محمد علي الرباوي - بوقـاش..

اِنطلق القطارُ بالمسافرين، على الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. كان ولدُ علي جالسا قرب النافذة. كانت الحقول خضراءَ، يفوح منها أريجُ الربيع. كانت الأشجارُ محملة بالعصافير وهي تغرد للسواقي التي تشق الحقول. يتقاسم ولدُ علي المقصورةَ مع جماعة من الشباب بزي موحد. كانوا يتحدثون حديثا عن بلد غريب..... كان ولدُ علي يصغي بشغف لهذا الحديث. فإذا غمامةٌ تحط على جفنيه.
فتح عينيه حين سمع مكبرَ الصوت يقول: "تنجداد.. تنجداد.. نهايةُ السير". نظر في ساعته، فإذا الوقت زوال. نظر حوله مندهشا: ليس بالمقصورة أحد! خرج من القطار، ولم ير مسافرا واحدا بمحطة تنجداد. خرج من باب المحطة، فإذا الشارع قفر لا يعبره إلا أزيز الشمس المشتعلة. كان وحده في الطريق. تساءل في نفسه ما الأمر؟ ماذا حدث لتنجداد؟ ماذا حدث للمسافرين؟ أين هم؟ لم يجد أحدا ليجيبه عن هذه الأسئلة. النخيل نفسه غادر قصور تنجداد. كانت الشمس في السماء بحجم البحر. نخلةٌ يابسة دعته ليستريح عند جذعها. وضع حقيبته أرضا. وضع جسده أرضا، واتكأ على جذع النخلة. هبت ريح. ارتعشت النخلةُ، فإذا صوتٌ يخرج من جُمَّار النخلة يقول: "مرحبا بك يا أيها الأهبل". التفت ولدُ علي إلى الصوت، فإذا رجل يخرج من النخلة، عليه عباءة زرقاء، ورأسُه يحمل عمامة بلون العباءة، ووجهه يميل إلى سمرة فاتنة، تزينه لحيةٌ تزرع الرهبة في من يحدق فيه. فقال والخوف يملأ جوفه بأشجار باسقة: "من تكون؟". رد الرجل: "أنا بُوقَاشْ؟". فقال ولد على: "أنا لا اعرف أحدا بهذا الاسم الغريب!". رد: "أنا الجني الذي أَمْلَى عليك الهبل الذي تنشره بجدارك، وجدار عبقادر". أخذ ولد علي جرعةَ ماء من قربة كانت معه. بلل بها ريقه الذي كاد يضيع منه. ثم التفت إلى بوقاش قائلا: ما كنتُ أود أن تملي علي ذاك الهبل، كنت أفضل أن تملي علي الشعر. قال بوقاش: "هذا ليس من اختصاصي، إنه من اختصاص بَيَّار؛ فهو الذي أملى عليك رياحين الألم، ثم انصرف عنك حين أحس بوجودي إلى جنبك". فقال ولد علي: "وددتُ لو التقيتُ به". ما كاد ولد علي ينهي كلامه حتى انشق عرجون النخلة نصفين، ومنه خرج صوت جوهري يقول: "مرحبا بك يا ابن علي، من زمان ما زرتك، كان آخرَ ما أعطيتك هو سلطانُ باليما وبوجميع في سبع موجات". فقال ولد علي: "إذن أنت بَيَّار". قال الصوت: "نعم...". فقال ولد علي: "بالله عليك لِمَ لَمْ تُلْهِمْني شعرا على المنسرح؟". رد بيار: "ذاك بحر عزيز في شعر الأوائل. ولكن لو جاءت إحدى معلقاتهم عليه لانتشر انتشار الطويل، والبسيط، والكامل، والوافر، والخفيف. ألا تعلم أن الرجز في عصركم كان بحرا عزيزا، فلما كتب عليه السياب أنشودة المطر انتشر انتشارا كبيرا؛ فجاءت بعض دواوين البياتي على هذا البحر، وزاد في انتشاره ذيوع الناس في بلادي لصديقك عبد الصبور". فقال ولد علي: "أوافقك الرأي، لكن قرأتُ هبلا لعبقادر يقول فيه بأن للمنسرح ليونةً، ورقة. فهل صحيح هذا الرأي؟". رد بيار: "الليونةُ، والرقةُ تجدها في الحقيقة في بحرين يرق بهما الرثاءُ، والغزل". قاطعه ولد قائلا: "وما هذان البحران يا بيار؟". رد: "البسيط، والكامل الآحذ". فقال ولد علي: "وما سر هذه الرقة، والليونة في هذين البحرين؟". قال بيار: "السر في هذا يكمن في الجزء الثالث، والرابع من البسيط؛ وهما جزآن لا يلحقهما التغيير؛ حيث يلتزمان هذه الصورة: مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ ( -ه-ه--ه ---ه)، هذه العروضةُ المخبونة وجوبا، هي التي خلقتْ هذه الرقةَ في البسيط، شريطة أن تكون مسبوقة بتفعيلة سالمة من الزحاف. هذه الصورة نجدها في الكامل الأحذ: فعروضته تأخذ شكل عروضة البسيط ، وهذه العروضة تكون أيضا مسبوقة ب"مُتَفَاعِلُنْ" المضمرة، أي مسبوقة ب: "مُسْتَفْعِلُنْ". هذا الإضمار يزيد من رقة الكامل هذا". فقال ولدُ علي: "هذا صحيح، ولكن أين المنسرح من كل هذا؟ مِنْ أين جاءته الرقة، والليونة؟". فقال بيار: "تعرف أن المنسرح يتزن على مستوى الإنجاز ب: مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُلاَتُ مُسْتَعِلُنْ أو مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُولاَتُ مُسْتَعِلُنْ. وهذه الصورة الأخيرةُ أكثرُ رقة من الصورة الأولى. هذه الصورة الثانية شربتْ رقةَ البسيط". قال ولد علي: "كيف؟". رد بيار: "لاحظ هذا التقطيع: -ه-ه--ه -ه-ه-ه- -ه---ه، ألا ترى أن ضرب هذا المنسرح قد انتهي بما انتهى إليه البسيط؟ أي انتهى بِ: –ه-ه--ه ---ه". فقال ولد علي: "لم أفهم.. هذا كلام أهل الجن، حدثني بلغة بني آدم". فقال بيار: "كأن وزن المنسرح هو مُسْتَفْعِلاَتُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ ومِن هذا الوزن الرقيق استنبط الأندلسيون المعروفون بالرقة وزنَ اللاحق،وهو: مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُولُنْ فَعُولُنْ ومن الصورة الأولى استنبط الجاهليون المسكونون بالصحراء مخلع البسيط، وهو مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعُولُنْ. دليل آخر على رقة المنسرح أن الشعراء الذين كتبوا أشعارا شعبية استنبطوا من المنسرح بحر المقتضب الشديد الرقة ...".ثم تدخل بوقاش قائلا: "لِمَ كل هذا الصداع يا بيار؟ الهبل إبداع تحرر من كل هذه القيود". رد ولد علي: "يا أخي أريدكما معا..." ثم التفت إلى بيار: "بالله عليك زرني متى اشتقتُ إليك". رد بيار: "لا.. أنت الآن تقترب من السبعين، وزيارتي لك سَتُتْعِبك، اهتم أنت وعَبْقَادر بهبلكما…". ما كاد بيار ينهي كلامه حتى شَعُر ولد علي بالأرض تتحرك قريبا من النخلة. ظهرتْ شقوق أمام عينيه. تطاير الترابُ، كأنما الماءُ سينبجس من هذه الأرض، فإذا بصندوق يخرج من الأرض كجثة بعثت من قبرها. كان الصندوق كبيرا، وعظيما. خاف ولد علي. اقترب الجنيان من الصندوق . فتحاه إذا بتلفاز يخرج منه، ويجلس قريبا من ولد علي، ويقول له: اُنفخ فيَّ لأشتعل". نفخ ولد علي، فملأ الضوءُ الشاشة: كان مِيسِّي يراوغ لاعبي النادي الملكي: "هدف.. هدف.."، بهذا صاحت قصورُ تنجداد. طار بيار من شدة الفرح، ثم غاب عن الأنظار . التفت بُوقَاش إلى ولد علي قائلا: "سأعود إليك حين تطلبني". بقي ولد علي يتابع المباراة، وأذناه مع عبارات المعلق، وعيناه على ميسي وهو يجذب اللاعبين إليه،كانت الفراشات هنالك في الجبل، تطوف حول المصباح. حرك ولد علي يديه فإذا هما جناحان. حمله الجناحان إلى قمة الجبل، ثم احترق.


1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى