جوتيار تمر - قراءة في نص " مواسم على كف غيمة " للشاعرة الفلسطينية عبير هلال

النص :
مواسم على كف غيمة
عبير هلال
كبرق نيسان تحتلهُ مساحات الوهم
تحلق في فضاءاته أسراب الارتحال
لوطن ليسَ يسكنها ..
تنسل من بين أصابعه خلسة ,,,
أفواجهم تأكل الحدود
وأية حدود؟؟
الأمطار تغسلهم ,,
تتربع في انحناءات رؤوسهم ..
هوياتهم مقاصل يشنقون عليها ..
تتلبسهم أحجية عشتروت
وسنابل حقولها
تستقرضهم من أيار يومين
لتغزلهم في بيادرها ..
شموسهم تسترخي بكسل
على مقاعدها الوثيرة تنفث دخان غربتهم
تعزفهم على أبواقها كصفير قطار لن يعود
تطحنهم دواليبها قبل التقاء الجدائل..
يعلقون غبار رحيلهم على المدى
ترسم مجددا أمواج بحورهم الهادرة
على محياها ..
تودع بذورهم ..
تمسك بواقي خيوطها
تطبطب عليهم قبل وسمهم بشعارها..
تذرف ُقبل الحنين كترياق على شظف ..
هي مواسمها المعدة لهم ..
يسرقون منها بضعُ أمنيات شفيفة
يطرقون بعصي أناملهم آخر ثمارها
يتأملون صورهم المنبثقة من إطارات توحدهم بها
على غيث استدانته من كف غيمة

القراءة : جوتيار تمر
مواسم على كف غيمة
يأتي العنوان صادماً في النص، ومبرراً في الوقت نفسه، فالرؤية النصية حين تكون سبقية يجد الشاعر/ الشاعرة نفسه مجبراً على الانقياد للمسار الذي يجب سلكه لايجاد مدخل ذا علائقية متناغمة مع الرؤية التي يريد نزفها، وليس سكبها، لان الاخيرة ربما تاتي وفق دفقات شعورية متناثرة ومتباعدة، ولكن الاولى تأتي بصورتها الحيثية النابعة من صميم الانفعال الداخلي مع الحدث المراد رصده وتدويره وفق معطيات خاصة تعبر عن المكون الجواني للذات الشاعرة لتبرهن على تفاعله وانفعاله في الوقت نفسه، لذا نجدنا هنا امام محاكاة رائعة للذات مع العنوان المرتبطان ضمنياً داخل دائرة الزمنية المتحركة اللامحدودة.
عبير هلال
كبرق نيسان تحتلهُ مساحات الوهم
تحلق في فضاءاته أسراب الارتحال
لوطن ليسَ يسكنها ..
تنسل من بين أصابعه خلسة ,,,
أفواجهم تأكل الحدود
وأية حدود؟؟
البدء بالتشبيه اتى ضمن دائرة خاضعة للمنطق العنواني، حيث لم تجد الشاعرة ما تعلل به مواسمها وتوظفها كمدخل استعاري للنص، فلجأت الى التشبيه ” كبرق نيسان ” ليست العلة في البرق هنا، انما في نيسان فالبرق النيساني لايكتفي بوضع الصورة المتوحشة امامنا، انما يتخللها مساحات محتلة من الوهم، هذا الوهم ليس بساكن مقيد انما مرتحل، وليس من صورة ابلغ تفسر الارتحال مثل غيمة ، وهذا ما يثير التساؤل لماذا هذا الارتحال، والاجابة لاتتاخر ” لوطن ” انه اذا المعضلة والعلة الاساس في الحراك الموسمي النصي الذي تريد الشاعرة ان تجعلنا نعيشه ضمن دائرة الجغرافيا الزمنية ” المواسم ” وكأنها تريد ان تقول لاتقف حدود وطني عند موسم واحد انما وطني لاتتوقف فيه المواسم والارتحال لاسباب ليست بمجهولة فالاسراب ترتحل نعم ولكن افواجهم تأكل الحدود، ولايبرر فعل الارتحال الا ان يكون هناك ما يدفع لذلك، ولايوجد مثل القتل والتهجير سببا دامغاً لذلك.. هذه اللغة الساردة، تحتفظ لنفسها بالنسق الشعري ايضاً.
الأمطار تغسلهم ,,
تتربع في انحناءات رؤوسهم ..
هوياتهم مقاصل يشنقون عليها ..
تتلبسهم أحجية عشتروت
وسنابل حقولها
تستقرضهم من أيار يومين
لتغزلهم في بيادرها ..
شموسهم تسترخي بكسل
على مقاعدها الوثيرة تنفث دخان غربتهم
تعزفهم على أبواقها كصفير قطار لن يعود
تطحنهم دواليبها قبل التقاء الجدائل..
التزام الشاعرة باسقاطات المواسم جعلتها تقحم في النص دلالات كثيرة موحية في مضامينها، وذات علاقة مباشرة بالعنوان، فالامطار لايمكن ذكرها دون الحاقها بموسمها واعادتها الى منطق ” غيمة “، ولكن هنا اتت الاستعارة وفق رؤية متداخلة بين الانصياع لمنطق العنوان والمواسم، وبين المهمة التي كلفت الشاعرة الامطار بها، فهي هنا لكي تغسل، وهدفها الذين لديهم يعيشون في ذواتهم وقع المقاصل والمشانق، فروح الانتماء تجبرهم على البقاء وعدم الانسلاخ من هويتهم، وفي الوقت نفسه تلك المقاصل حين توضع من قبل مسببي هجرتهم وارتحالهم تكون الامور مرتبكة وتجعلهم يعيشون انفصاما ذاتياً موجعا، لذا نجد الشاعرة قد استعانت بعشتروت الاسطورية كي تثبت وجهة نظرها ، وكأن لسان حالها تترنم بفجيعة وطن وضع الغرباء مقاصلهم على حدوده وبدأوا يحصدون رؤوس اهلها فتغرب ناسه واصبحوا يعيشون حالة تيه منسية، لقد استطاعت الشاعرة ان تثبت رؤيتها باستعارات متقنة، حتى انها في لحظات انجرافها من الشعرية الى الحكي، السردي استطاعت ان تحافظ على التوازن بينهما، فالحكي اتى وفق معطيات الخطاب الشعر النثري المهيمن على اغلب مستويات النص.
يعلقون غبار رحيلهم على المدى
ترسم مجددا أمواج بحورهم الهادرة
على محياها ..
تودع بذورهم ..
تمسك بواقي خيوطها
تطبطب عليهم قبل وسمهم بشعارها..
تذرف ُقبل الحنين كترياق على شظف ..
هي مواسمها المعدة لهم ..
يسرقون منها بضعُ أمنيات شفيفة
يطرقون بعصي أناملهم آخر ثمارها
يتأملون صورهم المنبثقة من إطارات توحدهم بها
على غيث استدانته من كف غيمة
استمالت اللغة هنا الى شيء من التواري خلف الصورة المبهمة والتي ارادت منها الشاعرة الانتقال من تلك اللمحات المنفلتة من التماسك اللغوي الشعري الى الحكائية، فعادت تؤثث عوالمها البلاغية بتدفقات بلاغية اختزالية، لاتظهر معالمها بصور مباشرة انما تفرض على المتلقي البحث والتعمق كي يستوعب التوظيفات البلاغية والصورية معاً، وهي على الرغم من تدويرها الاغترابي للرؤية واقحامها في مجاهيل صورية نابعة من الالتحام الذاتي بالمفردة من جهة والتحامها معا بالحدث النصي ” الرؤية النصية” من جهة اخرى الا انها اجمالا تعيد رسم ملامح الذين تخاطبهم الشاعرة ضمن دائرة الحدود الاولى، وضمن دائرة الارتحال الاولى، وضمن دائرة اللاغتراب الذي تم فرضه عليهم بسبب المساحات المحتلة من تلك الدائرة، لذا فلا هي تستطيع التنكر لها، ولا تستطيع الانحلال منها فالتوحد هنا كأنه اية الصمود والانصياع في وقت واحد، ولذلك تجد انهم يسرقون بعض الاماني ويعلقونها داخل الاطارات التي يستدل منها علامات التوحد بالوطن على الرغم من الاغتراب، وكأن هذا السياق ما جعل الشاعرة لاتستطيع التهرب من المواسم ولا ” الغيمة ” واغلاق النوافذ بوجههما، فكأنها تقول على لسان المغتربين لو ان الوطن سقط غيثا علينا افضل من الغربة وتبعياتها ، لذا نجدها باقتدار تعيد القفلة على البداية، فكانت الختمة اشبه بخيط يعيد المتلقي بسرعة البرق النيساني الى العنوان نفسه، فتتراشق الصور بشكل درامي في ذهنه، وتجبره على ان يعيشها مرة اخرى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى