حيدر عاشور - مذكراتٌ.. قصة قصيرة

قرر توفيق سلمان فجأة ان يكتب مذكراته بعد ان افنى ثلاثين عاما في تصليح السيارات بأنواعها على الرغم انه تخصص في السنين الاخيرة بتصليح السيارات اليابانية ، ولهذا يعزو الكثير اطلاق تسمية ( توفيق الياباني) ، ولهذا يعتز بهذا اللقب ويضحك بقوة بينما يهتز كرشه المتقدم قليلا امام جسده معلنا عن حال ميسور وترف ظاهر حيث ان توفيقا لم يكتف بمحل واحد في التصليح وبدأ يستثمر امواله في مجالات كثيرة واخذ يختلط بكل الطبقات والمستويات ، ومن يتطلع في عينيه يجد بريقا من الذكاء ، وتعلم كل شيء والإصغاء الى الاخرين ولهذا بدأ يعقد علاقات مع زبائنه من المتعلمين ، المدرسين ، والصحفيين ، والأطباء ، واخذ يدعو المطربين الى مجلسه في مكتب استأجره ليوسع من دائرة علاقاته وقبل اسبوع وفي ليلة حفلت بكل المتع التقطت أذناه المرهفتان حديثا بين المتعلمين عن قضية مهمة هي كتابة المذكرات او على حد تعبيرهم السيرة الذاتية ، وتحدثوا عن مذكرات رؤساء الجمهوريات والسياسيين والوزراء ، والمفكرين ، والفنانين ، والأدباء ، وسمع ان الكثير من الراقصات والمطربات بدأن بكتابة مذكراتهن ، في نهاية تلك الليلة وقبل ان يأوي الى فراشه الوثير اتصل بمحاميه الخاص عبد الله الغضبان ليخبره بآخر ماينوي القيام به ... كان المحامي يغط في نومه العميق بعد تعب ومعاناة المحاكم وصعود السلالم والكلام الكثير الذي يستهلكه في مكتبه لإقناع الزبائن وإغرائهم للتوكل عنهم... لم يفهم مايقصده توفيق الياباني ولعن هذه الفكرة وأدرك ان شلة المتعلمين والمتنورين الذين يلتقي بهم هم الذين ادخلوا في رأسه هذا الاعلان والتصريح الغريب والمفاجئ ، وضحك في سره حين بادره توفيق بالقول انه يريد ان يحافظ على مذكراته من الناحية القانونية ، حتى لا تسرق من قبل المتطفلين او تستثمر كفيلم سينمائي او مسلسل تلفزيوني وغرق في الضحك في هذا الوقت المتأخر من الليل حتى ان زوجته الممرضة سهاد انتبهت اليه وبدأت تسترق السمع خوفا من ان يكون زوجها المحامي الموقر قد وقع في حالة غرام مع احدى زبائنه اللواتي بدأن يطرقن مختلف انواع الطرائق للإيقاع بالرجال والاستحواذ على رواتبهم وإمكاناتهم المادية ... فسهاد تؤمن ان اية علاقة بين الرجل والمرأة ثالثها المال ،اما المشاعر والرومانسيات وأنواع العشق فهي نوع من الستار والزيف غايته الايقاع بالآخرين في فخ الاستلاب المادي ولذا فعليها مراقبة زوجها لئلا يقع ضحية لإحدى زبائنه وإلا فما الذي يضحكه في منتصف الليل.
وحين شعر عبد الله بحاسة التلصص التي بدأت تعمل بجانبه تحدث بجدية وطلب من توفيق ان يمهله ليوم غد لكي يجتمع معه لإقرار وبحث الامر من مختلف جوانبه وابعد اذنه فجأة حين صرخ توفيق في اذنه وأعلن انه يريد المذكرات جاهزة بعد اسبوع فقد وعد الكثير بأنه سيوزعها في حفل يوقع به النسخ الاولى بعد ان تطوع احد اصدقائه بإبلاغ وسائل الاعلام من صحف وإذاعات وفضائيات بان توفيق الياباني سيقيم حفلا للتوقيع على مذكراته التي ستصدر قريبا.
في اليوم التالي اعتذر عبد الله الغضبان عن كل مواعيده في المحاكم وترك موكليه واتجه الى مكتب توفيق الذي نهض بكرشه وشاربيه الطويلين بتثاقل ،وقبل ان يجلس بادره:
- اذا لم تستطع تدبر الامر فسأبحث عن محام غيرك.
- سيد توفيق الامر ليس بهذه السرعة انت تعرف انه طلب غريب عن تعاملاتنا لقد جربتني بكل شيء .
- اريد ان اجربك الان بالمذكرات .
- ادع الله ان يوفقني معك هذه المرة ايضا ، ولكن ياسيدي اين هي المذكرات لكي اوفر لها الحماية القانونية.
يشعر توفيق بصدمة او مفاجأة لم يحسب لها حسابا دقيقا وخرجت منه الكلمات خفيضة:
- الا تستطيع انت كتابتها ... ألست محاميا.
- المحامي متخصص بالدعاوى وليس بكتابة المذكرات.
وهمس المحامي في سره : انا لم اسمع ان مصلحا للسيارات قد اقدم على كتابة مذكراته ... وماذا في حياته يهم المواطنين غير المطرقة وقطع الغيار وأنواع الصبغ وتصليح المحركات وغيرها من شؤون السيارات ولكنه لا يستطيع ان يرفض طلبا لأحد من الذين يستفيد منهم بمبالغ كبيرة كل شهر ... اقترح عليه ان يكلف احدا يجيد الكتابة والإنشاء وتوثيق الاحداث ورشح له صديقا قديما تذكره فجأة فانه يمتلك قلما ( يذبح الطير ) كان يعمل (عرضحالجيا) يدبج مختلف العرائض امام المحاكم سأتصل به واجلبه غدا .
وتقابل الثلاثة وبدأت الصفقة تأخذ طابعا جديا وعمليا ، وحين تم الاتفاق على ان يسرد توفيق الياباني حياته منذ طفولته وحتى يوم الاتفاق ليتسنى لمحمود ( العرضحالجي ) ان يسطرها ويدبجها بمعرفته ، ولكن طلبات محمود كانت مثار استغراب من قبل توفيق فلقد اصر الكاتب على حذف كلمة ( ياباني ) لئلا ينصرف الذهن الى السفير الياباني قد كتب مذكراته ! وهذه خسارة معنوية الى جانب طلبه بان تكون المذكرات في خمسة اجزاء لكي يتفرغ لها كونها تستحق التفرغ ، لأنه ليس من المعقول ان يتفرغ لجزء واحد ويترك مجالات رزقه ،وحين قاطعه المحامي بان حياة موكله لا تستحق خمسة اجزاء فهو ليس رئيس وزراء او طبيب العائلة المالكة ، وشعر بالإحراج بعد ان سلقه توفيق بنظرات شزرة وصرخ توفيق بأنه موافق لان حياته تستحق عشرة اجزاء لكنه سيختصرها بخمسة وكان طلب العرضحالجي الاخير مثار استهجان حين رغب بتزويده بأربعة اطارات لان سيارته متوقفة ويريد التنقل بها لانجاز المذكرات وتصليحها من بعض ( العطلات ) ... ووافق توفيق على مضض وأصر على ان يعطيه المبلغ على خمس مراحل مع انجاز كل جزء مع الاصرار على ان لا يذكر اسم امه الغريب بعض الشيء فهو لا يريد لامه ان تشتهر وتعرف بين الناس اعتزازا بها وحفاظا على غرابة اسمها.
وظل توفيق الياباني يحلم بانجاز مذكراته ذات الاجزاء الخمسة ويقيم الحفلات ويدعو الصحافة والفضائيات ومختلف الطبقات للتهيئة لحفل التوقيع بعد ان يرسل بها الى مطابع لبنان حيث اخبره اصدقاؤه المقربون بأنها افضل المطابع وتحقق نجاحا في التوزيع والدعاية على مستوى دولي الى جانب مشاركتها في معارض الكتب التي تقام في مختلف العواصم.
وكان يوما مشهودا حين سلم العرضحالجي الاجزاء الخمسة وتسلم مستحقاته امام عبد الله الغضبان وطلب توفيق من الكاتب ان يغيب نهائيا ويقطع صلته به فهو لجأ اليه حفاظا على سرية الامر وإلا كان قد طلب من احد اصدقائه المتنورين.
ليلتها غرق الجميع في اللهو والترف والسهر حتى مطلع الفجر وهم غارقون في الغناء والرقص والمزاح احتفالا بإكمال مذكرات (توفيق الياباني) الذي اصر على ان يكون اسمه على الغلاف لان الناس يعرفونه بهذا اللقب ولعن العرضحالجي الذي لا يفهم لعبة السوق.
وفي الصباح وبعد صحوته وهو في بيته توجه فجأة الى المكتب لأنه نسي ان يجلب المذكرات معه وحين وصل المكتب توجه بسرعة وانفعال الى احد الرفوف حيث وضعها بعد الصخب والهوس الليلي ... اصابته الدهشة وبدأ يتصرف كالمجنون وهو يقلب اثاث وموجودات المكتب دون جدوى ... وبدأ عقله يشك بكل الذين دعاهم في ليلته الحمراء الصاخبة وشعر بأنه يحسدونه ويغارون منه لأنه كتب مذكراته وهم بلا مذكرات... اتصل بعبد الله الغضبان وابلغه ان يقيم دعوى قضائية ضد قائمة من اسماء المدعوين وبمن فيهم حارس البناية ، وصرخ به ان يروج هذه الشكوى ويدفع كل ما تحتاج من نفقات ورشى من اجل المذكرات التي فقدها لكنه ستعيدها بكل الوسائل الحكومية والقضائية فهذه قضية العمر بالنسبة له ، وظل يصرخ ويصعق ويثرثر في ذروة انفعال لانهاية له.


حيدرعاشور

* قصة قصيرة من مجموعة ( بوح مؤجل )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى