حيدر عاشور - بريدُ الادمان


أدمن كتابة الرسائل ومراجعة دائرة البريد والتزاحم مع المراجعين والمتقاعدين من اجل ان يرى عينيها السوداوين الجميلتين وشعرها المتمرد تحت غطاء رأسها المزركش وادرك ان يوم الخميس الخالد قبل عامين كان يوم ميلاده الحقيقي وقد اخبرها بشوق وعشق بأن ساعة التعرف عليها وبتلك المصادفة العفوية هي عيده الروحي، كان بحاجة الى قلم ليملأ به استمارة رسمية والتفتت اليه واعطته القلم، شكرها وشعر بدفئها ورومانسيتها وهي تتغنج بنطق الكلمات.
- لقد اعتدت على اعطاء القلم للمراجعين فقلة من يحملون القلم.
تضاحكا معا وازداد اقترابا منها وقرر ان ينسحب بهدوء وذكاء حتى لا تتهمه بانه من الرجال الذين ما ان تتحدث معهم امرأة او تضحك في وجوههم حتى يتحولوا الى كائنات لزجة ودبقة، اراد منذ اللحظات الاولى للتعارف ان يقدم صورة جميلة لشخصيته لموظفة البريد ليلى كما اعرف اسمها، تتعامل يوميا مع مختلف الرجال وعليه ان يكون ذكيا ويتسلل الى روحها وعقلها بعيدا عن الاساليب المألوفة والرخيصة، ولم يستطع الخلاص من وجهها المستدير وجماله الاخاذ الذي يحاصره في كل مكان وزمان لقد ادمنها بالفعل واصبح البريد يمثل له واحة روحية يزورها كل صباح لكي يتنفس الحياة من جديد.
كتب عشرات او مئات الرسائل الوهمية وافتعل عشرات المواقف لكي يتحدث معها ويكتشف شخصيتها رويدا رويدا بكل التفاصيل، وكان يوما أشبه بالحلم الاسطوري حين دس في يدها ورقة صغيرة تحمل رقم هاتفه الخلوي، ونظر اليها بخوف من ردة فعل ربما تكون غير متوقعة، وبدأ قلبه يزداد رقصاً بين اضلعه حين وضعت ليلى الورقة في حقيبتها الصغيرة، ومنذ اللحظة بدأ التواصل الهاتفي بينهما آناء الليل واطراف النهار وبدأت مرحلة جديدة في تلك العلاقة التي ولدت بين رسائل البريد، حين اخبرته بان الهاتف قد عوضنا عن كل شيء ولا اريد ان تكرر المجيء الصباحي الى البريد فلقد انتبه الكثير من الموظفين والموظفات الى وجودك اليومي وادرك حرصها ودقتها وانتباهها مما زاده تعلقا بها، واصبحا يلتقيان في اماكن اخرى بعد ان ينتهي دوامها الرسمي في دائرة البريد.
وتعمق كل شيء ولم يتركا موضوعا الا واشعباه نقاشا وتأملا شعر بأنه لا يستطيع التخلص من طيفها الذي اشعل فيه كل هذا الهوس الوجداني وكانت ليلى تبادله الشعور نفسه وحين فاجأته يوما بسؤال اصابه بالذهول وحرك في اعماقه ردة فعل تشبه القشعريرة.
- الى متى نبقى نلتقي ونضحك.. ونذهب الى المطاعم والاسواق.
- ما الذي تقصدين.
- امرأة ورجل وطريق معروف.
- الارتباط.
لقد كانت اكثر جرأة منه ووضعته امام موقف لابد ان يكون بمستوى المسؤولية، ولم يستطع سوى ان يكون صريحا صادقا فحجم حبه وتعلقه بها لن يسمحا بان يكون كاذبا او مسوفا للوقائع.
- انت تعلمين باني موظف في احد الدوائر ولم يمض على تعييني الا سنوات قليلة وقد قدمت على سلفة واشتركت بسلفة مع الجيران وسأقتصد، وكل ذلك من اجلك وفي نهاية العام سيكون كل شيء جاهزا واعلن خطوبتي الاسطورية عليك.
ابتسمت بعد ان سمعت هذا الكشف الاقتصادي وقالت في سرها :
هل تعرف ماذا تعني السنة في حياة امرأة.
اراد ان يدرك موافقتها ضحكت ضحكة سريعة واستأذنت فلقد تأخر الزمن وعليها ان تعود.
وبدأ يحاول ان يختزل لقاءاته بها فلقد قرر ان يعمل عصرا في السوق لكي يدبر المال حتى لا يطول الأمر بعد ان شعر بانها لا تطيق صبرا على الانتظار وفسر شعورها بانه تصاعد في مستوى العشق.
ها قد مضى اكثر من اسبوعين وهو لم يتصل بها او يزورها، كانت قدماه تسرعان باتجاه البريد وزاده شوقا ولهفة هاتفها المقفل، اقترب من مكان عملها لم يلمح وجودا لها ظل يبحث في كل مكان وقد تحول رأسه الى رادار صغير، واخيرا لم يجد وسيلة غير الاقتراب من صديقتها وزميلتها يسألها، حين نطق بتساؤله عنها كتمت زميلتها هدى ضحكة خفية واخبرته بان ليلى قد طلبت النقل الى البصرة، ادهشته المفاجأة وحين ازداد فضوله بالتساؤل اردفت الزميلة، بان ليلى قد خطبت من قبل ابن عمها ويقال انه مقاول كبير.
كانت هدى تتحدث اليه وصوتها ينبئ بتعاطف معه مما جعله يتماسك امامها ولا ينهار بصورة لا تليق به كرجل.
ما الذي جرى واين ذهب كل ذلك الحب والخيال والوعود عامان من الخسارة ثم ينتهي كل شيء واصبحت زيارته تتكرر الى الزميلة هدى وقد ادمن تعاطفها معه وبات لا يستطيع حراكا حتى سمع كلماتها وهي تهون عليه الامر حتى دست اليه في يوم ما ورقة تحمل رقم هاتفها بعد ان اخبرته بان زياراته المتكررة بدأت تثير الريبة، وتواصل معها ونسي حلمه القديم وقد استغرق في إدمانه الجديد..




*حيدرعاشور
* قصة قصيرة من مجموعة ( بوح مؤجل )


























تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى