فتحي إسماعيل - أحلام عزيز


الصبّ تفضحُه عيونُه و تنمّ عن وَجْد شؤونه*
تغنيت بها أمامه ذات مرة.. فبكى، ثم سرعان ما مسح دموعه بكم جلبابه الفضفاض، وحدجني بعينين يمتزج فيهما التحدي بالرجاء:
ـ أين الفضيحة؟ أم أنك بحت بسري؟
شملتني رجفة خوف وشفقة، وسرت قشعريرة برد كسهام كتيبة رماة اخترقت ظهري، وأنا أهز رأسي بقوة نافيًا، ومؤكِدًا في الوقت ذاته حرصي على سره. فما عرفت عاشقًا صَدَق كما عرفته، ولا صدّقت بأن إحداهن تستحق كل هذا العشق كمثل أحلام .. تلك الفراشة التي تشبه البشر، رقيقة القسمات والطباع، لم تكن الأجمل بين بنات القرية ولكن لحضورها بريق لا تخطئه عين ولعينيها ألق يخطف القلب، في ابتسامتها سحرٌ لا يُقاوم، قليلة الكلام والظهور، عزيزة الصحبة. لا أدري متى لاحظتُ تلك النظرة السريعة التي رمَقَتْ بها عزيز ، لأرتد نحوه مندهشًا فألمح ذلك البريق الذي يشع من عينيه وكأن قمرين يطلان من حدقتيه الواسعتين، كانت نسائم ذلك العصر الربيعي تحرّك شواشي شجرة الجميز التي نستظل تحتها، وتراقص ذيل فستانها السماويّ وهي تحاول إيقافه بيديها الخمريتين، بينما يعلن ارتباك شفتيها ونظرة عينها الجانبية عن فشل تحاول مداراته بابتسامة خجْلى. في تلك اللحظة وحين ولّت ظهرها لنا متخذة الطريق الترابي النحيل بين غيطان القمح التي حولت شمس الأصيل لون عيدانه إلى الذهبي؛ كنت أتوق لأقرأ نبضات قلب عزيز، تأوهت بشدة فقد صدمتني دمعتان انحدرتا على وجنته السمراء. أشار إليّ أن ننهض، وافقت رغم أننا اعتدنا المكوث حتى تفترش السماء بالنجوم، كنا ونحن نتبع خطواتها نستقبل الجبل البعيد والذي بدا غائمًا والشمس تسحب ضوءها عنه، وعينا عزيز معلقة بالمنازل القريبة. ثم سرعان ما جذب ذراعي عائدًا بنا ... ارتدّ عزيز متهدل الكتفين .. دامع العينين .. يجرجر ساقيه وقد تهدّل جلبابه على بدنه .. وخر على الأرض الترابية تحت الجميزة وهو ينظر إلى بنظرة حملت كل ما يخالجه من إحباط وخوف واستجداء...
- هل تعتقد بثمة أمل؟
نطقها في همس أشبه بالنحيب .. و رغبة يكسوها اليأس... ربما عودة عقل خاطفة أيقظته من حلم المتيّم وردته لواقع لا يحمل للعاشقين غير الخوف، والرهبة والألم.. فتلك المنطقة من القرية وحتى الجبل تتبع عائلة الشمايل .. و أحلام ابنتهم، محظورة على عائلة الجهايم أهل صديقي عزيز لخصومة قديمة توارثتها الأجيال، خصومة قسمت الأرض و الهواء والماء، حتى قنوات السقي ومصارف المياه والترع اقتسموها قديما في جلسة عرفية، لا مشترك بينهم .. لا شوارع تجمعهم و لا أفراح، فقط حق دفن الموتى لعائلة الجهايم، بحيث يسمح لهم بالمرور ليدفنوا موتاهم والعودة،غير هذا أي خرق للمعاهدة .. يعني الموت. وكان أبلغ ما أجيب به هو الصمت .. فمن أنا حتى أحل عقدة الدهور المظلمة، و كيف لكلماتي أن تفت في جدارات الكراهية والعداء التي فصلت بين العالمين.. أنا مجرد فقير ابن فقير من عائلة عدد أفرادها لا يتجاوز المائة .. ولا يمتلكون إلا بضع قراريط تجعلهم أقزامًا في مواجهة العائلتين الكبيرتين .. ولكن بيني وبين عزيز صداقة نبتت مع نعومة أظفارنا .. لذا كنت قانعًا بدوري، رقة صاحبي ونبل مسعاه شجعاني على المضي في بذل كل جهد لمساعدته، فأنا لست طفيليا في ذلك الحدث .. بل بطل أساسي في القصة، أنا همزة الوصل و الكلمة التي وثّقت رباط الحب بينهما، أنا اللغة التي أنطقت مكنون العيون، وأفصحت عن جيوش المعاني، أنا قاريء الرسالة الأولى منها وكاتب الكلمتين الأولتين منه إليها. صديقي الذي لم يخط يومًا حرفًا ولو بعصا على الأرض، ولم يكن من قبل يرى في ذلك عيبًا ولا نقصًا، هكذا وجد جده و أباه وأخوته.. رغم يسر حال عائلتهم وبحبوحة معيشتهم؛ إلا أنهم عزفوا عن كتّاب القرية و مدرستها، و انشغلوا بفلاحة الأرض وتربية المواشي. ولكنه ومنذ أن رأى.. تبدّل، لم تعد الطريق وسيلة إلى الحقل، ولكن غاية للانتظار والتفكير والشرود، لم تعد الشمس ميقاتًا للوقت بل ملجأ للبث والنجوى، وبات للقمر حاجة عظمى وقيمة أكبر من ذي قبل.. باتت للحروف حاجة، ورغبة فبدأنا دروسًا قطع فيها شوطًا عظيمًا، كانت الشمس قد أعلنت عن رحيلها بقسوة و تركتنا في ظلمة حالكة دون ونيس من نجمة شاردة، حين أعلن لي في صوت كأنه يصدر من كائن خرافي، عميق ..قوي ..صارم :
- غدًا سألقاها..
- ماذا ؟
همست في ارتياع، ودقات قلبي تكاد تطغى على صوتي، و أنا أسأله في رجاء واستنكار:
- هل تدرك حجم المخاطر التي تسعى إليها؟
لم أكن أرى عينيه ولكني شعرت بأنهما تلمعان في تحدّ وإصرار، جعلاني أظل الليل بطوله أفكّر في ذلك اللقاء وكيفيته ومكانه و نسبة مخاطره حتى طلع الفجر فتجهزّت للقاء،ورغم أنه لم يسألني مرافقته، بل طلب مني الابتعاد عنه طوال اليوم تحسبًا لأي مخاطرة.. خاصة وقد تناقلت الألسنة في همس مشوب بالرهبة سيرة العاشقيْن، و تردد اسمي ك عرّاب و شاهد، ولكني ما كنت لأفوّت لقاءهما الأول، كيف؟ ومتى؟ .. سلامهما ..كلامهما .. عيونهما. . لون الكون كيف يكون حين اجتماعهما. ورغم يقيني بضعفي أمام المخاطر التي ستحاوط هذا اللقاء إلّا أن شيئًا ما بداخلي كان يستحثني لمواجهته معهما. كانت الشمس تتوسط السماء، والقيظ يدفع الحمائم والعصافير والبهائم والبشر إلى هجوع قسري، وحرارة الأرض الترابية تخترق النعال وتوخزالأقدام كإبر ملتهبة، وأنا أراه يخرج من بيته متجهًا نحو بيوت الشمايل، ملتحفًا بكوفية بيضاء، تغطي وجهه إلا عينيه، تبعته من مسافة بعيدة .. وهو يختفي وسط عيدان الذرة في الأرض التي تفصل بين العائلتين، ما كنت لألحقه وما شئت لأنتظر في مرمي العيون فاختبأت عند الجميزة التي شهدت بداية القصة. مرّ الوقت ثقيلًا رتيبًا لا يقطعه سوى صوت بومة بعيدة، و مقطع من قصيدة خطر لي فرددته، لأتغلب على خوفي وقلقي، مع كلماتها بدأت أغيب مع صورة لعزيز وأحلام يقفان تحت ظلّ الشجرة... "وحامت روحنا السكرى خطى عصفور... على باب الهوى تهنا...وذاب الكون، فى درب الهوى ضعنا.. فما عدنا سوى ظلين قد عاما على موجة... نجوب البحر، لا نجم ولا ساحل.."* أخرجني من شرودي صوت رصاصة انطلقت من مكان غير بعيد، طارت على إثرها باقي كلمات القصيدة وحمامتان وسرب عصافير كان يهجع فوق أغصان الجميزة، سقطت ثمرة اصطدمت بالجذع العجوز، انفلقت كاشفة عن لون دموي مفزع.. ثم ران الظلام على كل شيء. ـــــــــــــ



هوامش:
1- أحمد رامي
2- محمد عفيفي مطر

.

تعليقات

تحية اخي فتحي
شكرا لك على ثقتك بموقع الانطولوجيا .. ونتمنى ان يروقك ..
بحثت عن سيرة ادبية لك بغية ادراجها في ركن البيوغرافيا .. مع صورة لك راجين ان تبعث الينا بترجمة ادبية
مع التقدير


اسرة الانطولوجيا
 
أعلى