إدوارد وليم لين - 14 - المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر.. للأستاذ عدلي طاهر نور

الحكومة - تابع الفصل الرابع

يحكم بطريرك الأقباط، وهو الرئيس الأعلى لكنيسته، في القضايا الصغيرة بين المتقاضين من طائفته في العاصمة؛ ويقوم مرءوسوه من القسس مقامه في البلاد الأخرى؛ وقد تستأنف أحكامهم أمام القاضي. وللمسلم الذي يعتدي عليه قبطي أن يرفع أمره إلى البطريرك أو إلى القاضي. أما القبطي الذي يقاضي المسلم فيجب عليه أن يقصد القاضي؛ واليهود كذلك. والفرنجة أو الأوربيون على العموم لا يخضعون إلى غير قناصلهم إلا إذا جنوا على مسلم فيسلمون إلى السلطات التركية التي تستأنف أمامها من ناحية أخرى قضايا الفرنجة الذين يعتدي عليهم أي مسلم

ويخضع سكان الأقاليم لحكم المستخدمين الأتراك والمصريين ويقسم القطر المصري إلى عدة مديريات واسعة يتولى كلا منها عثمانلي. وتقسم هذه المديريات إلى مراكز يديرها موظفون من الوطنيين يلقبون (بالمأمور) و (الناظر). وللقرية كالمدينة شيخ يسمى (شيخ البلد)، ويكون من أهل القرية المسلمين. وكان هؤلاء المستخدمون جميعاً، ما عدا شيخ البلد، أتراكا من قبل. وكان هناك ولاة أتراك آخرون يتولون المراكز، وكان يطلق عليهم اسم (كاشف) و (قائمقام) وقد حدث هذا التغيير قبيل زيارتي الثانية لمصر. ويشكو الفلاحون من أن حالهم أصبحت أسوأ مما كان قبلاً. ولكنهم على العموم يقاسون طغيان الولاة الأتراك أشد مقاساة

ويبين الحادث الآتي حالة الفلاح المصري في بعض الأقاليم بعض البيان

في ليلة ما ذهب حاكم مدينة طنطا وهو تركي سيئ السيرة والسلوك، إلى أهراء الحكومة بالمدينة، فوجد فلاحَين نائمين هناك. فسألهما من يكونان وماذا يفعلان في هذا المكان. فقال أحدهما إنه أحضر من إحدى قرى المركز 130 إردباً من القمح. وقال الآخر إنه أحضر 60 إردباً من أرض تابعة للمدينة. فقال الحاكم لهذا: (أيها اللص! هذا الرجل يورد 130 إردباً من قرية صغيرة، وأنت تورد 60 إردباً من أراضي المدينة؟. فأجاب فلاح طنطا: (هذا الرجل لا يورد القمح إلا مرة واحدة كل أسبوع أما أنا فأورده كل يوم. فأسكته الحاكم وأمر أحد الخدم أن يشنقه على فرع شجرة قريبة. فنفذ الأمر وعاد الحاكم إلى منزله. وفي الصباح التالي عاد ثانياً إلى الأهراء فبصر برجل ينقل غلالاً كثيرة إلى الداخل. فاستفسر عنه وعن المقدار الذي أتى به. فأجابه الخادم الذي شنق الفلاح في الليلة السابقة: (هذا هو الرجل يا سيدي الذي شنقته إطاعة لأوامرك ليلة أمس وقد أحضر 160 إردباً) فصاح الحاكم: (ماذا؟ هل بعث الرجل من قبره؟) فأجابه الخادم: (لا يا سيدي. إنني علقته وقدماه كانتا تلمسان الأرض، ولما انصرفت حللت عقدة الحبل. إنك لم تأمرني بقتله) فدمدم التركي قائلاً: (آها! إن الشنق والقتل شيئان مختلفان. إن اللغة العربية غنية. في المرة القادمة سأقول اقتل. اعتن بأبي داود) وهذه هي كنية الرجل

وأذكر حادثة أخرى تناسب المقام زيادة في بيان طبيعة الحكومة التي تحكم المصريين يومئذ: عُين فلاح ناظراً على المنوفية قبيل قدومي الثاني إلى مصر. وفي أثناء جباية الضرائب طولب فلاح فقير بمبلغ ستين ريالاً؛ والريال تسعون فضة فالمبلغ مائة وخمسة وثلاثون قرشاً فقال الفلاح إنه لا يملك غير بقرة لا تكاد تصلح شأنه وتقيم أوده هو وعائلته. فلم يأمر الناظر بضربه كما هي العادة عندما يمتنع الفلاح عن دفع الضريبة، وإنما بعث بشيخ البلد ليأتي ببقرة الفلاح المسكين، ثم أمر بعض الفلاحين بشرائها. فلم يستطع أحد شراءها لقلة المال. فأرسل الناظر في طلب الجزار وأمره بذبح البقرة وتقطيعها ستين قطعة. وبعد أن دفع إلى الجزار رأس البقرة أجرة له، أحضر ستين فلاحاً معاً وأجبر كلا منهم على شراء قطعة من البقرة بريال. فذهب صاحب البقرة باكياً شاكياً إلى محمد بك الدفتردار رئيس الناظر وقال له: (يا سيدي أنا مظلوم بائس. لم أكن أملك غير بقرة واحدة، بقرة حلوب كان لبنها قوتنا أنا وعائلتي، وكانت تحرث لي الأرض وتدرس الغلال. وكانت معيشتي كلها عليها. وقد أخذها الناظر وذبحها وقطعها ستين قطعة باعها إلى جيراني بستين ريالاً. بينما كانت تساوي مائة وعشرين ريالاً أو أكثر. أنا مظلوم بائس غريب عن هذا المكان لأني من قرية أخرى؛ ولكن الناظر لم يرحمني. وقد أصبحت أنا وعائلتي نسأل قوتنا ولم ندخر شيئاً. رحمتك وعدلك يا سيدي. أتوسل إليك بقداسة حريمك) فأمر الدفتردار بإحضار الناظر وسأله: (أين بقرة هذا الفلاح؟) فقال الناظر: (بعتها). (بكم؟). (بستين ريالاً). (ولماذا ذبحتها وبعتها؟) كان على صاحبها ستون ريالاً ضريبة على الأرض، فأخذت البقرة وبعتها وفاء للمبلغ. (وأين الجزار الذي ذبحها؟). (في منوف)، فأرسل الدفتردار في طلب الجزار، فلما قدم قال له: (لماذا ذبحت بقرة هذا الرجل؟) فأجاب الجزار: (إن الناظر أمرني وما كان لي أن أعصي أمره لئلا يضربني ويخرب بيتي. وقد ذبحتها وأعطاني الرأس أجرة لي)، فقال الدفتردار: (يا رجل هل تعرف من اشترى اللحم؟) فرد الجزار بالإيجاب. فأمر الدفتردار ناموسة بكتابة أسماء الستين رجلاً وإرسالها إلى شيخ بلدتهم لإحضارهم إلى منوف حيث أقيمت الشكوى؛ وسجن الناظر والجزار. وفي اليوم التالي قدم شيخ القرية ومعه الفلاحون الستون. فأخرج السجينان وأوقفا بين يدي الدفتردار فسأل شيخ البلد والفلاحين: (هل كانت بقرة هذا الرجل تساوي ستين ريالاً؟) فأجابوا: (يا سيدي إن قيمتها كانت أكبر) فبعث الدفتردار إلى قاضي منوف وقال له: (يا قاضي، هذا رجل ظلمه هذا الناظر بأخذ بقرته وذبحها وبيع لحمها بستين ريالاً. فما حكمك؟) فأجاب القاضي: (إن من يظلم أحد من الرعية طاغية قاس. ألا تساوي البقرة مائة وعشرين ريالاً فباعها الناظر بستين؟ إنه ظلم صاحبها). فقال الدفتردار لبعض جنده: (اقبضوا على الناظر وجردوه من ملابسه وأوثقوه). ثم قال للجزار: (يا جزار ألا تخشى ربك؟ لقد ذبحت البقرة ظلماً) فأوضح الجزار مرة أخرى أنه إنما اضطر إلى إطاعة أمر الناظر. فقال الدفتردار: (أتنفذ ما آمرك به؟) فأجاب الجزار: (نعم). فقال الدفتردار: (اذبح الناظر). وسرعان ما قبض الجند عليه وألقوه على الأرض ونحره الجزار كما ينحر الحيوان. فقال الدفتردار: (قطعه ستين قطعة). فنفذ الجزار الأمر والحاضرون يتأملون هذا المنظر ولا يجرءون على الكلام. ثم أمر الدفتردار الفلاحين الستين أن يتقدموا واحداً واحداً، وفرض على كل منهم قطعة من لحم الناظر بدفع ريالين. وبهذه الطريقة حصل على مائة وعشرين ريالا. وبعد انصراف الفلاحين سأل الدفتردار القاضي: ماذا يكون جزاء الجزار؟ فأجاب القاضي أن يجازى كما جازاه الناظر. فأمر الدفتردار أن يعطى رأس الناظر. وفرح الجزار بنصيبه الذي لا يساوي شيئاً وهو يحمد الله على أن حظه لم يخنه أكثر من ذلك. وانصرف وهو لا يكاد يصدق أنه نجا بهذه السهولة. أما صاحب البقرة فدفع إليه ثمن لحم الناظر.

ويتعدى أغلب حكام الأقاليم في طغيانهم حدود السلطة التي خولهم الباشا إياها؛ حتى شيخ القرية يسيء استعمال سلطته الشرعية عندما ينفذ أوامر رؤسائه. وليست وظيفة شيخ القرية منصباً يقبض صاحبه مرتبه بلا عمل. ففي وقت جباية الضرائب كثيراً ما ينال شيخ القرية من الضرب أكثر مما ينال مرؤوسيه، إذ أنه عندما لا يورد سكان القرية المبلغ المطلوب يضرب الشيخ لتقصير الفلاحين. وهو لا يدفع دائماً نصيبه حتى يشبع ضرباً. ويفتخر الفلاحون أجمعون بما يتركه الكرباج على أجسادهم من آثار لرفضهم دفع الضرائب. وكثيراً ما يتباهون بعدد الضربات التي نالوها قبل أن يدفعوا نقودهم. ويصف أمينانوس أرسليوش مصر في زمنه بالخلق نفسه

ويبلغ إيراد والي مصر، على ما يقال، ثلاثة ملايين جنيه إسترليني يرد نصفها تقريباً من الضرائب المباشرة على الأطيان ومما يؤخذ من الفلاح ظلماً بطريق غير مباشر. ويرد النصف الباقي على الأخص من الرسوم الجمركية والضرائب على النخيل ومن بيع محصولات الأرض المختلفة التي تكسب الحكومة منها ما يزيد على الخمسين في المائة. وقد نمى الباشا الحالي إيراده إلى هذا القدر باتباعه أشد الوسائل تعسفاً. فقد نزع من الملاك أراضيهم ومنحهم معاشاً بنسبة مساحة الأرض وصفاتها. ولذلك لم يكن للمزارع ما يخلفه لأولاده غير كوخه، وقد يترك لهم بعض الماشية وبعض مدخرات طفيفة

وتقدر ضرائب الأطيان المباشرة حسب مزايا الأرض الطبيعية. ويبلغ متوسطها حوالي ثمانية شلنات للفدان، ولكن الفلاح لا يستطيع أن يحصي ما تطلبه الحكومة منه. فهو يعاني الكثير من الطلبات غير المباشرة (وهي تختلف باختلاف السنين ولكنها تفرض على الفدان) من الزبدة والعسل والشمع والصوف والسلال المصنوعة من السعف، والحبال المفتولة من ألياف النخيل، وغير ذلك من المحاصيل. ويجبر الفلاح أيضاً على دفع أجرة الجمال التي تحمل الغلال إلى شونة الحكومة، وعلى القيام بنفقات عديدة أخرى. وتستولي الحكومة على جزء من محصول الأرض، وقد تستولي على المحصول كله بثمن مناسب معين لا يفي مع ذلك في عدة أقاليم ما تبقى من ديون الفلاحين المصريين. وكثيراً ما يضطر الفلاح للحصول على ضروريات الحياة، أن يسرق محصول أرضه ويحمل ما يستطيع حمله إلى كوخه سراً. ويحضر الفلاح بذور أرضه بنفسه أو يأخذها سلفة من الحكومة، ولكنه في هذه الحالة قلما يتحصل على كمية كافية من التقاوي لأن القائمين بالأمر يسرقون منها مقداراً كبيراً قبل أن يسلموها للفلاح. ولا يتسع هذا الكتاب لذكر ما يعانيه الفلاح المصري من ظلم المأمور والمستخدمين وخياناتهم. ويندر أن يستطيع الفلاح أن ينعم بالحياة مع شدة العذاب، لذلك لا أرى ضرورة للقول بأن الفلاح قلما يثابر على تحمل أعباء الزراعة إلا إذا أجبره على ذلك الحكام

ولم يستول الباشا على الملكية الخاصة فحسب، بل أضاف إلى خزائنه كثيراً من دخل المنشآت الدينية باعتبار أن أموالها المتراكمة تزيد على اللازم. وقد بدأ بفرض ضريبة - حوالي نصف ضريبة الأرض المنتظمة - على الأراضي الموقوفة على المساجد والسبل والمدارس العامة. . . الخ. ثم استولى على هذه الأراضي استيلاء تامَّا ومنح عوضاً عنها بعض رواتب سنوية لترميم المباني ولنفقة الأشخاص التابعين للوقف من نظار وموظفين دينيين وخدم وطلبة وغيرهم من المستحقين. وقد أثار الباشا بهذا مقت رجال العلم والدين الشديد، وعلى الأخص نظار المساجد الذين كانوا يثرون من الأموال الوافرة المودعة تحت رعايتهم وأمانتهم. أما ما وقف على خدمة المساجد والمنشآت العامة (وهي أوقاف مختلفة وقفها كثيرون من طبقات مختلفة) فلم يمسها الباشا حتى الآن.

وقد بلغت ضريبة النخيل حوالي مائة ألف جنيه إسترليني، وهي تقدر حسب أنواع النخيل، وتكون - على العموم - بمقدار قرش ونصف قرش على كل نخلة

وتبلغ ضريبة الدخل المسماة (الفِرْدة) على العموم 121 أو

أكثر من دخل الرجل أو مرتبه السنوي إذا أمكن تحديد ذلك،

إلا أن الحد الأقصى لا يتعدى خمسمائة قرش. وهي تفرض

في المدن الكبيرة على الأفراد وفي القرى على المنازل. وتبلغ

ضريبة الدخل في العاصمة ثمانية آلاف كيس أو حوالي أربعين ألف جنيه إسترليني

ويدفع سكان العاصمة وغيرهم من سكان المدن الكبيرة ضريبة ثقيلة على الحبوب الخ. وضريبة الحبوب ثمانية عشر قرشاً على الأردب من كل نوع، وهذا المقدار يساوي ثمن القمح في مصر وقت المحصول الطيب

(يتبع)

عدلي طاهر نور

مجلة الرسالة - العدد 438
بتاريخ: 24 - 11 - 1941

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى