عبد القادر وساط - ابن علي يأمر بامتحان الشعراء..

حدثنا صاعد بن الحسن عن أبي الحسن الوراق عن أبي عوانة عن أبي حامد الكوفي، قال:
بعثَ صاحبُ نجدان في طلبي، في ليلة من ليالي الربيع، فانتقلت إلى قصره العامر، فلما بلغتُ بابَه، رأيتُ مكتوباً عليه بخط كوفي جميل، مضاء بالمشاعل:
قَصْرٌ عليه تحيةٌ و سلامُ = نشَرَتْ عليه جَمالَها الأيامُ
فقلتُ لنفسي: الساعةَ يسألني الطاغية عن قائل هذا البيت وأنا لا أعرفه، أو لعلي أعرفه ونسيته من رهبة الموقف، فاغتنمت فرصةَ قربي من الحاجب، فملتُ عليه وقلت له: " يا سيدي، هلا أخبرتني من هو صاحب البيت البديع، المنقوش على باب هذا القصر المنيف"، فأجابني بازدراء، دون أن ينظر إلي: " هو لأبي الوليد أشْجَع بن عمرو السلمي "، فشكرته وتوجهت إلى داخل القصر وقد زايلني شيء من القلق الذي كنت أشعر به.
وكان ابنُ علي جالسا على سريره الأخضر، وبين يديه كتاب ينظر فيه، فلما رآني رفع رأسه إلي وقال:
- يا أبا حامد، ما الذي يقوله الناس عني في الحواضر والبوادي؟
قلت:
- يا سيدي، أنتَ من نجْدان في بيتها ومن بيتها في وسطه، والناسُ مُجْمعون على محبتك، مُجْتَمعون على نصرتك، مرددون لما قاله فيك الشاعر بكْر بن النطاح حين مدحك بقوله:
لهُ همَمٌ لا منتهى لكبارها = و همّتُهُ الصغرى أجَلُّ منَ الدهرِ
قال أبوحامد :
فنظر إلي ابن علي عندئذ و هو يمسك كتابَه بين يديه، ثم قال:
- قاتلَ اللهُ ابنَ النطاح، ما أشعره! لقد هممتُ غيرَ مرة باعتقاله وإرساله إلى سجن الكثيب على الرغم من مدائحه فيّ، وذاك لأنه عِجْليّ، من بني سعد بن عجْل - وأنت تعلم العداوة التي بين بني نجدان وبني عجل. ولا تنسَ أيضا أنه كان، فيما مضى من الزمن، صعلوكا يصيب الطريق، ولكنني عدلت عن اعتقاله لأن له أشعارا جميلة على المنسرح، فمنها قوله:
( كأنما سيفُ قاسم أجَلٌ = في شفرتيه القضاء و القدَرُ)
ومنها قوله:
( يا نفسُ لا تجزعي منَ التلفِ = فإنّ في الله أعظَمَ الخَلَفِ)
ومنها قوله:
( يا مادح البحر و هو يَجهله = مهلا فإني قتلتُهُ علْما ) ...
ثم إنه نظر إلي ليرى ما يكون رأيي، فقلت له :
- أجل أيها الزعيم، إن له شعرا عذباً على المنسرح، وهو شعر يتغنى به الناس لسهولته وعذوبته. وقد بلغني أن الشيخ أبا عبيدة اللغوي النحوي يَرويه ويَستحسنه.
فلما نطقتُ بذلك الكلام، تغيرَ وجهُ ابن علي وشرعَ يرمقني بنظرات السخط، ثم قال:
- ويلك يا أبا حامد، كيف تَذكر أبا عُبيدة، وهو لغوي بصري، في عقر قصري؟
قلت:
- يا سيدي، إنما ذكرتُه لأنه بلغَ الغايةَ في النحو واللغة والأدب. وأنت خير من يَعلم أنه لا يروي عن العرب إلا الصحيح. وقد قال عنه الجاحظ: " لم يكن في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم من أبي عبيدة. "، وله تصانيف زادت على المائتين...
قال ابن علي:
- يا أبا حامد، ما كان ينبغي لك أن تذكر هذا البصري الألثغ في مجلسي! كأنما غاب عنك أنه رجُلٌ جَبّاهٌ، بذيء اللسان، وسخ الثوب، خارجيّ المذهب كاره للعرب، وأنه ميال للمُرد، وأن أبا نواس قد هجاه بذلك فقال:
صلّى الإلهُ على لوطٍ و شيعته = أبا عُبَيدةَ قُلْ بالله آمينا
فأنتَ عندي بلا شك بقيّتهمْ = منذُ احتلمتَ و قد جاوزتَ سبعينا
قال أبو حامد :
فأدركت عندئذ فداحةَ الموقف الذي صرتُ إليه، وقلتُ لنفسي " ضعتَ والله يا أبا حامد وعمّا قليل يبعث بك الطاغية إلى سجن الكثيب، حيث تقضي ما تبقى لك من العمر، ما لك طعام في وعاء ولا شراب في إناء، إلا الأسودان: التمر والماء. فانظر كيف تتدارك الأمرَ بحسن الحيلة ". ثم إني قلت للطاغية، وأنا أسأل الله حسنَ العاقبة:
- يا كبيرنا وزعيمنا، إنما ذكرتُ أبا عبيدة لأنه كان شديد العداوة لبعض علماء البصرة، مع أنه منهم. بل إن الأصمعي نفسَه كان إذا أراد دخولَ المسجد، قال لمن معه: " انظروا لا يكون فيه ذاك " - يعني أبا عبيدة - خوفاً من لسانه. فهذا ما جعلني أتجرأ وأذكره في مجلسك، فإن عاقبْتَني فبحقك وإن عفوتَ عني فبفضلك.
فأطرق ابن علي قليلا، ثم رفع رأسه إلي وقال:
- يا أبا حامد، لقد برح الخفاء وانكشف الغطاء، وأنتَ تعلم أن أولى الناس بالعقوبة أقدرُهم على العفو ...
قال أبو حامد :فكدتُ و الله أن أصحح كلامه و أن أقول له: " نعم يا سيدي، إن أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة "، ثم أدركت أنه قلبَ الكلام عامدا، كما يفعل دائما عند الغضب ،فبدا لي أن ألين موقفه قليلا بإنشاد شعر على المنسرح، فقلت له:
- يا سيدي، لقد بلغت بي الشقوة أن جعلت نفسي غرضا لعقابك، فأنا مثل ذلك الرجل الذي قال عنه ابن الرومي على المنسرح:
( أعرف في الأشقياء لي رجلاً = لا ينتهي أنْ يَصيرَ لي غرضا )
فلما سمع الطاغيةُ ذلك البيت انفرجتْ أساريره بعض الشيء، ثم قال لي:
- قد عفونا عنك يا أبا حامد، فلا تعد إلى مثلها أبداً، واعلم أني استقدمتك إلى قصري لأحدثك في أمر جلل. فقد قررتُ أن أمتحن شعراء نجدان وأن أسألهم عن رأيهم في الرجُل يزعم أنه شاعر ولكنه لا يستطيع النظم على المنسرح: أشاعرٌ هو أم متشاعر أم في منزلة بين المنزلتين؟، فمن قال بأنه شاعر نكلنا به وربطناه بالقيود ووضعناه في سجن الكثيب، ومن قال إنه متشاعر أحسنا إليه وأجزلنا له في العطاء، ومن قال إنه في منزلة بين المنزلتين، أمهلناه شهرا ثم عدنا لامتحانه. واعلم يا أبا حامد أننا جعلناك على رأس الممتحِنين، فاستعد لهذه المهمة الجليلة منذ اللحظة وإن أشكل عليك أمر من الأمور فعد إليّ ولا تخش في الحق لومة لائم .
قال أبو حامد:
فغادرتًُ قصره بعد أن ابيضت ملاءة الفجر، وأنا لا أعرف كيف يكون هذا الامتحان، أو هذه المحنة التي سيعاني منها الشعراء. بيد أنني كنت مسرورا مع ذلك بعودتي إلى أهلي وبنجاتي من غضب الطاغية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى