أيمن مصطفى الأسمر - ضابط الشرطة

بدأت حياتي العملية ضابطا شابا صغير الرتبة محبا للناس وللحياة، وها أنا ذا أنهيها ضابطا كبيرا كارها لهما ولنفسي ولكل ما في الدنيا من صغيرة وكبيرة، وكأي طفل صغير كنت إذا سُئلت ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ كغالبية الأطفال أجيب: ضابط شرطة، وكغيري من الأطفال أصررت أن يشترى لي أبي زى ضابط الشرطة وأنا طفل صغير، وكانت فرحتي بهذا الزى الذي جاءني في أحد الأعياد لا تعادلها على ما أذكر فرحة أخرى، غير أن الأطفال عندما يكبرون قليلا تبدأ اهتماماتهم في التغير، فمنهم من يرغب في أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو محاميا أو غير ذلك، أما أنا فقد ظللت متمسكا بحلمي ومصرا على تحقيقه، فحرصت على أن أعد نفسي بدنيا وذهنيا لهذا الأمر حتى أصبح حقيقة واقعة، التحقت بأكاديمية الشرطة رغم بعض المعوقات الطفيفة التي واجهتني وكانت سعادتي حينها لا توصف، أمضيت فترة الدراسة والتدريب كأنني في حلم ولم أتذمر كغيري من الزملاء من قسوة التعليمات أو شدة الأوامر أو صعوبة المقررات، وعندما تخرجت وبدأت خدمتي كانت صدمتي الأولى في اختلاف المعاملة بين أمثالي من متوسطي الحال وبين زملائي الذين ينتمون لعائلات كبيرة ذات نفوذ أو ورثوا المهنة عن آبائهم، فبينما قُذف بي إلى منطقة نائية في ظروف عمل قاسية وخطرة وُضع أبناء الصفوة في أماكن عمل مريحة وأقل خطرا، كنت متحمسا ومؤمنا بدوري كضابط شرطة في بسط سيطرة القانون وهيبته على الجميع بلا استثناء، لكنني اكتشفت سريعا أن الأمر ليس على هذه الصورة البسيطة والمثالية، وأن هناك درجات مختلفة لتطبيق القانون، بل أن هناك أحيانا أشخاصا وحالات ومؤسسات لا يتم فيها تطبيق القانون على الإطلاق، كنت مؤمنا بأن ضابط الشرطة يجب أن يكون أخا وابنا وصديقا لكل صاحب حق، وأنه حتى المجرمين يجب التعامل معهم بآدمية ودون إهانة، حاولت تطبيق ما أؤمن به خلال السنة الأولى من عملي ففوجئت بتصدي زملائي لي بالعنف تارة وبالسخرية تارة أخرى، وبدلا من أن أمارس عملي الذي حلمت به منذ صغري إذا بي يتم إقصائي ويعهد إليَّ بمهام قليلة القيمة عديمة الأهمية، ظللت سنة أخرى أتابع زملائي وهم يتعاملون بقسوة وعنف مع عامة الناس فيما تختلف المعاملة تماما مع أصحاب المال والنفوذ، كل شيء كان مباحا .. انتهاك القانون أمر عادى لا غرابة فيه، تلفيق القضايا للبعض وإخفاء الأدلة التي تدين البعض الآخر سلوك طبيعي، أما عن التعذيب فحدث ولا حرج .. فقد يصل الأمر من شدته وقسوته إلى حالات إعاقة أو وفاة، وعندما تم نقلي إلى منطقة أخرى أسوء من سابقتها مع تعنيف شديد اللهجة بضرورة تغيير طريقتي في التعامل مع الناس، بل وصل الأمر إلى تهديدي بالاستبعاد الكامل من الخدمة إذا لم أتغير، كنت في الواقع قد تغيرت وتشبعت بما عايشته من ممارسات فكان طبيعيا أن أصبح مثلهم، هكذا بدأت أسلك نفس مسلكهم بل تماديت، كان ذلك هو سبيلي الوحيد للترقي السريع والقفز إلى المناصب الأعلى، مارست التعذيب بنفسي وابتكرت أساليب جديدة مستخدما الكلاب والأجهزة لإذلال المعتقلين وتركيعهم، تفننت في تزييف الوقائع وإخفاء الأدلة، توسعت في الاستعانة بالبلطجية لترويع الخصوم السياسيين لأركان النظام، وكلما تماديت في ذلك كلما ازداد الرضا عني وارتفعت أسهمي لدى القيادات بالوزارة وتم تصعيدي سريعا إلى مناصب حساسة، وعندما بدأت الاحتجاجات تتصاعد ضد النظام كنت مكلفا مع آخرين بقمعها بكل قسوة ودون النظر لأي اعتبارات إنسانية أو قانونية، وكلما توغلت في هذه الممارسات كنت أفقد جزء من نفسي وروحي حتى فقدتهما تماما، ورغم القمع الذي توسعنا في ممارسته ضد عامة الناس، وإلهائهم بظروف حياتية قاسية ضاغطة تجعلهم يدورون في دائرة لا تنتهي من الكد والانشغال بأحوالهم وشؤونهم الخاصة، إلا أننا فوجئنا بتمردهم علينا وعلى النظام بأكمله، خرجوا بالمئات ثم بالآلاف تقودهم مجموعات من الشباب صغير السن عديم التجربة كنا نظنه عابثا لاهيا يتسلى بوسائل الاتصال الحديثة فإذا به يستخدمها للتشهير بنا وتحريض العامة على التمرد على سلطتنا، تصدينا لهم بكل حزم وقسوة فتضاعفت أعدادهم لتصبح ملايينا بطول البلاد وعرضها، حدث ارتباك في رأس النظام وفى مؤسساته الرئيسية فانعكس ذلك علينا رغم قدرتنا على قمع المتظاهرين مهما كانت أعدادهم، صدرت قرارات عشوائية لم أكن والكثيرون من زملائي راضين عنها فأخلينا لهم الشوارع والميادين وكان ذلك خطأ فادحا، تتابعت الأحداث بسرعة وانهارت الدولة ومؤسساتها واضطررنا للتراجع مؤقتا تحت ضغط الأحداث مستعدين لجولة قادمة لا ريب فيها.

ديسمبر 2011
نص من كتاب لم يكتمل بعد
بعنوان "شخصيات من كتاب الثورة"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى