رؤوف جنيدي - صيحة الفقر

وكما عودنا دائمًا، ما زال الزمن يضرب بلا رفق وبلا هوادة، وبأيد غير حانية، وجوهًا هرمت وقد بلغت من الكبر عتيًا، وزحفت عليها نيران الشيب كزحف النار في الهشيم، حتى إنها لم تعد تحتمل مرور نسمات غير عليلات فقط من جوارها، بعد أن بليت ملامحها وتآكلت معالمها، إثر احتكاكات خشنة مع ثمانين عامًا من أراذل العمر، وصل فيها الأمر إلى حد التشابك بالأيدي مع أيام ضنينة الشفقة شحيحة الذوق، ما راعت وهنًا على وهن، حط تباعًا فوق كاهل الرجل، ولا جراحات رانت على قلبه السقيم، ولا أحداثًا عصفت به عصف ريح صرصر عاتية سخرها عليه القدر ثمانين عامًا حسومًا، أضحت فيها آماله صرعى كأنها أعجاز نخل خاوية، ما راعى خلالها القدر شيبًا اشتعل في الرأس، ولا تجاعيد تنبئ عن أن الرجل لم يعد يحتمل، بعد أن فاض الكيل، وبلغ السيل الزبى، ولم يعد في قوس صبره منزع، وبات احتماله آخذًا في النفاد.

تشاجر الرجل مع أيامه ولياليه لسنوات عديدة، إلى أن أتم بعد معاناة زواج ابنتيه اللتين أقامتا في محافظتين تبعدان عنه كثيرًا، نظرًا لظروف عمل زوجيهما، متمنيًا أن يظلهما الله بظلال المودة والرحمة، وأن يكون كل منهما سكنًا للآخر، وبعد أن مر قطار زواجهما فوق جسده وعافيته، جارًا خلفه كل ما أدخره الرجل، وكل ما قبضه ثمنًا لآخر أملاكه التي باعها، كي تعينه على نفقات زواج ابنتيه، وقد خرج الرجل من معركته هذه منهك الروح والجسد، بعد رحلته الشاقة التي تضرب لها أكباد الرجال سنينًا.

دارت رحى الأيام ثقيلة عليلة، وكأن قطارًا يبحر، أو سفينة ً تمشى على اليابس، فلم يعد بين فكيها ما تطحنه، اللهم إن كانت عظام الرجل التي أفلت بها. فلم يعد لها دخل ولا خرج إلا من جنيهات قليلات يتقاضاها الرجل كمعاش شهري ينتظره عند حافة كل شهر، دونه خروج الروح. تستند تلك الجنيهات القليلات على أخوات لهن يأتي بهن الابن الذي يعمل في وظيفة متواضعة، تدر عليه بعضًا من قطرات أمطار الصيف، التي سرعان ما تتبخر لشدة عطش الأرض التي تتساقط فوقها. هذا الابن الذي تزوج في بيت أبيه بعد أن تعذر عليه العيش في مسكن منفرد، وقد أنجب ابنًا بلغ من السنين ثلاثًا، وفي انتظار وافد جديد بعد أربعة أشهر تقريبًا.

اشتد شظف العيش بالأسرة، وانهالت عليهم الآلام تترًا، وكأن شواظ من نار ونحاس أرسلت عليهم. ما عادت تكفيهم تلك الجنيهات القليلة، فهم الخمسة، وسادسهم حفيدهم الحاضر الغائب، فلا يعلم ما في الأرحام إلا الله، ويعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد ، والذي ليس الذكر عنده كالأنثى، ولا عند من يتخيرون منه سبحانه وتعالى، ولكن لا فرق عند هؤلاء - ذكرًا كان أو أنثى - فهي نفس ستأكل وتشرب، أحكم الفقر الخناق حول رقابهم.

باتت نفقات المأكل والمشرب متعذرة، تعذر عليهم إطعام طفل ومولود هو قادم لا محالة، تعذرت عليهم نفقات علاج الأب الذي داهمته الأمراض، ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا ألا ملجأ من الفقر إلا سفر الابن. حزم الابن حقائبه بعد أن قدم آخر ما كان يتحلى به معصم زوجته قربانًا للسفر الذي لا يعلم جدواه إلا الله. غادر الابن تودعه دموع أم ثكلى، وقلب أب ارتطم بما لم يكن يتمناه لابنه الوحيد، وخفقان قلب زوجة لا يدوي طنينه إلا في أذن الزوج، ونظرات طفل تدور عيناه لا يعرف ماذا يحدث من حوله. وصل الابن إلى حيث كان قاصدًا، راح يعمل بجد ليل نهار عساه أن يعود لأسرته بما يخلف عليهم سنوات الجفاف، آملًا أن يعود لينفق الأب من مال ولده كيف يشاء. تمنى أن يحيا أبوه ما تبقى من العمر حياة كريمة، بعد أن قدم كل ماله لأولاده، فهم زينة الحياة الدنيا، راضيًّا بالباقيات الصالحات فهي خير عند ربه ثوابًا وخير أملًا.

مرض الأب واشتد به المرض. هاتفت الزوجة زوجها المسافر أن يحضر لشدة مرض أبيه. لملم الابن أشلاء غربته، وبقايا طموحات كسيرة النفس مهيضة العزيمة دس ملابسه في حقيبة العودة، ودس معها ما تبقى من حبات أمل، علها تنبت وسط الأهل والأحباب، اتشح بأدعية أمه التي ترافقه دائمًا، طوافة من حوله كحمائم السلام، داعية له أن يسدد الله خطاه. عاد إلى حيث سيرته الأولى آسفًا حزينًا، فلم تمهله الشهور الأربعة التي قضاها في غربته أن يحقق لأبيه ما كان يتمناه.

عاد الابن ليجد والده طريح الفراش يصارع المرض، وتصارع زوجته أيضًا تقلصات جنين في أحشائها إيذانًا بقرب قدومه بعد أن دخل شهره التاسع . حار الابن قرابة الشهر، بين أب على شفا الرحيل، وزوجة على أعتاب الولادة، حار بين اليأس الذي يطل من غرفة أبيه، والرجاء الذي بدأت ملامحه تزحف على أرض غرفة الزوجة، بين غروب وشروق، بين روح مغادرة، وروح آتية. حار أيضًا بين فقر، وموت بطيء، وكأنه انسحاب من الحياة خشية الإملاق أو منه، تضرع الابن إلى الله، آملًا منه العون والسند، بعد أن ضاقت اليد وضاق به الحال، فلن يلج جمله فى سم الخياط ليحيك قدرًا من التفاؤل، إلى أن جاء يوم دوى فيه صوت حشرجة قوية من غرفة الأب لتعلن رحيله، ودوت فيه أيضًا صرخة قوية من غرفة الزوجة لتعلن قدوم الحفيد.

وقف الابن شارد الذهن حائرًا، يصيح بأعلى صوته: "لو كان الفقر رجلًا لقتله الإمام علي، ولو كان حقًا رجلًا ما فعل بنا ما فعل". أسرعت الأم تهدهد وتربت على كتف ابنها، وتقول : "يا ولدي: لله ما أعطى ولله ما أخذ"، إن يقض شيخ هرمٌ فمكانه طفل جديد، خلق يموج ببعضه والله يحكم بما يريد، يا بني: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" صدق الله العظيم.

رؤوف جنيدي.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى