إدورد وليم لين - 10 - المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل الثاني

يلاحظ في مصر أن القليل من المال يكفي لإعالة ذرية كثيرة وأسرة كبيرة. ومهما يكن تدليل الأطفال والولوع بهم عظيما، فهؤلاء يكنون ويظهرون لأبويهم احتراماً عميقاً خليقاً بالمدح. ويعتبر المسلمون العقوق من أعظم الخطايا. وهم يضعونه لجسامته مع الكبائر الست الأخرى، وهي الشرك بالله وقتل النفس وقذف العفيفات بالزنا وأكل أموال اليتامى والربا الفاحش والتخلف عن جهاد العدو. وقلما ترى في مصر أو في العرب من لا يطيع والديه. ويصطبح الطفل، في الطبقات الوسطى والعليا، بتقبيل يد أبيه، ثم يقف أمامه باحترام وخشوع حتى يصدر إليه أمراً أو يسمح له بالانصراف. ولكن العادة جرت أن يقبل الأب ابنه ويلاطفه. ولا يقل احترام الطفل لأمه عنه لأبيه، وكذلك احترام أفراد العائلة الآخرين بمقتضى سنهم وقرابتهم ومركزهم. ومن هنا تنشأ في الطفل السهولة واللباقة في تصرفاته خارج الحريم، كما تنشأ فيه الطاعة والولاء اللذان كثيراً ما يعدان، من غير حق، نتيجة الحكم الاستبدادي في الشرق. ويندر أن يجلس الأبناء أو يأكلوا أو يدخنوا في حضرة الأب إلا إذا سمح لهم بذلك. وكثيراً ما يقومون أيضاً على خدمته وخدمة ضيوفه عند تناول الطعام وفي المناسبات الأخرى. ويظل الأبناء كذلك حتى بعد أن يصبحوا رجالاً. وقد دعيت مرة في شهر رمضان إلى الإفطار على مائدة تاجر مصري أعدّت أمام داره. وكان يدعو كل شخص يمر بالقرب منا، مهما كان فقيراً، إلى مشاركتنا الطعام. ومع ذلك كان يقوم على خدمتنا اثنان من أولاده أكبرهما يبلغ الأربعين. وقد لاحظت أنهما لم يتناولا بالرغم من صيامهما طول اليوم غير جرعة ماء؛ فرجوت الأب أن يسمح لهما بالإفط معنا، فأجاب رجائي في الحال؛ ولكنهما رفضا. وتتمتع الأم بأكبر قسط من عطف أطفالها ولكنها لا تتمتع مثل الأب بأكبر قسط من الاحترام. وقد رأيت خدماً كثيرين يعطون أمهاتهم ما يدخرون من أجرهم، وقلما كنت أرى من يدخر شيئاً لأبيه

ويلاحظ أن الأطفال المصريين، ما عدا أطفال الأغنياء، يظلون دائماً قذري الشكل ممزقي الثياب، مع أنهم في محل الرغبة وموضع التفكير. وقد يشمئز الأجانب من رؤيتهم، ويسرعون في الحكم على المصريين بأنهم شعب قذر دون أن يبحثوا عن سبب آخر لذلك. ومن الملاحظ أيضاً أن أكثر الأطفال تدليلاً وعناية، أقذرهم جسما وأحقرهم ثيابا. وليس من الغريب أن ترى السيدات الجميلات في شوارع القاهرة متئدات في مشيتهن، معطرات الجو بعطر المسك، مراعيات في زينتهن الكاملة دقة النظافة ومنتهى الرقة، معتنيات بكحل عيونهن، مخضبات الأصابع، بينما يرافقهم طفل قد يكون الوحيد، وهو ملطخ الوجه ملوث الثياب. ومن الأشياء التي أثارت عجبي عند قدومي إلى هذا البلد مناظر من هذا القبيل؛ وقد لفتت نظري لغرابتها وتناقضها، فأخبرت أن الأم الحانية على أطفالها تهمل هندامهم فتتركهم بلا نظافة، وتلبسهم أحقر الملابس عمداً، وعلى الأخص عندما يرافقونها في الخارج خوفاً من شر العين. ويخشى من الحسد بصفة خاصة على الأطفال لأنهم يعتبرون نعمة عظيمة ويشتهيها الجميع. ويرجع للسبب نفسه حجز الأطفال في الحريم طويلاً؛ حتى أن البعض يلبسن الذكور من أطفالهن ملابس الإناث لأن البنت أقل تعرضا للحسد. وأطفال الفقراء ما زالت هيئتهم بعد أكثر إهمالاً. فهم فضلاً عن قلة ملابسهم وحقارتها أو تمام عريهم قذرون إلى أقصى حد. تغشى عيونهم الأدران والذباب دون أن يكترثوا لذلك. ويعتبر المصريون أن غسل العين أو حتى لمسها عندما يسيل منها الصديد الذي يجذب الذباب، مضر بها. ويؤكدون أن فقد البصر قد ينتج من كثرة لمس العين أو غسلها عندما تصاب بهذا السيلان، غافلين عن أن الغسل إنما يلطف الألم

ويختن الولد في سن الخامسة أو السادسة، وأحياناً بعد ذلك وقبل الختان يحتفل القاهريون وغيرهم من الحضريين، إذا توفر لديهم مال، بزف الولد في موكب يمر بالشوارع المجاورة للمنزل. وكثيراً ما يحتفلون بزفة الختان مع زفة عرس في الوقت نفسه تقليلاً من نفقات الاحتفال. وفي الحالة الأخيرة يتقدم الموكب الولد وحاشيته. والمحتفل به يلبس أحياناً عمامة من الكشمير الأحمر، وقد يرتدي لاعتبارات أخرى ثياب أنثى، فيلبس إليلك والسلطة والقرص والصفا وغيرها من حلي النساء، ليجذب العين الحاسدة إليها ويلهيها عن شخصه. وتستعار هذه الملابس عادة من بعض السيدات الموسرات، وتكون من أفخر الملابس وأبهاها كما تكون كافية السعة لتلائم الولد. ويستعار كذلك حصان جميل العدة ليركبه المحتفل به. ويمسك الولد بيده اليمنى منديلاً مطرزاً مطوياً يضعه باستمرار أمام فمه ليحجب بعض وجهه اتقاء شر العين. ويتقدم المحتفل به صبي الحلاق الذي سيقوم بعملية الختان، وثلاثة من الموسيقيين أو أكثر؛ وآلاتهم لا تتعدى المزمار والطبول، كما ترى في (شكل 31). فالشخص الذي يتقدم الموكب هو صبي الحلاق - كما ذكر - ويحمل (الحمل) وهو صندوق خشبي نصف أسطواني ذو قوائم أربع قصيرة، يزين وجهه قطع من المرايا ومن النحاس البارز النقش، ويغطي ظهره بستار. وهذا الحمل وهو شعار الحلاق. ويحمله الخادم بالطريقة المبينة في الرسم ثم يتبعه الزمار والطبالان (وقد يتقدم بعضهم الحمل)، ثم الولد يقود جواده سائس؛ وأخيراً يمشي خلفه الكثير من القريبات والصديقات. وكثيراً ما يحتفل بختان ولدين مما وقد يحملهما حصان واحد. أما موكب العرس الذي كثيراً ما يتضمن موكب ختان كما سبق فسنتكلم عنه في حينه. وسنذكر أيضاً وصفاً لبعض العادات الأخرى المتعلقة بالختان وبالأخص واحدة منها أقل شيوعاً وأكثر وجاهة، في الفصل المتعلق بمختلف الأفراح والأعياد الخاصة

وقلما يبذل الأبوان كثيراً من وقتهما أو انتباههما في تربية الطفل تربية ذهنية، قانعين بتثبيت بعض المبادئ الدينية في ذهنه الصغير، فإذا كانت لديهم المقدرة، يعهدون به للمدرسين. ويلقن الطفل في سن مبكرة بقدر الإمكان الشهادتين وحب الإسلام. وأكثر أطفال الطبقات العليا والوسطى، وبعض أطفال الطبقات الدنيا يتعلمون في الكّتاب القراءة وتلاوة القرآن أو ترتيله؛ ثم يتعلمون بعد ذلك أغلب قواعد الحساب الشائعة

والكتاتيب كثيرة العدد لا في العاصمة فحسب، بل في كل مدينة كبيرة، كما يوجد في كل قرية كبيرة مدرسة واحدة - على الأقل - ويلحق بكل مسجد وسبيل وحوض في العاصمة كتّاب يتعلم فيه الأطفال بأيسر الأجور؛ إذ يتناول (الشيخ) أو (الفقي) كل خميس من أب الطالب نصف قرش أو أي شيء آخر. ويتناول مدرس المدارس الملحقة بالمساجد أو بغيرها من مباني العاصمة العامة سنوياً طربوشاً وقطعة من الموصلي الأبيض للعمامة وقطعة من الكتان وحذاء. كذلك يتناول كل ولد طاقية من الكتان وقطعة من نسيج القطن طولها أربعة أذرع بلدية أو خمسة، وقد يأخذون نصف ثوب من الكتان مقداره 10 أو 12 ذراعاً بلدياً وحذاء، وأحياناً يعطون قرشاً أو نصف قرش؛ وهذه الخلع تؤخذ من أموال موقوفة على المدرسة وتقدم في شهر رمضان. ولا يحضر الأولاد إلا ساعات الدرس ثم ينصرفون إلى منازلهم. ويكتب الدرس عادة على ألواح من الخشب المصبوغ بالأبيض، تمسح بعد كل درس ويكتب عليها الدرس الجديد. وتعّلم الكتابة أيضاً على اللوح نفسه. والعادة أن يجلس المدرس وتلاميذه على الأرض وكل تلميذ بيده لوحه أو نسخة من القرآن، أو جزء من أجزائه الثلاثين، توضع على كرسي من الجريد، ويلقي الأولاد جميعهم درس القراءة أو ينشدونه بصوت واحد عال، هازين رؤوسهم وأجسامهم هزاً لا ينقطع إماماً وخلفاً؛ وكذلك أغلب قراء القرآن يتبعون تلك العادة ظناً أنها تساعد على التذكر، وليتصور القارئ أي ضجة يحدثونها.

وأول ما يتعلم الأولاد حروف الهجاء، الشكل، ثم يتعلمون القيمة العددية لكل حرف من حروف الهجاء. وقد جرت العادة قبل وصول التلميذ إلى تلك المرحلة الثالثة في تعليمه أن يزين المدرس اللوح بالحبر الأسود والأبيض والصبغ الأخضر، ثم يكتب حروف الهجاء بترتيبها العددي ويرسلها إلى والد التلميذ، فيعيدها هذا إليه وعليها قرش أو قرشان. وهكذا يكرر ذلك في مراحل التعليم اللاحقة، وفي كل مرة يكتب الدرس التالي على اللوح. وعندما يحفظ الولد القيمة العددية لحروف الهجاء يتمرن على قراءة الكلمات السهلة، مثل أسماء الرجال، ثم صفات الله التسع والتسعين، وبعد ذلك يحفظ الفاتحة فيكررها حتى يعيها تماماً، ثم يشرح في حفظ السور الأخرى. ويندر أن يتعلم الأولاد الكتابة إلا عندما يخصصون لبعض الوظائف التي تتطلب معرفتها. وفي هذه الحالة يتعلمون الكتابة والحساب كذلك على يد (قباني، وهو الشخص المنوط به وزن البضائع في السوق على القبان. أما الذين يسلكون أنفسهم في النظام الديني أو في أي مهنة علمية فيتبع غالبهم تعليماً منتظماً في الجامع الأزهر

وأغلب معلمي الكتاتيب قليلو العلم والاطلاع. والقليل منهم من تتعدى معرفته القرآن وبعض الأناشيد والأدعية، فيؤجرون لتلاوتها وتلاوة القرآن في المناسبات الخاصة. وقد حدثوني أخيراً عن رجل لا يحسن القراءة والكتابة نجح في شغل وظيفة مدرس؛ فقد كان يحفظ القرآن كله ولذلك سهل عليه الإصغاء إلى الأطفال وهم يسمعون الدرس. أما تعليمهم الكتابة فقد كان يستخدم فيها (العريف) مدعياً ضعف النظر. وبعد شغله هذا المنصب بأيام جاءته امرأة فقيرة ليقرأ لها خطاباً جاءها من ابن لها ذهب للحج. فتظاهر الفقي بالقراءة ولكنه لم يفه بحرف واحد. فاستوجست المرأة من سكوته شراً واستنتجت من هدوئه أخباراً سيئة فقالت له: (هل أصوات؟) فأجابتها (نعم) وسألته: (هل أمزق ثيابي) فأجابها: (نعم). فرجعت المسكينة إلى منزلها وأقامت هي وصاحباتها مناحة ومأتماً. ولم يطل عليها الزمن حتى عاد ولدها، فسألته ماذا يعني بهذا الخطاب الذي يخبرها بموته؟ فلما شرح لها ما في الخطاب ذهبت إلى المدرس وطلبت منه أن يوضح لها لماذا قال لها أن تصوت وتمزق ثيابها ما دام الخطاب يقرر أن ابنها بخير وأنه في طريق العودة؟ فأجابها غير مضطرب: (إن الله عنده علم الغيب. فمن أين لي أن أعرف أن ولدك سيعود سليما؟ وكان خيراً لك أن تظنيه ميتاً حتى لا تنتظري عودته، وقد يخيب انتظارك). فصاح بعض الجالسين مادحاً حكمته: حقا إن (فقينا) الجديد رجل ثاقب البصر حكيم. وهكذا بين عشية وضحاها ارتفعت شهرة الرجل لغلطة غلطها. وبعض الآباء يجعلون لأولادهم شيخاً يعلمهم في المنزل. والعادة أن يعلم الأب ابنه الوضوء والصلاة وغير ذلك من الواجبات الدينية والأخلاقية على قدر إمكانه. وقد أمر الرسول (صلعم) أن يعّود الصلاة من يبلغ السابعة ويضرب من يمتنع منهم عند العاشرة، كما أمر أن ينام الأولاد كل وحده في هذه السن. ومع ذلك يندر أن يقوم المصريون بواجب الصلاة قبل البلوغ.

(يتبع)

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين


مجلة الرسالة - العدد 433
بتاريخ: 20 - 10 - 1941

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى