ميسلون هادي - قصور الأحلام الرئاسية ..

حدث هذا في الربع الأول من العام الحاكي الذي تنشرح فيه صدور السكان القلائل، فيتصرفون كالأطفال، ويلقون النكت القديمة، ثم يضحكون عليها مرة أخرى .. إنه الربيع يجدد الحياة، ويحرّك كل القلوب، بما فيها قلب الراعي الحكيم الذي لا يتحدث ولا يضحك إلا بالمثاقيل.. فحاكم قصور الأحلام الرئاسية معروف بالصرامة وندرة الكلام، وفقط عندما يحل الربيع تتقشر تقاطيع وجهه، ويختفي الكدر من حياته، لا سيما هذا الربيع الذي جعله يتحول إلى دورق زجاجي شفاف مليئ بالأحاسيس الفوراة.. حذفتْ تلك الأحاسيس كل التجهم من الوجود، فأرسل الحاكم رجل المخابرات (أناسين) إلى كوكب الأرض مع زوجته (أرجاح) لإنجاز مهمة تتعلق بالفوران الذي سببه الربيع في روحه..
كان (أناسين) طويل القامة على نحو مهيب، وعيناه كبيرتان بحيث يتكمن من الرؤية لمسافات بعيدة.. أما زوجته (أرجاح) فإمرآة دبدوبة تتنقل بين القصور الرئاسية مع مراقب للطقس لا يضحك أبداً، ولا يؤكد شيئاً أو ينفيه.. كان يساعدها فقط في متابعة شؤون الحدائق التي لا زالت جرداء قاحلة خالية من أي لون أو عطر أو ظل بارد.. كوكب القصور الرئاسية لديه أشكال متعددة من وسائط الحياة الجميلة والمتنوعة ليس من بينها البذور اللازمة لزرع الورود والأشجار وما إلى ذلك من نباتات مثمرة شاهدها حكام الهيأة العليا للقصور الرئاسية في الصور التي تصلهم عبر الأقمار الصناعية لكوكب الأرض أثناء مشاهدتهم لصواعق البرق من الأعلى.
من مكانهم في حواشي الفضاء شاهدوا الكثير من الحدائق في أفلام ملونة، وكانوا يتفاجؤون بتلك الأشكال الغريبة التي يرونها في الصور، ويظنون بأن النباتات تميل للون الأخضر بسبب لون الماء الأخضر الذي تشربه تربة للأرض، غير أن ظنهم خاب عندما أخبرتهم (أرجاح) بأن المياه على كوكب الأرض عديمة اللون والرائحة، وحدثتهم عن اختلاف اللون البني للإنسان عن اللون الأخضر للشجرة أو الأحمر لباقي نباتات أخرى مع أنها ترتوي مع الانسان من ماء واحد.. لم تكتف (أرجاح) بهذه المعلومة الجديدة عن الماء، ولم تعرف الراحة إطلاقاً، وهي تتجول في الأرض، لجمع المعلومات من كل الاتجاهات والأماكن، فتجمع بعض البذور ، وتتكاسل عن جمع البعض الآخر..
أرجاح لها غمازات في خديها، وتتدحرج مثل كرة القدم بين الناس، وهذا مما سيجعل بذور الأرض تتجمع وتفيض لديها من أصحاب تلك الحدائق المليئة بالزهور.. فهي تمتع بحضور لطيف وروح مرحة.. على العكس من زوجها أناسين الذي شارك في الرحلة كوكب الأرض على أساس آخر، فهو مهتم بالبحث عن الكيفية التي تمكن بها سكان الأرض من التعايش مع فكرة الموت، وتقبلها إلى درجة الاستسلام والرضا، بحيث يقومون بتكرارها مرة أخرى عبر حكايات عابرة يتفرجون عليها في الأفلام والقصص والروايات، خلافاً لسكان كوكبهم الرئاسي، فهم أصحاب عقل نقدي حاد يجعلهم عاجزين على تقبل هذه الفكرة دون تدخل الوعي باستمرار، مما جعل حياتهم صعبة ولا تطاق.
توقعت (أرجاح) أن يسألها سكان الأرض عن الجيوب التي تحملها وماذا تضع فيها، خصوصاً وأن الجيوب ذات لون مختلف لكل واحدة منها.. غير أنه لم يسألها أحد، ولم تسمع أرجاح سوى أصوات الصواريخ مع القذائف تخرج من الطائرات والراجمات بين جيوش تحارب بعضها البعض، وتُسمى، وفقاً لأناسين، بدول المحور ودول الحلفاء. أخبرها زوجها أيضاً بأن الحرب قائمة بين النازيين والسوفييت.. ونصف كرة الأرض قد دمر النصف الآخر…… وطلب منها ان تلزم المناطق الآمنة بعيداً عن المتحاربين، بينما هو يتنقل بينهم صامتاً ويتفرج عليهم.. أكثر الأخبار سيئة ولا يوجد ما يمنحها البهجة سوى الزرع الذي كان ينمو في الحدائق والحقول مستفيداً من ضوء شمس ساطعة جداً تتناوش الأرض في شروق وغروب.
تعلمت (أرجاح) أن تقطف الورود في الوقت المتأخر من النهار، لكي تعيش فترة أطول من نظيرتها المقطوفة في الصباح الباكر. وهذا ينطبق على جميع الورود التي تُقطف وعلى ساقها أوراق خضراء مثل الزنبق و القرنفل والنرجس….أما الحملات العسكرية فمستمرة على قدم وساق من أجل أن يقتل الأنسان الإنسان، وأن يحترق عثمان مع سباستيان. كان يمكنها الظهور أو الاختفاء متى ما تشاء عبر حاشية الضوء التي تحجبها عن العيان، و بها تختفي عندما تمتليء سواحل البحر بالدبابات والجنرالات والجنود، لتظهر قرب الجداول أو بين ضفاف السواقي البعيدة عن المعارك..
زوجها (أناسين) لا يتحدث كثيراً، ولا يضحك بسهولة شأنه في ذلك شأن كل رجال كوكب القصور الرئاسية الجرداء، فكيف إذا كان يعمل في المخابرات.. إنه يستمع أكثر مما يتكلم، ويجمع المعلومات اللوجستية، ثم يستخرج منها معادلات يكّونها عقله بلمح البصر.. وهكذا يتوصل إلى الأماكن الخطرة التي يجب تلافيها، وإلى الأماكن التي يجب التوقف فيها عند حاجة زوجته إلى جمع البذور بأمان. (أرجاح) ظلت مستغربة غير مصدقة هذا العدد الهائل من الورود والأشجار المختلفة والثمار الملونة التي تتدلى منها.. قالت له بأنها يجب أن تتوصل إلى أسمائها أيضاً. غير أنه كان مهتماً بأمر آخر.
أرجاح تريد أن تدهش زوجها أناسين … شرحت له كيف لمجموعة بذور داخل كيس مغلق أن تنفلق وتمد جذورها المتشابكة عميقاً في تربة الأرض الباردة؟ كيف ستحمل هذه الجذور فوقها جذوعاً شامخة ومتينة؟ كيف سيتّكون خشبها المتين هذا من بذرة صغيرة واحدة؟ كيف ستتكور ثمارها الشهية وتتكاثر أوراقها الطرية بالمئات والآلاف؟ كيف ستتغير ألوانها وتختلف أشكالها؟ أرجاح كانت تتوق لأن يهتم زوجها بنباتات الأرض، وتعدد لهجات الناس أو اختلاف ملبسهم ومأكلهم، وهذا طبيعي كله وينسجم مع مهمته في جمع المعلومات، غير أنه كان مستجيباً للنخام تحت المهاد ، والذي يتزود منه بهرمونه الذكري في قاعدة الدماغ، وقد جعله هذا الزاد مهتماً بجمع معلومات أخرى لا تهتم لها أرجاح. كان لديه الاستعداد للذهاب مع كل الرجال لجمع الأخبار عن أسماء الاسلحة التي يراها، والعيارات النارية التي تنطلق منها، وعندما يعود إلى زوجته أرجاح وما جمعت من البذور في جعبتها، فإنه يدعوها لسماع أصوات الرصاص التي يطرب لها عندما يطلقها الجنود.. لا يريد أن يعرف شيئاً عن الفلاحين أحبابها.. ولا كيف يمازحونها ويحبون صحبتها، أو كيف يظنونها ضيفة مرحة قادمة من بلد آخر يتحدث بلغة لا يعرفونها.. في مرة من المرات رأت أرجاح إمرأة تشتري الملح من السوق.. فسألتها هل هذا نبات يزرع أيضاً كالطحين والسكر؟ ضحكت المرأة وقالت.. كلا بالطبع إنه يستخرج من التربة الناشفة، أو من ماء البحر.
لا تنسى أرجاح الرائحة الطيبة للورد التي تداهمها كلما مرت بقرب حديقة من حدائق كوكب الأرض.. أو كيف تعمل تلك الرائحة على إسعادها، وتحسين مزاجها، فظلت تتحرك وتتنقل بينها بكل نشاط إلى أن أنجزت مهمتها بجمع البذور، ووصلت المكان الذي نزلا فيه بواسطة عباءة ضوئية إلى الارض.. انتظرها أناسين في ذلك اليوم قرب مطعم الكباب الشامي.. وكان العامل يشوي على المنقلة أشياشاً اللحم مع البصل والطماطة، ثم يضعها في الخبز الحار مع الخضروات والخيار المخلل.. قالت له أرجاح:
– يجب أن نخرج من هنا للذهاب إلى نقطة الرجوع.
أناسين لم يهتم لكلامها، ودخل بعد محل الكباب إلى محل لبيع الأسلحة، فوجد شاباً دخل المحل، وسأل البائع:
– أريد مسدساً ورشاشة؟
– أمريكية؟
– نعم أمريكية.
– يوجد لدينا مسدسات أمريكية وكلاشنكوف روسي.
أرجاح تتحدث عن أزوف الرحلة، ونفاد الشحن في العباءة الضوئية، وأناسين يشم رائحة الشواء، ويستمع إلى طلبات ذلك الرجل بانبهار. عندما خرج قالت له أرجاح:
– مابك أناسين؟ ألا تسمعني.
– أقول لنفسي لماذا لا نأخذ معنا بعضاً من هذه الاسلحة؟
– وهل هي بذور لكي نكاثرها؟ هذه يصنعها الإنسان ولا تمنحها الأرض. فما حاجتنا إليها في الحدائق؟
– …………..
– هيا يا أناسين حان موعد الرجوع إلى قصور الأحلام الرئاسية. تأخرنا.
شعرت أرجاح بالخوف من زوجها أناسين. كان بيديه الطويلتين يصل إلى كل الرفوف المليئة بالأسلحة والذخائر.. وبعينيه الكبيرتين يقلب كل ما يراه وكأنه سعيد بما يراه.. لم تستطع أرجاح أن تفتح فمها.. لم تعد تعرف ماذا يحدث له، وهل هو طيب أم شرير؟ ارتفع صوته وهو يتحدث مع بائع الأسلحة.. وبعد قليل عاد وفتح الباب.. قال للناس خارج المحل انبطحوا. وراح يتظاهر بإطلاق النار من البنادق والرشاشات، فأناسين لا يزال يحلم بمسدس أمريكي أو رشاشة روسية يحملها.
المكان ليس نفسه في المشهد الأول لنزولهم إلى الأرض، ولكن الجلسة نفسها.. اناسين وأرجاح يجلسان على الأرض وقد أصبح الوقت ليلاً، والشمس ترسل ضوءها خافتاً عبر القمر .. عليهم الانتظار حتى شروق الشمس من أجل شحن العباءة الضوئية مرة أخرى. أناسين يقلد صوت الرشاشات بفمه طوال الليل.. وقلب أرجاح يدق دق الطبول خوفاً منه. حل الصباح وأشرقت الشمس، فراحا يسمعان صوت عراك وصياح.. سألت أرجاح زوجها أناسين وأذنها تطن: ماذا يحدث؟ لماذا لا نذهب وقد انتهت مهمتي في جمع البذور، ومهمتك في جمع المعلومات الأخرى؟ هيا بنا نعود يا أناسين .. فقال لها بأنه يفكر بأن يأخذ معه نموذجاً من هذا السلاح الذي يخرخش في أيدي الجميع.. التفت أناسين إلى سقف الأرض المترامي، ليجد ضوء الشمس أصبح وفيراً في السماء. قال لها وهو يبتسم:
– هل بذور التفاح موجودة بين ما جمعت من بذور.
– لا غير موجودة.
– هذا حسن.. فنحن يجب أن نعود إلى هنا مرة أخرى.

* منقول عن موقع الناقد العراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى