عبد الرزّاق بوتمزّار - ماذا لو لمْ ألتفت في ذلك اليوم؟!

حرصتُ، منذ سكنتُ في ذلك الحي الخلفي، على أن أوقّر سكانه ويوقّروني. لا أكلّم أحدا ما لم يكلمني. "اقْحب وْزْها مْع النّصارَى وْليهودْ وخلّي بْنات الحومة عْليك شْهود"... يا لَذلك "البرغوث" اللعين! كلماته البعيدة ما زالت تسكن ذاكرتي، كأنْ قيلت بالأمس فقط. "لم أعد أقحبُ مع النصارى ولا مع غيرهم"، رددتُ عليه كما كنتُ أفعل، بهمسة شيطانية، وقد عبرتْ صورتُه، ذلك الشّيطانُ، في ذاكرتي. لكنْ ما زلت "أَزهى"، في كل الاحوال، تابعتُ. وبدايةُ "زهوي" سيجارةُ الصّباح. لا أدخّنها إلا جالساً بقربه، بائع الموت بالتقسيط ذاك، في رأس الشارع.

في تلك الحُومة الخلفية حرصتُ، دوماً، على ألا أكلّم أحدا. من قال السلام رددت عليه ومن لم يفعلْ؟.. يْمشي يقُوّد مْع الطريقْ! وسأُقوّد مع طريقي دون أن ألتفت، أبدا، إلى الوراء. (ماذا استفدتُ من كلّ من عرفت في كل تلك الأحياء التي سكنت؟ فقط حرمتني معرفتهم من تدوين قصص كثيرة وحكايات) كنت أُذكّرني حين أجد جمعاً في مكان قريب. أتجنّبهم وأتفادى الخوض معهم في أي حديث.
لكنّك لا تستطيع تفاديَ الجميع إلى الأبد، مهما حاولت. أول هؤلاء الجيرانُ (اقتصرتُ على تبادل التحية مع الأقربين منهم). الحُسين، مُول الحانوتْ (ويسمّونه "بُوقالْ") ممّن لم يمكن أن أتجاهلهم إلى ما لانهاية. عبد الله الخضّار، بدوره، لم أستطع تفاديه. يقع محله، ويبيع فيه الدجاج كذلك، في رأس الحومة، عند نهاية الساحة الواسعة التي تفصل مساكن الحي العشوائيّ بعضها عن البعض. يُحرّك لي رأسه وأُلقي عليه تحية الصّباح. وأواصل طريقي دون أن ألتفت، أبدا، إلى الوراء.

لكنْ، في ذلك اليوم، خرقتُ القانون الذي احترمتُ دوماً، التفتّ إلى الوراء! لم أستطعْ مقاوَمة نداء فضول مُلحّ. عندما رمقته، في ذلك الصباح، جالساً قبالة الخضّار الشاب سكنتْني، في الحال، رغبة التأكد من تخميني. والتفتّ. يا إلهي! كان هو، ذلك الأحمق الشهير المعتزل.

مَن لم يُثرْه من مُجايليه وهو واقفٌ في ناصية أحد شوارع المدينة ممسكاً صورة للدكتاتور المغتال. (كان ذلك الدكتاتور، مثل كلّ مَن سبقوه من الجنرالات والضباط والجنود المتسلطين، يحكمنا بقبضة من حديد و... أشياءَ يندى لذكرها الجبين!). هو، لم يكن يتكلم. لا يقول كلمة واحدة. فقط رفع صورة الزعيم الخالد فوق رأسه (مُحْكماً القبض عليها) وهو يبتسم ابتسامة غامضة. أحيانا، يضحك ضحكاً هستيرياً وهو يشير إلى الصّورة الملونة، لمعبوده أو منبوذه، لم نكن ندري. لا أحد عرف قصّته مع الصورة، التي لم تكن تفارقه ولا تلك الابتسامة الملغزة. في صيف المدينة وخريفها، يَعرض وجه الحاكم، الضّاحك في الصّورة، وفي شتائها وفي الربيع.

بتعاقب الفصول، بهتَ كلّ شيء في الصّورة إلا ضحكة الدكتاتور. ظلت أسنانه البيضاء تُشعّ، داخل الإطار، وسط وجهه الممتلئ وجزء من ياقة قميصه الغالي. قال البعض إنه يحبّ الزعيم الخالد ويُبجّله. وحبّا فيه، لا يكاد يفارق صورته. لكنّ كثيرين كانوا مقتنعين بالعكس، إنه يسخَر منه ويحتجّ عليه. وحدهم من يعرفونه جيدا اقتنعوا بأنّ عرضه تلك الصورة على أنظار المارة إنما هو للاحتجاج على جبروت الزّعيم وجَوره وليس لشيء آخر.

حكى لي ابن خاله، ذات يوم، أن كثيرين يظنون أنه مجنون، وبالتالي لا حرج في أن ينتقد الحاكم، وبالطريقة التي يريد. التقيتُ قريبه ذاك قبل عشرين سنة لمناقشة أعمال نجارة سينجزها لي. وأنا أفاوضه ظهر لي، فجأةً، هناك، غير بعيد، شاهراً، بابتسامته المحيّرة، صورة الدكتاتور في وجوه من يمرّون أمامه. عندما انتبه إلى أنني أراقبه بفضول، أشار صوبه وقال:
-اللهْ لا يْرحم فيهْ شي عضْم، هادا اللّي خْرج عليه وْخلاّه فهاد الحالة.. إيّهْ أبّا عبد الحكيمْ أش دارت بيكْ ليّامْ! قْريتِ حْتى عْييتِ باش تحماقْ فهاد البلادْ بنتْ المْهبولة!
-هل تعرفه؟.. أقصد: هل هو مجنون فعلا أم يدّعي ليمرّر رسالة ما من خلال حمله تلك الصورة العجيبة؟... كثيراً ما ظننتُ أنه لم يكن...
-لم يكن مجنوناً، أهذا ما تودّ قوله؟
قاطعني النجار وهو يطوي ورقة سجّل فيها بعض المعلومات. تابع، وهو يُعيد قلمه بحركة متقنة بدا متعودا عليها:
-لا شك في أنك الأحمق وليس هو، بل كلّ أهل سِيبَة مجانينُ، مثلك، لظنهم أن عْبد الحْكيم، وْلد عمّتي، مْريض أو حْمق!

أخبرني قريبه النجار، في ذلك اليوم البعيد، بتفاصيل حياته. ضاعت أيام عْبد الحْكيم هباءً بين الدراسة والتطلع إلى الوظيفة المحترَمة التي لم تأتِ أبدا. لم يُقبل في أيّ مباراة تشغيل. كان الأكفأَ في جيله ودرس، بنجاح، سنوات طويلة بعد الباكلوريا. لكنْ لا شيءَ شفع له في الظفر بأبسط ما رجَا. فقدَ الثقة في كل شيء. "الوطن؟.. ماذا أعطاني، في النهاية، بعد كلّ هذا العناء؟ لا شيء بتاتاً، لكنّي... أعرف مَن وراء كل هذا. إنه ذلك الأخطبوط الشّره، رأس الأفعى الگرطيطة ذاك هو سبب كل شقائي. يعرف أني أفوقه علماً واطلاعاً وخبرة، فكيف يسمح لي بوظيف في جمهوريته المَوزية هذه!؟ لم يفعل ذلك حتى حين كان مجنَّد بائس، قبل أن يصير وزيرا للدفاع، فحاكما مطلقاً لهذه الرقعة الحمقاء من العالم؟".. كان يقول لنا في بدايات إصابته باللوثة، وهو يبعثر أوراقه وشهاداته فوق مكتبه القديم ويقذف بها في كل اتجاه. ثم، بعد فترة، صار يقوم في وقت مبكر ويغادر البيت إلى حيث لا نعرف. ثم شوهد وهو يعرض صورة الدكتاتور المغتال. كان العقيد لا يزال في أوج طاغوته حين كان عْبد الحكيم يخرج للاحتجاج عليه. لم يخفْ، مثل كلّ أولئك الجبناء، الذين بدؤوا يتكلمون الآن فقط، بعد مصرع الدكتاتور. (وكان يحكمهم بقبضة من حديد و... أشياءَ يندى لذكرها الجبين!). لم تكن نظراتهم المستطلعة، في تشَفّ أو فضول، تهزّه أو تُضعف همّته. يتسلل من فراشه قبل أن يصحو أي أحد في البيت ويغادر وفي يده صورة الدكتاتور. يختار زاوية إستراتيجية ويقف رافعاً الصّورة فوق رأسه. كانت تلك طريقتَه في الاحتجاج على الزعيم، الذي قال إنه درس معه وتفوّقَ عليه في كل شيء. لكنّ الآخر صار حاكما وعبد الحكيم فقدَ عقله.

لم أخرق قانوني جزافاً إذن، كان هو، ذلك الأحمق المعتزل الذي... قال "لا" للدكتاتور! واصلتُ بخطى أوسع. طاردتْني صورته وهو يحمل تلك الصورة. كان يحتجّ على الدكتاتور (وكان، مثل كلّ مَن سبقوه من جنرالات وضباط، يحكمنا بقبضة من حديد و... أشياءَ يندى لذكرها الجبين) ونحن نظنه مجنونا. لم يصمت، مثلنا، على عدوان الدكتاتور. يا لَذلك الزّمن المجنون، لم يُعرَف فيه مَن العاقل ومن المجنون! سكت العقلاء على الهوان وخرج الأحمق فيهم يحتجّ. بصورة وإشارات مدروسة وتلك الابتسامة الغريبة، كان ذلك الأحمق المعتزل يقول "لا" في وجه الدكتاتور كل يوم يمر أمامه.

وصلتُ أخيرا. قبضتُ منه السيجارة وأشعلتها بأصابع مرتعشة. مججتُ منها بقوة ونفثت دفعة هائلة من الدخان. يبدو أنني لن أَزهى الليلة، تشابكتْ خطة يومي. ما كان علي أن ألتفت! صورة الهاشمي، بائع السجاير، تتحرك أمامي مهزوزة وصوته يأتيني من بعيد ولا أتبين منه شيئا. تركته. عدت، شاردا، نحو تلك العتبة الواطئة. "اللعنة! يبدو أنْ لن أَزهى اليوم أيضا".. رحت أكلّمني. تلاحقت الأسئلة في ذهني المشوش. سألتُني، وأنا أستعيد كلمات قريبه النجار، "لكنْ لماذا لم تُواصل احتجاجك يا عْبد الحْكيم؟ لم تكن حكيما وأنت تتخذ هذا القرار، لو تدري. لماذا تواريتَ عن الأنظار وهذا الدكتاتور يتجبّر علينا أكثر ممّا كان ذلك المقبور يفعل ولا أحد يحتجّ؟!.. هل ترى هذا الذي يحكمنا الآن بدل الدكتاتور المغتال أكثر عدلاً؟ من يحتجّ على هذا المستبدّ بنا الآن هنا وقد اعتزلتَ الجنون والاحتجاج يا عْبد الحْكيم؟! مَن يقول "لا" للدكتاتور الذي يحكمنا الآن؟ مَن؟!".. قبضتُ أربع سجاير وتركتُ بائع الموت البائس. لم أسمع كلمة ممّا قال فلمَ أبقى بقربه؟ وفي زاويتي، في سطح البيت تدبّرتُ أمرها. تخيّلتُ كل شيء، من الوجه المبتسم إلى الياقة النظيفة الغالية. حدّدتُ المقاس واخترتُ، في خلوتي وأنا أَمجّ مزيدا من دخان الموت، الألوان وكلّ شيء. حرصتُ على أن ينفّذ عامل المختبر ما أريد بالتفاصيل الدقيقة. ولم أنم ذلك اليوم إلا وهي في حضني.

في أولى ساعات الصّباح الموالي، قيل إنني شوهدتُ وأنا أبتعد، مثل شبح من زمن آخر، في غبش الدّرب الناعس. انسللتُ من فراشي البارد وغادرت (بدون رجعة، كما قيل) ذلك الكوخ في الحي الخلفيّ.

لم ألتفتْ وأنا أعبُر الأزقة والدروب صعودا صوب الشارع الكبير. وعند مفترق طرُق يمرّ منه موكب الدكتاتور يوميا وقفتُ، أخيرا. قيل إني درستُ المكان بنظرات سريعة قبل أن أختار الحيّز الأمثل. سحبتُها برفق من المحفظة الجلدية التي أخفي تحت قميصي (وكان أقدم ما وجدتُ من قمصاني) ورفعتُها عاليا، وفي زاويَي فمي ارتسمت ابتسامة لم أعهدْها. وقيل إني شوهدتُ شاردا، رافعا صورة الدكتاتور. في ذهني المشتت كانت الأفكار تتوالى: "من قال لك إن هذا الدكتاتور أعدَلُ من سابقه؟ ما زالت دوافع الاحتجاج قائمة حتى بعد اغتيال ذاك الدكتاتور! دوافع الاحتجاج ما زالت قائمة يا بّا عبدْ الحكيم. انظر إلى هذا، إنه سببُ ما أنا فيه.

ومن بعيد، قيل، بدَا شخص مجنون ممسكاً صورة الدكتاتور
مشيرا إليها، بين الحين والحين، وهو ينبس بكلمات غير مفهومة. آه، ما أغباني! لماذا خرقت قانونِ؟ ما كان عليّ أن ألتفت! ما كان عليّ أن ألتفت!.. أخذت أقول لي في أول أيام احتجاجي على الدكتاتور (الذي -قيل- إنه كان يحكمنا بقبضة من حديد و... أشياءَ يندى لذكرها الجبين!)...
  • Like
التفاعلات: ماماس أمرير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى