ياسين عدنان - هدوء عنيف

هكذا، المفروض هكذا.. عليَّ أن أكون أكثر حزما. أحدد الفضاء العام وأتهالك بعدها فوق أول كرسي. يساورني الآن وأنا ألج هذا المقهى إحساس غامض كالرهبة أو ربما الخجل بسبب الحذاء.. إنما علي أن أكون حازما، فمن يخجل من حذائه ليس رجلا.. ثم لست المسؤول عن التجاعيد التي حفرتها الشمس على الحذاء، ولا عن الطريق المغبرة ذات الحفر التي أقطعها من البيت إلى مكان العمل في تلك القرية النائية بالجنوب. صحيح أنني الآن في شمال العالم. وهذا المقهى محترم جدا.. لكن مادُمت سأدفع في الأخير، وبعملة هذا البلد ذات الصعوبة البالغة، فمن حقي أن أتهالك دونما تردد فوق أول كرسي، وأشرع في الكتابةôالزبناء في هذا المقهى أنيقونô والزبونات أيضا. الأرضية تلمع كما لو من رخام. الكؤوس بدورها تلمع. حتى النادلتان بملامحهما الصينية تلمعان وهما تتحركان كفراشتين بين الطاولات. أنا الكائن الوحيد هنا الذي يبدو شاحبا كشمعدان قديم. منذ أن اقتعدت هذا الكرسي وأنا أحملق في النادلتين، وحينما ضبطت إحداهما عيناي تتجولان دونما استئذان في حديقة جسدها الصغير ابتسمت في عدم اكتراث… مرتبكا خفضت بصري ولم أشعر إلا وأنا أسحب رجلي إلى الوراء. أقصد الحذاء. أقصد التجاعيد التي حفرتها الشمس على الحذاء. في الواقع، نصفي العلوي معقول جدا. السترة مكوية بعناية. ياقة القميص نظيفة. ووجهي حليق. يمكنني أن أبتسم دون مركب نقص في وجه النادلة الصينية وأهمس لها بأدب قهوة من فضلك يا آنسة .. كان ينتظر قهوته حينما رفع عينيه إلى لوحة كبيرة معلقة على يمين المدخل. كيف لم ينتبه لها وهو يلج المكان، عادة يضعون اللوحات على جدران المقاهي والحانات لتستأنس بها الجدران فتُضْحي أكثر ألفة. إنما ماذا تفعل هذه اللوحة الرهيبة هنا، كانت لوحة كبيرة الحجم، بداخلها تتلاطم أمواج بحر عظيم وأشلاء سفينة دفنت حمولتَها الأعماق. العاصفة بلونها الرمادي الثقيل تضغط على الأزرق الشفيف لكبد اللوحة. الأزرق يتقلص بالتدريج و.. ويسمع بداخله صدى صرخات الغرقى اليائسة وصيحات البحارة الأخيرة. فكر في السبعة بحورô السبع سماواتô السبعة رجالô فكر في حانة الكثبان السبعة وروادها البائسين، وتذكر القرية الكئيبة حيث يعمل في الجنوب. حينما تندلع العواصف الرملية الصغيرة كحرائق مجنونة في أنحاء القرية قبيل الغروب، ويصبح المكان مثل هذه اللوحة تماما. أمواج من الرمل والغبار، والناس كغرقى حقيقيين يجرون في كل اتجاه. فقط حينما يزحف الليل على جسد القرية، تستعيد هذه الأخرى هدوئها وسكينتها. يضحك الآن. يتذكر كيف كان يخرج بعد منتصف الليل وحيدا ليذرع الشارع الوحيد ونشوة غامضة تخالجه. هذه المدينة الصغيرة كالعاهرة، كان يقول، في النهار لا أحد يطيقها، لكن غوايتها بالليل لا تقاوم خصوصا إذا كان المرء سكرانا. ومع ذلك، فهو هنا لكي ينسى. لا أريد أن أفكر في القرية الآن، قال في نفسه. لا أريد أن أتذكر أوجاع البلاد. أنا هنا في هذا الفضاء الهادئ الأنيق لأشرب قهوة،بيرة أو بيرتين فيما بعد، وأكتب قصة قصيرة. إنما قصة أنيقة كهذا المقهى، فلأحرص على ألا يتسرب إليها الصهد والرمل وكآبة القرى في الجنوب.لكن لماذا تأخرت النادلة ذات الملامح الصينية، أنا عادة لا أحب الانتظار. أعصابي تحتاج قهوة الآن. على الأقل لكي أنسى هذه اللوحة اللعينة. أوف يبدو أن النادلة قد اختفت، وما علي إلا أن أتسلى بمراقبة الزبناء.كل الرواد هنا أنيقون. وكلهم يهمسون. هذا المقهى الأنيق هادئ تماما. وحدهما عيناي تنتقلان في صخب بين الكراسي والطاولات. الزبناء يتحدثون بهمس مع رفيقاتهم. رفيقاتهم الأنيقات يضحكن بهمس. يحتسين البيرة أو العصير بهمس. وينهضن إلى التواليت بهمس.ياه ليس هناك جابٍ أمام الباب .. بل أمام البابين ..على الباب الأول صورة رجل بقبعة إيطالية ومعطف إنجليزي، ثم هناك الياقة وربطة العنق طبعا. الرجل الذي في الصورة فارع ووسيم، قامته مديدة ويداه غارقتان في جيبي معطفه. على الباب الثاني صورة فتاة بقميص وتنورة قصيرة. الفتاة الرشيقة مثنية قليلا. جذعها مائل إلى اليسار ويداها على الوركين. دلفتُ إلى الداخل، عبر الباب الأول طبعا، لكنني لم أجد المرحاض.. أعني رائحة المرحاض. كانت رائحة العطر قوية بالداخل والمرآة كبيرة… ثم ينسى المرء كل شيء. ربما الزبناء هنا لا يبولون، الرجال يدخلون إلى المراحيض لكي يطمئنوا على ربطات أعناقهم، وتسريحات شعرهم وابتساماتهم. يفرجون أساريرهم أمام المرآة، ثم يضمونها رويدا رويداً ليفرجوها من جديد، وهكذا.. حتى يعثروا على الابتسامة المناسبة لأحلام الجالسات أمامهم. الرجال يطمئنون بسرعة ويخرجون بهدوءô أما النساء فيتأخرن قليلا بالداخل. يتلوين أمام المرآة. يصلحن الماكياج. يتفقدن مفاتنهن. يلعن البرد.. ويخرجن بابتسامات ضاجة بالرضى والكبرياء.دلفت إلى المرحاض ونسيت كل شيء. تخثر السائل في مثانتي واستسلمت للعطر والمرآة. المرآة هنا كريمة رحيمة. رغم أنها كبيرة جدا فقد ظل حذائي خارج إطارها. وباستثناء الحذاء فكل شيء فيَّ مقبول. لستُ دون باقي الرواد، ويمكنني بدوري أن أبادر النادلة الحسناء بالابتسام. ولأن المقهى هادئ وأنيق، ولأن المرحاض حر وديموقراطي، فيمكنني أن أتنقل بسلاسة بينهما، إذ لا أحد هنا يهتم. الكل يهمس في أذن جليسه. ولا أحد يهتم. أنا الوحيد الذي يشغل طاولة بمفرده. ويمكنني أن أتسلى بمراقبة الطاولات الأخرى والتردد على التواليت بكل حرية وديمـô ديما أنت هكذا تنسحب إلى المرحاض في الوقت غير المناسب بالضبط، قال لي يوما أحد الأصدقاء في المقهى… هناك… في مقهى آخرô ضاجô صاخب… وغير ديموقراطي. لكن أنا بدوري لا أفهم.. فقد أجلس ساعة كاملة بدون فكرة في الرأس، صامتا أبحلق في وجه جليسي الصامت. وحين تتفتح بيننا على الطاولة فكرة يانعة، وتنفتح شهيتنا للثرثرة، أقاطعه أو أقاطع نفسي لأنجرَّ وراء مثانتي مهرولا إلى التواليت. لكن هنا. لا جليس ولا يحزنون من سأقاطع إذن، .. الموسيقى هادئة. الفراشتان تتنقلان بهمة بين الطاولات.. والرواد كل في واد يهمسون ويحتسون ويـ…، إنما ماذا يقولون،.ماذا يقول ذلك القصير ذو الصلعة اللامعة لجليسته الشقراء، هل يغازلها أم تراه يحكي لها عن الظروف العصيبة التي اجتازها قبل أن يصبح له بيت ومكتب وسيارة وحكايات أخرى تفتح، فوق طاولتهما بورتكلي بسبعة مفاتيح. لا شك أنه يحدثها عن الأبواب السبعة..ويلعب بالمفاتيح السبعة.. وهي تبتسم وتحسب من واحد إلى سبعة.والآخر الذي في الزاوية، هو الذي وضع قطعة السكر في فنجان عشيقته. يبدو أنه يعرف عاداتها جيدا وربما تجمع بينهما ألفة قديمة. فهي مُنشدَّة إلى ملامحه بشكل مفضوح، وهو يتكلم لوحده منذ ساعة تقريبا بحماس كبير، لكن ماذا يقول لها، هل يحدثها عن تصوره للحب في أبريل أم عن رأيه في الانتخابات القادمة،والآخرون.. ماذا يقولون، إنما لماذا أنت مهتم دائما بالآخرين، ليقل كل ما شاءô أنت هنا من أجل كتابة قصة. قبل أن تلج هذا المكان الهادئ، قلت في نفسك سأكتب قصة هذا الصباح حددت الفضاء العام المقهى.. اقترحت على نفسك بشيء من التردد، والوقاحة أيضا، الفضاء الخاص ليكن المرحاض إذن .. ولأنك لم تستطع بناء شخصيات قوية مقنعة قدمت نفسك قربانا وبدأت تكتب بضمير المتكلم. لكن أين الحكاية، ستزعم أنك تفكر فيها الآن.. وأنت تتسلى بمراقبة الزبناء عسى أن يلهمك أحدهم بشيء. لكنهم يتكلمون بهمس قاتل وهذا ما يغيظك. صحيح أن الهمس يصنع الهدوء، والهدوء تحتاجه الكتابة. لكنك لم تشرع بعد في الكتابة… أنت ما زلت تطارد الحكاية. والحكاية تنمو في الصخب. وهم هنا منهمكون في الهمس. هذا الهمس الثقيل.. الممل.. الخانق.. ترى.. بم يهمسون؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى