة ) ثم ضحكت.

هل كان يريد أن يشمت بها ؟ بهم ؟ باولئك الناس الذين قطعوا ذلك الخيط الحريري الناعم الجميل، أم لأنها – كما توهم في نفسه – تشبهها حقاً ؟

ها هو جسدها الناعم يمتد بموازات جسده ، فتسري فيهما الحرارة نفسها .

سألته ليلة عرسهما الأولى: هل تحبها؟ أقصد أما زلت تحبها ؟

سكت..

كان سؤالها مفاجأة له.. نظر اليها.. انها تعرف بقصة حبهما.. هل كانت تسخر منه ؟ أم من ذلك الحب.. أم ...؟

كانت هي تنظر اليه.. ضحكت.. كانت ضحكتها كما أحس بها في تلك اللحظة سكاكين حادة تعمل بقلبه.. وببرودة خلعت الوشاح الأبيض الذي كان يلم شعر رأسها الفاحم الطويل، فأنساب على ظهرها وطوق خديها.

اقتربت منه.. كان وجهها يشع فرحة ، و خداها بلون الدم، وعيناها تلتمعان بنظرات قرأ فيهما ملامح الشماتة، إلا انه أكد مع نفسه تلك اللحظة: انه لم يقترف أي ذنب بحقها.. وها هو الآن يحبها.

صحيح انه كان قبل أن يطلب يدها كان يحب (عمتها).. أما الآن فقد انتهى كل شيء.

هل يحبها كما كان في السابق؟ سأل نفسه تلك اللحظة ، لكنه لم يفز بجواب.. عندها رآى الى وجهها مرة أخرى فألفاه بفم مبتسم، وأسنان ثلجية.

قال لها: هل تغارين؟

تحركت أمامه.. جلست على حافة السرير الخشبي المغطى بالشرشف الناصع البياض، رفعت رأسها، كان هو مشغولأ بخلع ملابسه.

سألته: ولكن.. أقصد الان؟

أجابها وكأنه يريد أن يقطع مثل ذلك الحديث: انها بعصمة رجل آخر؟

قالت له وكأنها تريد أن تطيل الحديث لتعرف أكثر مما يجب: هل تحن اليها؟ قالتها ببرود متعمد.

سأل نفسه: أيحبها حقاً ؟ أيحن الى مرأى وجهها كما تقول زوجته ؟

لم يجبها وقتها.. عندها نهضت.. اقتربت منه، أدارت جسمها.. وقفت أمامه بالضبط ، وطلبت منه أن يفتح سحابة بدلتها البيضاء.

مد يده الى كتفها...وترك أصابعه تجوس في ذلك التل اللحمي الطري، أمسك بيده الاخرى قبضة السحابة، وبحذر أنزلها ، فانفتح جانبا البدلة عن قميص أبيض شفيف بحواش (دانتيلية) مزخرفة.

ترك قبضة السحابة، جذبها اليه، تركت هي جسمها يلف بين يديه.

" ----------

--------------"

: سليم هل تسمع؟

: ها ...ماذا؟! سألها بعد أن أجفله صوتها البارد .

: هل نمت ؟

كان صوتها يأتيه من الجانب الآخر من السرير وهو يحمل بين كلماته خدر النوم وبرودة جو الغرفة .

سأنام . أجابها باقتضاب.

: هل تحس بشيء ما ؟

سألته، ثم دارت له نصف وجهها.. فرأى فيه فتحتين ضيقتين ما بين الرموش، وخصلة من شعر فاحم تمتد حتى فمها مارة بذلك الجبين الابيض الذي رسم عليه في ليلة زفافهما قبلة باردة فجة في زحمة حشد من النساء المهللات، حيث ملأت أذناه بصوت زغاريدهن وأغانيهن الأسيانة.. و.. .

: سليم !!

: نعم.

: هل تحس بألم ؟

: كلا ، كنت أحلم !

: ماذا؟!!

قالتها باندهاش حاد، وأدارت وجهها اليه بأكمله.. تحرك جسدها حركة سريعة.. فاندلق نهداها سوية من فتحة ثوبها على حافة صدره ذي الشعر الكثيف، وبحركة بطيئة من يدها أجبرتهما على أن يعودا الى مكانيهما، حيث الدفء وقطرات العرق الصغيرة المزروعة كالندى .

:أتحلم وأنت مستيقظ ؟!

سألته بعد أن فتحت عينيها على وسعيهما..نظرت اليه باستغراب، إبتسم لها، ضم رأسها الى صدره.. اقتربت منه.. قالت: لماذا أطفأت المدفأة؟

أجابها ببرودة: انه قريب منها.

ابتسمت... مدت يدها ولفتها حول جسده ، أأخذت تعبث بأصابعها على ظهره :

: نعم أحلم. قال لها.

سألته : بماذا؟

أجابها : بالايام التي مضت.

سألته مبتسمة: وهل كان لي مكان في حلمك ذاك ؟

أجابها: أنت في القلب .

ابتسمت له، ثم سألته: في الحلم أم في الواقع؟

قال لها وهو يبعد خصلة الشعر المفروشة على عينيها: الاحلام صدى للواقع .

قاطعته قائلة: سليم انه الليل.. ولا شيء غير ذلك ، كفى فلسفة.

: أنا لا اتفلسف يا عزيزتي، صدقيني.

اقتربت منه كثيراً بوجه متهلل ، قالت: أصدقك.

سحبت جسمها نحو الوسادة، رفعت قامتها الى الاعلى واتكأت بكوعها حيث استراحت بوضعها ذاك.. أحنت رأسها، فأنهمر شلال شعرها الاسود على وجهه الاسمر، أزاحته بأناملها الرقيقة، قربت وجهها الى وجهه.

((: سلوى .. . هل أكلم اهلك؟

: نعم ...

: لكنك لم تخبريني بمشاعرك تجاهي؟

: الا يكفي هذا.. يا قيس؟

بإندهاش أجابها: أنا لست بقيس!

ابتسمت: بل أنت هو، هكذا كانت قصائدك تخبرني.

: إلا انني اختلف عنه!

قالت مبتسمة: أما أنا فأحب ليلى، ولا أختلف عنها لانني أحبك.))

: سليم ؟

أفاق كأن صوتها جرس يعزف موسيقاه العذبة.. ابتسم لها.. لم يعرف أن كان قد بادلها القبلة أم انها أحست بذلك الخيط الثلجي الذي ملأ شفتيه؟

مالت بجسدها قليلاً.. أحس بحركة قرب جسده، ورأى(اللحاف) ينفرش عليهما سويا.. ثمة ثوب أبيض شفيف على حافة السرير الخلفية، فيما راحت الخيول تتقدم بإتجاههم وهي تدوس بسنابكها بياض ذلك الثوب وتترك آثار حمرعليه، عندها امتلأ جو الغرفة بصهيل الريح الذي كان في الخارج.. وراح خيط من الدفء يسري في خلايا جسده كله.

كانون اول 1994

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى