ناصر سالم الجاسم - قراءة في البناء الفكري والفني لقصص فاطمة الرومي

المنطلقات الفكرية للقص :

تأتي الكتابة القصصية عند فاطمة الرومي إيماناً بحتمية التغيير في البناء الفكري والسلوكي للرجل الشرقي ( السعودي خاصة ) ، وجهاداً أنثوياً معلناً على سلطة ذكورية عتيقة ، سلطة جاهلية موروثة ، سلطة تحرص قبيلة الذكورة على تعليمها لأجيالها حتى لا تموت الذكورة في الأنوثة أو تصبح مسخاً ممسوخاً مشوهاً ، مما حد بالقص إلى أن يتحول إلى استطباب لداء دوي أصيب به الضلع الأقوى ، الضلع الذي خلقت منه الأنثى ، وتحول القص إلى الاستطباب لم يأت على حساب حصة الفن في النص القصصي ، إنما جعل الكتابة مركبة تركيباً دقيقاً وحذراً من طبقتين إبداعيتين ، طبقة الفن القصصي وهي الطبقة الأعلى الظاهرة ، وطبقة الاستطباب الفكري والسلوكي وهي الطبقة الأدنى المخبوءة ( الرسالة المكتوبة بالحبر الأنثوي السري ) .

وسر الكتابة هو عليك أيها الذكر المتسلط المهيمن عليّ أن تقرأني بمعطى حضاري هو ديني ودينك ( الإسلام ) ، لقد كنت أيها الأقوى تئد جسدي في الجاهلية والآن توقفت عن ذلك وصرت تئد صوتي ورأيي ومشاعري وأحاسيسي ، إنك تفعل فعل أسلافك الجاهليين ولكن برحمة أقل !! ، لا تكن سجاناً لي !! ، فالسجانون كثر ، الأب والزوج والأخ والأبن ، حرر فكرك أيها الذكر وحررني معك فأنا لا أود أن أتحرر وحدي فأقع في الوحل ويدك تغمسني فيه أكثر ، إنني عازمة على محو صدأ علق بعقلك وآتية لإزالة قذارة تاريخية ترسبت على نفسك ، وفاطمة الرومي تقول ذلك بإيقاع قصصي هادئ وسرد متماسك لا حشو ولا ترهل فيه ، وبحب كبير يستوعب الفحولة الذكورية ، وليهذبها لا ليقزمها ، إنها تريد أن تبني مع الذكر وليس البناء فوقه ، وتود في كتابتها القصصية رسم ذكر مثالي السلوك والتفكير مع الأنثى.


البطل بروز الفكرة وغياب الملامح الخارجية :

الشخصية الإنسانية في القصة القصيرة ذات بعدين ، بعد خارجي وبعد داخلي، وعلى القاص أن يرسم الشخصية ( البطل ) أو غيرها رسماً خارجياً ( سيمياء الوجه والشكل العام للجسد ) أو رسماً داخلياً ( المشاعر والأفكار والانفعالات ) ، والأصل في فن القصص أن يظهر القاص البعدين معاً ، علماً بأن الاكتفاء بإظهار بعد واحد لا يقلل من جودة القصص أو فنيته ، وقد اعتاد القصاصون الكبار أن يحملوا أبطالهم بالأفكار أو بالفكرة الأساسية للقصص أي ( المعاني ) حتى جاءت المقولة النقدية البطل يساوي الفكرة ، والقاصة فاطمة الرومي في قصصها الثلاث ( عينة الدراسة ) ألغت البعد الخارجي للبطل والبطلة إلغاءً تاماً ، واكتفت بإظهار البعد الداخلي للبطل والبطلة ، وهذا الإلغاء وإن كان فنياً وينصب في المقولة النقدية البطل يساوي الفكرة لكنه لا ينسجم مع الآية القرآنية ( يعرف المجرمون بسيماهم ) { سورة الرحمن : الآية :41} والتي تؤكد على أهمية البعد الخارجي للشخصية الإنسانية ، مع ملاحظة أن بطل قصص فاطمة الرومي الثلاث ليس مجرماً حسب التوصيف القانوني والتشريعي لكلمة مجرم ، إنما هو مجرم يمارس التعذيب النفسي والاضهاد الفكري في حق الأنثى ، ولا يحمل في سبيل تحقيق ذلك سلاحاً أبيض أو سلاحاً آلياً ، فسلاحه الوحيد السلطة الذكورية المتضخمة ! وفكرة التعذيب النفسي والاضطهاد الفكري جلية في القصص الثلاث ، ولك أن تلاحظها في هذه الجمل الناطقة ، وأقول ناطقة لأنها ليست بحاجة إلى استنطاق ، وحتى لو فتشت عن مغلقات في القصص الثلاث فلن تجد شيئاً مغلقاً يحتاج إلى تأويل أو تفسير ، فالقصص الثلاث سهلة لا تعقيد فيها .

في القصة الأولى ( سكوتها علامة ) رصدنا هذه الجمل التي تبرز عذاب الأنثى الروحي بزواجها من ذكر كهل ، والذي ما كان له أن يحدث لولا وجود سلطة الأب الذي أرغم ابنته على هذا الزواج غير المتكافئ .

ـ بدأ في أيام مرضة الأخيرة كطفل عنيد يصعب إرضاؤه ، إذا كان يود من زوجته الشابة أن تبقى إلى جواره غير عابئ بما تبديه من أسباب تجعلها تغيب عنه بعض الوقت .

ـ فحينا يتمنى أن يعمر طويلاً حتى تهرم هي ، وحينا يتمنى أن تسبقه هي إلى العالم الآخر ، هذه الأمنية الأخيرة تبعث الطمأنينة في قلبه الهرم .

ـ راودته فكرة شيطانية حينما كانت غرفته تغص بزائريه ، لم يتردد لحظة أن يعرضها على زوجته الشابة .

ـ أريد أن تدفني معي في قبر واحد فأنت لي وحدي ، لن يمسسك بشر بعدي ، صعقت لهول المفاجأة .

ـ تسمع لحظتها بوضوح تام عقلها يرفرف بجناحيه وهو يبتعد .

ـ تعزي ذاتها المهزومة بكلمات طالما سمعتها وقرأتها مراراً .

ـ فيما هي تستجدي دمع عينيها كدليل على رفضها الصامت .

ـ تسورها مشاعر النقمة على كل من حولها حتى أعضاء جسدها .

ـ تدعك قلبها برفق تستحثه على الصمود ، لكنه هو الآخر يخذلها .

وفي القصة الثانية ( عندما تغيب عائشة ) رصدنا هذه الجمل التي تبرز عذاب الأنثى الروحي لزواجها من ذكر لا تحبه ، وما كن هذا ليحدث لولا سلطة الأب الغائبة أيضاً عن النص ، والتي دفعت بعائشة إلى هذا الزواج الإجباري .

ـ قالت له ذات مرة ، , في لحظة من لحظات نفاد صبرها بأنها ستخرج من أسره فهي ... لم يدع لها فرصة لإكمال حديثها ، راح يضحك ساخراً من أفكارها .

ـ رأى خواءا غريباً يعمر فراغ عينيها الغائمتين ، خواء موحش .

ـ يقبض بكفيه على كتفيها ليهزها بعنف كشقي يهز شجرة منتظراً تساقط ثمارها .

ـ يهزها ثانية لعله يوقض تلك المرأة بداخلها ، تلك التي طالما ألجمها ، وأوصد دونها الأبواب والنوافذ .

ـ يهم بصفعها كما فعل مراراً .

ـ تخترق الأسوار والأبواب المقفلة كشبح أسطوري .

وفي القصة الثالثة ( جواز سفر ) نرصد هذه الجمل التي تبرز عذاب الأنثى الروحي لحرمانها من الحصول على جواز سفر ، وهذا الحرمان ما كان أن يحدث لولا سلطة الأب الحاضرة في النص ، والتي لم تكتف بحرمان الأنثى من الحصول على جواز السفر ، بل تعدت ذلك إلى الحرمان الأشد وهو حرمان الأنثى من مواصلة دراستها .

ـ يا إلهي شيء ممل أن تكون أيامك كبعضها .

ـ فهي أيضاً تحب السفر وتحلم بزيارة أجمل بلدان العالم ، أخبرت والدها يوماً بذلك وجاءها الرد صارماً كقسمات وجهه تماماً : سفر البنت عيب ، البيت هو مكان البنت ، البيت فقط .

ـ حزنت ودمعت عيناها وجمعت حزنها وألقته في تجاويف قلبها الصغير وأغلقته وأغلقت باب غرفتها عليها .

ـ جاءها صوت والدها كالرعد : إنك الآن تقرأين وتكتبين وهذا يكفيك ولا ذهاب للمدرسة من الآن .

ـ لقد قال كلمته وانتهى الأمر ، وتحول مفتاحها الذهبي الذي طالما حلمت به إلى رماد تسفه الرياح .

ـ ففقدانه يعني العودة مجدداً إلى هذه الدوائر وقد أصبحت أكثر رطوبة واختناقاً عبر هذه المقتطفات النصية من القصص الثلاث تجلى لنا البعدان الداخليان للبطل الذكر وللبطلة الأنثى ، فالذكر متسلط ، مهيمن ، سجان ، قامع للحرية ، مصادر للرأي والرغبة ، جاهض للحلم ، وائد للإحساس والشعور ، أناني ، متملك !! والأنثى خاضعة ، مسجونة ، مغلوبة على أمرها ، مضطهدة ، ممقوتة ، منبوذة ، آلة للإنجاب فقط ، لا رأي لها ، لا حلم لها !!


الشخصيات الثانوية سلطات إضافية ضاغطة :

الشخصيات الثانوية هي تلك الشخصيات التي لا يهتم القاص برسمها جيداً ، ويمنحها الحصة الأقل في المعاني ،ولكن لا مناص من إلغاء دورها في القصص وفي تسيير حركة الأحداث والنمو بها ، ونجد بعض القاصين يعتمد عليها اعتماداً كلياً في إبراز شخصية البطل ، وفي إظهار فكرة النص ، وهذا ما وجدته عند القاصة فاطمة الرومي ، ففي القصتين الأولى ( سكوتها علامة ) والثالثة ( جواز سفر ) أبرزت القاصة دور الشخصيات الثانوية وجعلتها مساندة ومعاضدة للبطل في تأدية دوره ، أما في القصة الثانية ( عندما تغيب عائشة ) فقد غيبتها تماماً واكتفت بشخصيتين اثنتين فقط وهما ( البطل والبطلة ) ، وجعلت الصراع دائراً بينهما دون تدخل أي شخصيات أخرى .

وقد نجحت القاصة نجاحاً إبداعياً واضحاً في هذا المسعى في قصتها الأولى (سكوتها علامة) حينما وظفت دور الأم خاصة والجدات والرجل الذي لم تسمه باسم معين وجعلت منهم جميعاً سلطات إضافية ضاغطة على البطلة الأنثى تدفعها إلى الفعل الخطأ في حق الذات أو مباركة هذا الفعل فقط ، وعليك أن تلاحظ هذا النجاح في هذه المقاطع السردية الثلاثة ، وأعزو نجاح القاصة في ذلك إلى أنها وزعت أثر السلطات الضاغطة على أكثر من شخصية وأنها جعلت هذا الضغط قديماً مورثاً من خلال ذكر عنصر الجدات وهو عنصر تاريخي ، في المقطع السردي الأول تأتي السلطة الضاغطة من قبل الأم وهي أنثى تمارس حضورها من خلال الذاكرة (انبعثت في زوايا ذاكرتها صورة أمها وهي تتلو عليها وصايا الجدات ، نظراتها كانت تقول لها شيئاً تعيه تماماً دفعها للقول : سأفعل كل ما من شأنه أن يجعلك ترقد بسلام ) .

وفي المقطع السردي الثاني تأتي السلطة الضاغطة من قبل رجل يمارسها علناً ( يصيح أحدهم مكبراً فيها هذا الوفاء : يا لها من امرأة ستتغنى الدنيا بسيرة وفائها قروناً قادمة ) .

وفي المقطع السردي الثالث تأتي السلطة الضاغطة من قبل الجدات والأم وهن إناث ( وجوه الجدات تظهر سابحة في فضاء الغرفة يتطاير من أفواههن رذاذ الكلمات فيما يبدو بينهن وجه أمها أكثر إشراقاً ، جئن حتماً ليباركن فعلها الذي سيجعل حواء أعلى شأناً بلا شك ) .

أما في القصة الثالثة ( جواز سفر ) فلقد ارتبك لدى القاصة رسم الشخصيتين الثانويتين ولم تستطع أن تجعل منهما سلطتين ضاغطتين إضافيتين ، فالأم والأخ خضعا أيضاً لسلطة الأب القصوى المهيمنة على كل السلطات في النص ( حاولت إقناعه بالعدول عن رأيه فلم تستطع ، استنجدت بأمها وأخيها لكن دون جدوى ) .

المكان سلطة اجتماعية جامدة ضاغطة :

المكان أرض الشخصية ، والمدى المغلق أو المفتوح الذي تتحرك فيه ، وهو الذاكرة المادية التي حفظت تاريخ الشخصية ، وشكلت هويتها المعرفية ، ولونتها بألوانها ، وطبعتها بطبيعتها ، فهو الذي يقدم لنا الخصوصية الإقليمية للشخصية ، ولكل مكان صبغة محددة ، وطبيعة مختلفة عن بقية الأمكنة ، ولا توجد قصة بلا مكان سواء بأن أو لم يبن ، إذ أن العدم في هذه الحالة يصبح مكاناً ، والمكان في قصص فاطمة الرومي ( عينة الدراسة ) صنفان اثنان فقط ، بيت سعودي وغرفة في مستشفى سعودي ، وهما فضاءان مغلقان ، مما يشير بصورة ِأولية إلى انغلاق الشخصيات الإنسانية التي تقطن هذين الفضائين المحدودين أو تتحرك داخلهما ، وهذا الانغلاق في جزء كبير منه إجباري تقرره سلطة المجتمع كله ، وفي جزء يسير منه اختياري تقرره السلطة الذكورية في البيت الواحد ، وهذا الانغلاق ليس بذي مستويات عدة ، إنه محصور في مستوى واحد هو علاقة الرجل بالمرأة ، وهذا ما تكشف عنه قصص فاطمة الرومي الثلاث ( عينة الدراسة ) ، ولا ننسى أن مجتمع السرد في القصص الثلاث خاضع لسلطة غير مباشرة هي سلطة المجتمع الغائبة / الحاضرة من خلال قوانينها وأفكارها وعاداتها ، مما يعني أن المكان الجماد له قيمه الخاصة به والتي تؤثر على الشخصيات سلباً أو إيجاباً ، وقد تأثرت الشخصيات في قصص فاطمة الرومي بالمكان تأثيراً سلبياً ، ونالت البطلة ( الأنثى ) التأثير الأشد ضراوة وقسوة ، فلم يعد المكان موئلاً خصباً للأحلام والرؤى الجميلة والخيالات اللذيذة ، إنما تحول إلى بؤرة ضيقة للرؤى الفاسدة والأفكار المريضة والوساوس القهرية ، والشعور بالتبرم والضيق والملل والنهايات المفجعة كالمـوت والهروب إضافة إلى سفح الدموع وإبداء مشاعر الحزن والخوف ، وقد تعاضد المكان مع البطل الذكر في إحداث وتكوين هذه المشاعر السلبية للمكان إلى الحد الذي نفى فضيلة الشاعرية منه .


شهادة حول التجربة :

أشهد أن فاطمة الرومي قاصة موهوبة تمتلك الحد الأدنى من الإبداع في كتابة القصة القصيرة خاصة ، مما يؤهلها مستقبلاً إن شاء الله لخوض غمار الكتابة القصصية بكافة ألوانها وأشكالها والتنويع في استخدام تقنياتها ، فلديها المهارة الفنية الكافية على رسم الشخصية الإنسانية ( محور القص ) ، والإحساس الوافر بالعنصر المكاني في النص القصصي ، والتنوع في أفكار القص ، والهم الخاص (القضية التي تكتب من أجلها ) ، والمعرفة باستخدام طرائق السرد ، ويساند ذلك كله بلاغة جيدة من التشبيهات والاستعارات ، وبإمكانها خلق عوالم قصصية خاصة بها وحدها تميزها عن سائر القاصات السعوديات .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى