كتاب كامل جورج سلوم - لمسة حب.. نص من كتاب (الإنفصال عن الواقع)

ليس مريضاً عادياً .. يستمرض ويتطبّب ويتداوى .. فيتعافى

إنه حالة خاصة شذّت عن تلك القاعدة

فالمريض العادي يتلقى منّا إضافة إلى الدّعم الطبي احتراماً وشفقة ومساعدة كحالةٍ إنسانية مستضعفة .. أما هذا المريض فلا يتلقى إلا اللوم والتقريع إضافة للعجز الطبي عن شفائه

فالطب مايزال إزاءه مكتوف الأيدي .. حائراً كيف يتدبّره .. فاكتفى بعزل المصابين به .. منتظرين قدرهم..

لذا غدا مريض (الإيدز) محكوماً بالإعدام .. بعد تريّثٍ محكومٍ بأهواء الفيروس وتقلباته .. وميله للهجوم أو الاستكانة المؤقتة

ومريضنا مكروهٌ أيضاً ..مذموم .. مرفوض ومعزول .. محجورٌ عليه في مصحّات خاصة .. لوحتها الإعلانية تجعلك تبتعد وتغيّر الطريق..

إنه مشفى الأمراض السارية والمعدية .. ابتنوه في طرف المدينة منذ زمن .. وكل أطراف المدينة تمتد وتتوسع بالمدّ العمراني .. إلا هذا الطرف أصابه الجذر ولم يليه المدّ .. فثبتت أمواج البناء عند هذا الحدّ..

فالناس لا تجد غضاضة من السكن جنيب المقبرة أو فيها لكنها لا تقارب مصحاً للإيدز إلا على مضاضة .. لذا ترى البناء مايزال منفرداً وحديقته واسعة ونظيفة .. تهاب الناس وطء حشائشها .. فمملكة الإيدز فرضت سلطانها وهيبتها .. و الزوار يأتون لزيارة مريضهم في ممرات خاصة .. ويهربون قبل أن يأتي عليهم موعد الزيارة..

وبهذا يكون السجناء الجُناة أفضل حالاً .. إذ لا تنتهي زيارة السجين من قبل ذويه حتى ينهيها الشرطي بالقوة .. وتتم المواجهة عبر حاجزٍ معدني يمدّ السجين عبره أصابعه لتلتقي بأصابع الزائر .. يقتربان عبر الحاجز حتى يتبادلان الدموع .. ويتراشقان القبل .. وبعض السجون سمحت بلقاءات زوجية مبرمجة للأزواج المحكومين مؤبداً.

والسجين المؤقت على علاته لم يفقد الأمل بالعودة إلى الحياة .. بل قد يستعدّ لها لتصفية حساباته المعلّقة .. أما سجين الإيدز فقدْ فقَدَ كل شيء.

ممرّضات المصحّ ملثّمات .. يرتدين قفازاتٍ واقية ويحسبن حساباً لأي تماس مع المريض المُدنف عند تطبيق العلاجات المكثفة..

أما الأهل فيتحدثون مع مريضهم من خلف الزجاج المقسّى لذا ترى بصمات المريض مطبوعة بمداد عرقه الذي قد يكون معدياً ... مواجهته أصعب من أعتى السجون .. حتى لمس أصابعه ممنوع ..حتى الرذاذ المنبعث من شدقه .. حتى الدموع التي تسيل من عيونه قد تكون معدية وقاتلة ... ذلك كله في الفترة الأولى ثم قد يخفّ الطوق عنه .. إنه تهويلٌ للمرض في البدء لبرمجة المريض وتثقيفه وإعادة تأهيله .. ثم يطلقونه كحيوانٍ نادر موسوم ومراقب .. ليس إلى المحيط الواسع بل ضمن بحيرة محدودة.

كان مسموحاً لي ارتياد ذلك المصحّ .. والجلوس والتشمّس في حديقته مع صديقٍ قديم ابتُليَ بهذا الداء .. أعطيته سيجارة ( و هو المشفى الوحيد الذي يسمحون فيه بالتدخين ) .. لا أقول يشجّعون بل يغضّون الطرف .. فالزمن الباقي لا يكفي لتنظيف الصدر من خبائثه .. قال لي:

- أنا لم أكن مدخّناً كما تعلم .. تعلمته هنا من زملائي .. أعلم أنه قاتل .. وعسى أن يعجّل بموتي ..ما يعذبني في الإيدز ليس صعوبة البرء منه بل صعوبة البراءة من اتهامات المقرّبين مني .. أنت تعرفني وتعلم أنني لا أقرب النساء إلا في الأحلام ... ولكن من يصدّقني من أبناء قريتي حاملي ألوية الطهر في فترة ما قبل الظهر!

ضحكت .. وقلت :

- أحسنت يا أخي فلم تفقد روحك المرحة .. وهذا يبشّر بعودةٍ ميمونة إلى الحياة بعد انتهاء فترة الحجر الأوليّ .. وبعدها ستخرج لتمارس حياتك العادية .. أعلم أنهم فقط يعطونك علاجاً داعماً مع بعض التثقيف الصحي عن مرضك حتى لا تساهم بنشره .. ثم تخرج وتراجعهم دورياً للمراقبة .. هذا كل شيء.

قال وقد تجهّم وجهه :

-أخرج ؟.. إلى أين ؟...إلى قريتي الخجولة من اسمي ومن مرضي ؟.. إنها وصمة عار في عائلتي إلى الأبد .. لابدّ من الاغتراب وتغيير المحيط .. ولكنّ فحصَ الإيدز معقودٌ بناصية جواز السفر .. لن أخفي عليك سرّاً أنني عزمت وثلّة من زملائي على الهجرة إلى دولةٍ مجاورة بطرق التهريب..

-وكيف ستعيش ؟.. وماذا تعمل بلا أوراق رسمية ؟

قال بحسرة :

-مثل زملائي .. تهريب وتخريب .. وأعيش كأي غريب .. حتى يأتيني النصيب

وضعت يدي على كتفه مربّتاً فارتعد .. لم يلمَسه شخصٌ عاديّ وغير مصاب منذ زمن .. قلت:

- عظيم .. مازال الشِّعر موجوداً في وجدانك الخصب .. أبدع في عزلتك هذه .. والله هذا المصحّ الجميل ما صحَّ لأي أديبٍ من قبلك .. هدوءٌ وجمالٌ وغنى بالملهمين .. ألم تواجه مُلهماتٍ هنا ؟ .. إنهنّ كنزٌ من الأفكار والأسرار.. المرضى ينفتحون على بعضهم فتتلاقح أفكارهم وعواطفهم.

- نلتقي بهن في المطعم فقط .. وهن مراقَبات أكثر منا .. أكرههن أخاف منهن .. إنهن بؤرة للمرض .. لكنْ فيهنّ جميلات والجمال لا يمحوه فيروس ولا جرثوم .. ولا سرطان .. واحدة منهن يصرخ الجمال منها صراخاً.. فتستصرخ فيك الحب .. فتنصت لأصوات أجفانها تخفق فوق اللحاظ الآسرة .. فيخفق قلبي الضعيف على إيقاعاتها..

- جميل .. وسيبدع قيسٌ عذريّاً لأنّ وصالكما ممنوع .. والحمل عندها جرمٌ كما قيل لكم..

قال وقد أسقط في يده :

- سمعت أنها حاقدة على المجتمع .. ولو أتيح لها الخروج ستفجّر قنبلة من الإيدز .. على سبيل الانتقام .. كلنا هنا نتعلّم الغضب على الناس .. ونحقن بعضنا بالغيظ (على وزن الايدز )عندما نفتح قلوبنا لبعضنا ونروي قصص العزل والفصل عن الآخرين .. تعال لنستمع لذلك الشاب الذي يفترش الأرض انبطاحاً تحت الشمس .. لا يريد أن يواجه نورها .. إنه خطِر يتعاطى الحقن سابقاً .. ويقال أنه ممارسٌ للواطة .. إنه غاضب حتى على النهارالذي يكشف الأسرار!

كان صعباً عليه أن يواجهنا .. منكبٌّ دائماً على الأرض يدقّها بقدمه .. ينطحها بجبينه .. ينكحها بصلبه .. وجهه معفّر بالتراب الرّطب .. كأنه خارج من جحر أو نفق مظلم .. قال بنبرة الواثق:

- حقنوني بالإيدز قصداً وعن سبق تصوّرٍ وتصميم .. يريدون حبسي ولم يجدوا عليّ تهمة كافية .. لقد تعلموا هذا الفن المستحدث من الاستعمار الحديث..

كتبوا في ملفاتي .. أنني أتعاطى الحقن المخدرة .. وعندي شذوذٌ جنسي.. أليس كذلك؟..

نعم فعلتها .. لأهرب من واقعي المرير .. ويأسي وغربتي في محيطي .. أما اللواطة فلأنني حقدتُ على كل النساء بعد أن خانتني وغدرت بي .. أنا أرى الرجال أكثر صدقاً وإخلاصاً .. يمارسون مع بعضهم حبّاً فقط .... بينما ثبت تاريخياً أن الدّعارة هي أول مهنة امتهنتها المرأة .. وكم كانت مهانة ومهينة .

آه لو أتيح لي الهرب لساعاتٍ فقط .. إذن لحقنت مرَضي في كلّ النساء .. وتركتهنّ يوزّعنه على أزواجهن .. فيتوازعنه في محيطهن .. ويورّثنه لأجيالهن!

قلت مستهجناً..ونسيت للحظات الرحمة والرأفة بالمريض.. وكأني في تلك اللحيظات وجدت عذراً لشرطيٍّ يضرب متهماً يبرر جريمته:

- أفٍّ .. إنك مرعب .. وخطِر .. كالكلب المسعور .. لو بيدي لأطلقت النار عليك.

- ههه .. أرأيتِ الحكم الصادر منك .. يا من تُسمّى طبيباً .. يا من أقسمت على احترام المريض..فلا عجب إذن من أولئك الجلادين.. نعم أنا كلبٌ مصاب بالسّعار وهذا المرض قد يقتلني اختناقاً .. فلم لا أعضُّ الجميع فيعانون ما أعاني ..نعم .. نعم .. الكلب المسكين المصاب يعضّ حتى الحجارة والمعادن .. قبل أن ترديه طلقات الراحة الأبدية.

عندما خرجت من المصح .. شعرت أنني كنت في قاعٍ منسيّ من قيعان الحياة .. والخروج منه يستدعي الاستحمام أولاً لغسل جسدك الذي لامس الفيروس .. والنوم طويلاً لغسل دماغك الذي لامس الغضب .. والصلاة لغسل أفكارك التي لامست الشر..

وعندما سأفكر بزيارة لاحقة لن أنسى أن أحمل باقة من الورد الأبيض لعلها تلامس بقايا الحب المعتلّ .. وبقايا الأمل المنسلّ..

إنهم بحاجة إلى لمسة حب .. فمن يجرؤ على الزكاة بها ؟

عندما كنت في بلاد الأزتيك .. تعرّفت بصحفيّ مشهور وعلى رأس عمله .. يقولون لك في بطاقة تعريفه أنه حاملٌ للإيدز .. وأنه متزوج من رجل! .. لم يكن بحالة تبادلٍ للغضب مع مجتمعه .. ولم يعضّ أحداً... ولم يصل بنا الأمر إلى الجرأة لتبرير زواج المثليين في شرقنا الجميل..

لكن نريد فقط لمسة حب لأولئك المرضى .. ولمسة قبول .. فقد يصاب واحدنا به .. عند حلاقٍ يتفنّن بشاربنا .. أو بنقل دمٍ عابر .. أو بيد طبيب أسنانٍ لاهٍ عن أدواته .. وبعدها لا تغضب فلم تنتهِ الحياة بعد!

فقط لمسة حب تحوّل الوحش المفترس .. إلى أليف


د. جورج سلوم
*******************************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى