كتاب كامل جورج سلوم - الوحل والبيت الحرام - نص من كتاب (الإنفصال عن الواقع)

بعد أن سمع الشيخ لتفاصيل الحلم المؤرّق ... تساءل قائلاً:

- وماذا حدث بعد ان انزلقتَ إلى حفرة الوحل؟

- حاولتُ الفكاك ونجحت

- وهل تخلّصتَ من بقاياه ؟

- نعم ولكنه علِقَ على شاربيّ فقط .. فلعقتهما وبلعتُ لعابي المخلوط بالوحل .. جفّفت نفسي ونظرتُ خلفي فرأيتها تغرِفُ من الطين وتصنع تماثيلاً على شكل رجال .. تقولبهم .. يُشبِهونني .. تمسحُهُم بيديها..تقبّلهم في أفواههم .. ثم تدبُّ فيهم الأرواح فيلحقون بي .. فأفزُّ من نومي مرعوباً.

- من هي ؟

- للأسف إنها زوجتي .

- إنه انذارٌ بفتنةٍ كامنة يا أخي .. تنسُجها زوجتك من وراء ظهرك مع رجالها .. احذرْ أظنُّ أنّها علاماتُ خيانة .. والله أعلم!

ماهذا الحلم الذي أودى به الى خانة الشك ؟.. وماهذا الطعم الغريب الذي بدأ يشعر به .. هل هو طعم الطين ؟.. وماهذه الرائحة المميّزة التي تنبعث من شاربيه ؟.. هل هي رائحة الوحل؟

هواجس وشكوك انقلبَتْ إلى ارتيابٍ وسمومْ .. وكروبٍ وهمومْ .. وسكوتٍ ووجومْ.

صار يعتقد فعلاً أنها تخونه .. هكذا أوحى إليه الحلم وهكذا ترجَمَه شيخ التفاسير .. ولكن كيف؟..

تخونه بعيونِها ونظراتها .. بأحلامها وشرودها وصمتها .. باتصالاتها الهاتفية .. زياراتها لأمّها أصبحت طويلة؟؟.

انقطعَ حبل الوداد .. لكن لم تنفكّ عُرى التواصل .. لم يعُدْ يسألها عن أحوالها ولا عن أوحالها..صارت شريكة في البيت لكنْ مُشرِكة في الحرمات .. يعتبر نومَها المبكر خيانة وصحوها المتأخر خيانة .. أصبحَ يجزم أنها كانت على علاقاتٍ سابقة.. كثيرة ومتعددة قبل الزواج بكثير .. ومافات لم يمُت بعد .. قد تحنُّ إلى صويحبٍ قديم ..وتستعذب العودة إليه في أي وقت ! .. قد يكون الحبُّ الأول أكثرَ تأثيراً واستئثاراً وبالتالي تُؤثِرُهُ عليه.

قال لنفسه :

- لا ينقصها شيئ مما تحتاجه أكرم الزوجات .. فلماذا قد تتمايل هنا وهناك؟

لكنّ الخيانة الزوجية قد تكون بلا سببٍ واضح .. قد تكون المورّثات .. وهي بذلك تكون فطرةً متأصّلة وليست طفرة طارئة...

قرأ كثيراً عن علاماتِ خيانة الزّوجات في ساعاتِ وحدته .. وليالي سهاده.. وسأل عن كيفية إثبات ذلك شرعاً .. مستحيلٌ أن تتم الواقعة بحضور أربعة شهود .. ويرونَ جميعاً دخول المرود في المكحلة .. هل هو مشهد تمثيليّ أمام الجمهور ؟.. اعذرني يا شيخنا الجليل .. لا يمكنني إثبات ذلك وفق ما حَكَمْت .. أنا أظنّ فقط .. وبعض الظنِّ إثمٌ.. وما رأيته أضغاثُ أحلام .

ويبقى السؤال الذي يعذّبه ويجلده على صخور الصمت القاتل..

متى تخونه .. وكيف ؟... مادامت حبيسةَ البيت تقريباً .. ولا تخرج منه إلا لِماماً.

سؤاله الجارح ... من هو ؟

جوابه المرير ... أشكّ بفلانٍ وفلانٍ وفلانْ ..

يخاف أن تلتقي عيونُه بعيونِ ذلك الرجل .. (زوجٌ مخدوع .. تجري المياه من تحته) .. تماثيل الطين أصبحت تحيط به .. تلحقه تسخر منه .. تلوّثه .. تتقافز على سريره .. وتمرّغ زوجته في مستنقعِها.. تماثيل طينية صغيرة هلاميّة تلاحقه .. تشبهُهُ كثيراً .. وتقلّد حركاته

قالت له مشيرةً إلى ابنهما الوحيد :

- أترى كم يشبهكَ هذا الفتى؟ .. نفسُ عينيك ونفس تصرّفاتك

- نعم ولكنّ الفتى اللقيط يأخذ صفاتٍ مُكتسبة من عائلةٍ تتبنّاه .. هكذا قال في نفسه.

احتضن الفتى وقبّله .. نفسُ الرائحة ونفس الطعم .. الوحل!

لابأس .. فليلعق إذن الأوحال عن شاربيه .. ودعِ الأيام تفعل ماتشاء ... وأسوأ الخيارات هي الطلاق.

الابتعاد هو الحل .. هكذا قال لنفسه ..السفر إلى ما وراء الحدود .. أنا بعيدٌ .. وبعيدٌ جداً.. وما لا تراه العين لا يزعجُ الفؤاد ... وطعم الوحل قابلٌ للنسيان .. ولكنّ الخشية أن يسمعَ شيئاً من أحدٍ ما .. سيهاجر إذن وعقدَ العزمَ على ذلك.

الانخراطُ في العمل حلٌّ آخر .. فالأبُ مشغولٌ بعمله والعمل يسرِقُه ولذلك هو خارج البيت .. والنجاح في العمل يغطّي على الفشل في البيت .. فليكدحْ إذن .. وليفعل الله أمراً كان مقضيّاً.

دعْها .. على الأقلّ كمربّيةٍ للأطفال بدونِ أجور .. ستكون أكثر نجاحا ً من أية مربِّية أو زوجة أخرى .. لأنها ببساطة أمُّهُمْ حتى ولو لم يكن (هوَ) أبوهم ..

لكنّ سؤالَه الجارح مازال يعنّ عليه ... من هو ؟

يتذكّر طعم الوحل لو مرّت بجانبه .. أو سمع تنهّداتها على الهاتف .. أصبح الوحل يسيل من صورة زواجهما المعلّقة على الحائط ..ويتدلى منها تماثيل هلامية معلّقةٌ بها بخيوط رفيعة .. كخيالات الظل!

رجاء ً لا تدع عينايَ تلتقي بعينيك يا من تشاركني لُقمتي ووجبتي.. كيف تستسيغ طعمَها ؟.. لم الشّرْك بي وبحُرُماتي ؟ .... لا تنعتني بالمغفل .. أو الغافل عن حرماته.. لستُ الوحيد الذي يخامره الشك .. ولستُ أولَ مغدورٍ ولن أكون الأخير.

يعودُ مساءً الى بيته .. يراها مسترخيةً على أركية .. (طبعاً أنهكتها التماثيل) .. سُحنتها شاحبة ترابية اللون .. مشيتها أثقل مما سبق .. (طبعاً أصبحت تتوازع أعضاءها بين أكثر من شريك ).. قالت:

- هل أحضّر لكَ العشاء ؟

لم يُجِبْ .. وهل يأكل من أيديها المعجونة بأوحالهم و دبَقهم ... ستبقى تلك الرائحةُ في صحونها ولو أضافت إليها التوابل.

أردفت بصوت ٍضعيفٍ مُنْهَكْ :

- سأنامُ إلى جانبِ الصغير ... مريضٌ قليلاً .. لا تبتئس عليه .. أعطيته الدواء .

أيضاً لم يُجِبْ .. لديه تلفازه ودخانه وأريكته وعشاؤه البسيط يصنعه لنفسه .. على الأقل بدون وحل.

جافاه النوم .. وبكاء الطفل ممضٌّ من الغرفة الصغيرة .. والأم تزرع البيت جشاءاتٍ وتقيئ مرّات ومرات .. (دعها تغوص بأوحالها)

وأتى الصباح بطيئاً إلى العائلة المُتعَبة .. وأمام المرآة رأى شاربَه أكثر لزوجة .. ثقيلاً بشكله ورائحته .. حلاقته أفضل وأنظف .. فلتذهب أيها الشارب رخيصاً مع أوحالك .. وهل كلُّ من تشوربَ والتحى غدا رجلاً؟... لكن الرائحة مازالت قائمة!

من هو ؟

هذه اللعبة تحتاج إلى لاعبين اثنين .. وهو يُمسك بالأول فقط .

لماذا لا يصارحها بشكّه ؟.. يتّهمها .. يُضيّق الخناق عليها فتعترف.. والله لن يفعل شيئاً.. فقط لو يعرف من هو؟؟..

قال الشيخ وقد استغربَ وجهه الحليق .. فاعْترَته مخافةٌ ورثا لحاله:

- إن اتّهمْتَها ولم تُقِم البيّنة .. فذلك قذفٌ للمحصّنات .. ويتوجّب عليك حدُّ اللّعان .. فادرَأ ذلك الحرج والعذاب عنك .. ضعِ النِّقاط على الحروف .. تصارحا وتوكّلا على الله .. قد يكون تفسيري للحلم مغلوطاً .. فالوحلُ فتنةٌ ولكنَّ الترابَ في الحلُمِ خيرٌ وفير ... جفّف أوحالك وحوّلها إلى تراب .. أدخِلِ الشمس إلى بيتك فينقشعُ الضباب ويبين السّراب.

قرّر المواجهة وقطْعَ دابر الشك .. يغزو بيتَه على حينِ غرّة .. يجفّف مستنقعاته .. يحيط بالحرمات ..ويحطّم أصنامه.. فيستسلم الخونة ومن أشركوا به .. وتُعلَن الغلبة لجيش الحق..

غزوته كانت موفّقة .. لا أحد في البيت .. وتهمة الشرْك به أصبحت مؤكّدة فتوجَّبَ القَصاص .. ترَكَ الأبواب والنوافذ مفتوحة فدخلت الشمس وبدأ مستنقع الوحل بالجفاف .. نظّف الحرمات من عوالق الوحل .. ولم يبقَ إلا مواجهة المُشركين بالسيف .. فمَن اعترف بخطئِه ونطق شهادة إيمانه بحرمة البيت سَلِمْ .. وإلا..

سمع صوت خطواتها وابنها على الدرج فشحذ حواسه العشر .. الحسّية منها والحركية .. ضحكاتُ ابنه المتصاعدة أقوى من جبروت الصراع..

- بابا هنا صباحاً ؟!...... قالها الصبي وهرع إلى أحضان أبيه.

ثم تابع والفرحة تطفح من وجهه:

- هل تعلم يا أبي أنّ الماما ستأتينا بإخوةٍ أصغر مني ؟.. وسنلعب معاً ونقفز على السرير.. و..

ثم طالعه وجه زوجته الضاحك:

- سألني الشيخ عن هواجسكَ وأحلامك .. وفسّرتُها له اليوم بعد عودتي من المستوصف ..تخيّل ذلك .. أنا حامل بتوأم أو أكثر كما قال الطبيب !.. أولئكَ هم التماثيل التي أصنعها في أحلامك .. وألحِقُها بكَ نسباً وشكلا ً.

طاف الجميع في جنبات البيت مهللين ومسبّحين .. رموا الجمار على الشياطين الموحلة وغدا البيت حراماً على المشركين .. والحاجّة مبرورة عند رب ِّ البيت!

وانقلب الوحل في المنام تراباً .. وعمّ الخير الوفير .

قد يأتيه حلم ٌ آخر لاحقاً فيرتدّ عن الإيمان .. ويعود للتساؤل.. هل هم أولاده؟!

د. جورج سلوم
**********************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى