دراسات في التراث النشابي الإربلي - المذاكرة في ألقاب الشعراء

بسم الله الرحمن الرحيم
المعروف بيتيمة الدهر في محاسن أهل العصر. وخدمت به خزانة الصاحب الصدر الكبير، العالم، العادل، المجاهد، المؤيد، المظفر، المنصور، تاج الدين، مجد الإسلام، وعضد الأنام، حسام الدولة، همام الملة، نصرة المجاهدين، فاهر المتمردين، منصف المظلومين من الظالمين، عز الصدور، ظهير الجمهور، اختيار الإمامة المكرمة، عرس الخلافة المعظمة، كريم العراق، طاهر الأعراق، سند المسلمين، أخي الملوك والسلاطين، سيف أمير المؤمنين، أبي الفتوح علي بن. . .، وعمر بالثناء والحمد ناديه. وأنا أعتذر من سهو يقع، وخرق لا يرقع. ومن اقتضى العفو ارتضى الصفو، وما خلا أحد من عاب، ولا رفع قلم عن كتاب.
قال أبو عبيدة: الشعراء الجاهلية ثلاثة، امرؤ القيس، والنابغة، وزهير. وسنذكرهم، ومن بعدهم على أوجز ما يكون من الاقتصار، وأحسن ما يليق من الاختصار. فإن المذاكرة لا تحتمل الإسهاب والإضجار. ولم أذكر إلا النوادر الغريبة الحسان، ومن الشعراء الذين لم يعرفهم إلا القليل من الأعيان. وابتدأت بذكر الشعراء الملقبين، الذين منهم من لقب بشعر قاله، ومنهم من لقب بعلامة فيه، أو بظاهر من لونه، أو بمشهور من فعله، ومنهم ببلده أو بكنيته.
ألقاب الشعراء
فصل فيمن لقب بشعر قاله
فممن لقب من الشعراء ببيت قاله مدرج الريح لقوله:
أعرفتَ رسماً من سميةَ باللوى ... درجتْ عليهِ الريحُ بعدكَ فاستوى
ويروى عنه أنه لما عمل نصف هذا البيت ارتج عليه، وأقام يكره مدة سنة، ولا يقدر يعمل له عجزاً. وكان قد دفن في نفس المنازل التي كان ينزلها دفينة، فذكرها وقال لجاريته أن تمضي وتخرج الخبيئة من تلك البرية والموضع الذي أعطاها علامته. فمضت الجارية، وقد اختلفت الرياح على تلك الأراضي، وعفت آثارها. فعادت ولم تجد شيئاً. فسألها عن الحال، فقالت:
درجتْ عليهِ الريحُ، بعدكَ، فاستوى
فتمم بيته بهذا، وسمي مدرج الريح.
ومنهم المرقش، واسمه عمرو بن سفيان، وهو مرقش الأصغر.
وسمي مرقشاً لأن وجهه كان منقطاً. وقال:
كما رقش في ظهرِ الأديمِ قلمْ
ومنهم الممزق لقوله:
وإنْ كنتُ مأكولاً، فكنْ أنتَ آكلي ... وإلاّ فأدركني ولما أمزقِ
ويروى أن عثمان كتب بهذا لبيت إلى علي، وهو محصور.
ومنهم المخرق، نسب نفسه إلى الممزق، وقال:
أنا المخرقُ أعراضَ اللئامِ، كما ... كانَ الممزقُ أعراضَ اللئامِ أبي
ومنهم المثقب، واسمه عائذ بن الأحمر بن وائلة. وإنما سمي مثقباًَ لقوله:
أرينَ محاسناً، وكننَّ أخرى ... وثقبنَ الوصاوصَ للعيونِ
الوصاوص: البراقع. ولقوله:
ظعائنٌ لا شوقي بهنَّ ظعائنٌ ... ولا الثاقباتُ من لؤي بنِ غالبِ
الثاقبات: يريد المصيبات.
ومنهم النابغة الذبياني، واسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن ذبيان. قيل: إنما سمي النابغة لقوله:
وحلتْ في بني قينِ بنِ جسرٍ ... وقد نبغتْ لا منهمْ شؤونُ
وقل آخر: إنما سمي النابغة لأنه نبغ بالشعر. والنوابغ أربعة: نابغة بني ذبيان، ونابغة بني جعدة، وهو قيس بن عبد الله، ونابغة بني الحارث، وهو يزيد بن إبان، ونابغة بني شيبان، وهو عبد الله بن المخارق. سموا لأتهم نبغوا بالشعر بعدما كبروا.
ومنهم الخلج، واسمه ناجية بن مالك. وسمي الخلج بقوله:
كأنَّ تخالجَ الأشطانِ فيها ... شآبيبٌ تجودُ مع الغوادي
ومنهم شقرة، واسمه معاوية بن الحارث. سمي شقرة لقوله:
وقد أحملُ الرمحَ الأصمَّ كعوبهُ ... بهِ من دماءِ القومِ كالشقراتِ
والشقرات: الشقائق. وإنما سميت بذلك لأن النعمان بنى مجلساً، وسماه الضاحك، وزرع فيه الشقرات، فسمي شقائق النعمان.
ومنهم المفضل، واسمع عامر بن معشر بن أسحم بن عدي بن شيبان. وإنما سمي المفضل بقوله في قصيدته المنصفة:
فأبكينا نساءهم، وأبكوا ... نساءً ما يسوغُ لهنَّ ريقُ
ومنهم المقرض، واسمه زهدم بن معد بن عبد الحارث. وإنما سمي مقرضاً لقوله:
وأنا المقرضُ في جنو ... بِ الغادرينَ بكلِّ جارِ
تقريضَ زندةِ قادحٍ ... في كلها يورى بنارِ
ومنهم المكواة، واسمه عبد الله بن خالد بن حجبة بن عمرو. وإنما سمي المكواة لكثرة ذكره الكي في شعره، ولقوله:
ومثلكَ قد عللتُ بكأسِ غيظٍ ... وأصيدَ قد كويتُ على الجبينِ
ولقوله:
لجيمٌ وتيم الله عزي وناصري ... وقيسٌ بها أكوي النواظرَ من صدِّ
ومنهم الحتات، واسمه بشر بن رديح بن الحارث بن ربيعة. وإنما سمي الحتات لقوله:
ومشهدِ أبطالٍ شهدتُ كأنما ... أحتهمُ بالمشرفيِّ المهندِ
الحت: أقل من النحت.
ومنهم الهجف، واسمه كعب بن كريم بن معاوية. وإنما سمي الهجف لقوله:
يرجي ابنُ معطٍ درها وانتحالها ... هجف جفتْ عندَ الموالي فأصعدا
الهجف: الظليم المسن.
ومنهم البعيث، واسمه خداش بن لبيد. وإنما سمي البعيث لقوله:
تبعثَ مني ما تبعثَ بعدما ... أمرتْ قواي، واستمرَّ عزيمي
أي: أبصرت عزمي، فمضيت على ما أعزم عليه. لأنه إنما قال الشعر وقد أسن.
ومنهم ذو الخرق، واسمه بن شريح. وإنما سمي ذا الخرق لقوله:
لا يألفُ الدرهمُ المصرورُ خرقتنا ... لكنْ يمرُّ عليها، ثمَّ ينطلقُ
ومنهم أعمر، واسمه منبه. وإنما سمي أعمر لقوله:
قالتْ عميرةُ ما لرأسكَ بعدما ... طالَ الزمانُ أتى بلونٍ منكرِ
أعميرَ إنَّ أباكَ شيبَ رأسهُ ... مرُّ الليالي، واختلافُ الأعصرِ
والأعمر: الدخان. وقيل: إنه دخن على قوم في غار، فماتوا.
ومنهم قاتل الجوع، واسمه أمرؤ القيس بن كعب بن عمرو. وإنما سمي قاتل الجوع لقوله:
قتلتُ الجوعَ في الشتواتِ حتى ... تركتُ الجوعَ ليس له نكيرُ
ومنهم مزرد، واسمه يزيد بن ضرار الكلبي. وسمي مزرداً لقوله:
ظللنا نصادي أمنا عن حميتها ... كأهل شموسٍ، كلنا يتوددُ
فجاءتْ بها صفراءَ ذاتَ أسرةٍ ... تكادُ عليها ربة النحي تكمدُ
فقلت: تزردها عبيدُ، فأنني ... لدردِ الموالي، في السنين، مزردُ
الحميت: النحي المربوب. فإذا لم يرب فهو نحي. وإنما سمي حميتاً لأنهم يعملونه بالرب. والحميت: المتين.
ومنهم ذو الرمة، واسمه غيلان بن عقبة. وإنما سمي ذا الرمة لقوله:
لم يبقَ غيرُ مثلٍ ركودِ ... غيرُ ثلاثٍ باقياتٍ، سودِ
وبعدَ مرضوخ ِالقفا، موتودِ ... أشعثَ باقي رمةِ التقليدِ
الرمة: بقية حبل خلق. ورمت العظام: بليت.
ومنهم القطامي، واسمه عمرو، ويقال: عمرة. وإنما سمي القطامي بقوله:
يحطهنَّ جانباً فجانبا ... حطَّ القطاميِّ القطا الهوازبا
والقطامي: الصقر. ويقال القطامى.
ومنهم الحطيم، واسمه نعمان بن مالك. وسمي الحطيم لقوله:
سلِ الحطيمَ، اليومَ، عن غمامهْ ... خالمها، فرضيتْ خلامهْ
غمامة: امرأة من دارم. وخالمها: صادقها. والخلم: الصديق.
ومنهم الغريب، وهو نعيم بن سليم. وإنما سمي الغريب لقوله:
إسمي نعيمٌ، وأنا الغريبُ ... إسما كريمٍ بهما أحببُ
ومنهم عائد الكلب، وهو عبد الله بن مصعب بن عبد الله بن الزبير. وإنما سمي عائد الكلب لقوله:
مالي مرضتُ فلم يعدني عائدٌ ... منكمْ، ويمرضُ كلبكمْ فأعودُ
ومنهم الأسعر، وكان قديماً من الشعراء، واسمه مرثد بن أبي حمران. وإنما سمي الأسعر لقوله:
فلا يدعني قومي لسعدِ بن مالكٍ ... لئن أنا لم أسعرْ عليهم، وأثقبِ
أي: أوقد. والسعر: وقود النار والحرب. وقيل: سمي الأسعر لدقة ساقيه.
ومنهم الصامت، واسمه عمرو بن الغوث من طيء. وسمي الصامت بقوله:
رأتني صامتاً لا قولَ عندي ... ألا إنَّ الغريبَ هو الصموتُ
ومنهم عارق، واسمه قيس بن جروة بن سيف وائلة. وإنما سمي عارقاً لقوله:
لئنْ لم نغيرْ بعضَ ما قد فعلتمُ ... لأنتهشَ العظمَ الذي أنا عارقهْ
ومنهم العجاج. وإنما سمي العجاج لقوله:
حتى يعجَّ ثخناً من عجعجا
العج: رفع الصوت. والثخن: الغلبة.
ومنهم الخطفي، واسمه حذيفة بن بدر بن سلامة بن عوف. وإنما سمي الخطفي بقوله:
يرفعنَ لليلِ إذا ما أسدفا ... أعناقَ حياتٍ، وهاماً رجفا
وعنقاً بعدَ الكلالِ خيطفا
الخيطف: السريع.

ومن الشعراء المحدثين المرعث، وهو بشار بن برد، واسمه المرعث مولى عقيل، وكان أعمى. وقيل له المرعث لقوله:
منْ لظبيٍ مرعثٍ ... ساحرِ الطرفِ والنظرْ
قال لي: لستَ بنائلي ... قلتُ: أو يغلبُ القدرْ
وقيل: سمي بالمرعث لأنه ولد وهو مشقوق طرف الأذن، فقالوا: ولد مرعثاً، أي لم يحتج إلى أن تثقب أذنه.
ومنهم شهوات، واسمه موسى. وإنما سمي شهوات لقوله في يزيد بن معاوية:
لست منا، وليس خالدُ منا ... ما نضيعُ الصلاةَ للشهواتِ
ومنهم عويف القوافي، وهو عويف بن عيينة بن حصن. وسمي بذلك لأنه قال:
سأكذبُ منْ قد كان يزعمُ أنني ... إذا قلتُ قولاً لا أجيدُ القوافيا
ومنهم الفرار، الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنبي سليم: إلى من أرفع لواءكم؟ قالوا: إلى الفرار. فكره صلى الله عليه ذلك. فقالوا: إنما اسمه حيان بن الحكم، وغنما سمي الفرار لقوله:
وكتيبةٍ ألبستها بكتيبةٍ ... حتى إذا ألتبستْ نفحتُ بها يدي
ويروى: نفضت بها يدي.
هل ينفعني أنْ تقولَ نساؤكمْ ... وكلت خلفَ شريدهم: لا تبعدِ
ومنهم طرفة، واسمه عمرو بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك. وإنما سمي طرفة لقوله:
لا تعجلا بالبكاءِ اليوم مطرفاً ... ولا أميركما، بالدارِ، إذْ وقفا
قوله: مطرف، أي مجلوب، فهو ينزع إلى وطنه. قال ذو الرمة:
كأنني من هوى خرقاءَ مطرفٌ
ومنهم صريع الغواني، وهو مسلم بن الوليد الأنصاري. وإنما سمي بذلك لأن الرشيد، رضي الله عنه، إستنشده قصيدته:
أديرا عليَّ الكأسَ لا تشربا قبلي
فأنشده، فلما بلغ حيث يقول:
هلِ العيشَ إلا أنْ تروحَ مع الصبا ... وتغدو صريعَ الكأسِ والأعينِ النجلِ
فقال الرشيد: سموه صريع الغواني. فهجاه بعضهم فقال:
فما ريحُ السذابِ أشدُّ بغضاً ... إلى الحياتِ منكَ إلى الغواني
ومنهم مجتني المروءة، وهو عبد الله بن أحمد الحنفي، وكان صديقاً لعبد الله بن المقفع. وإنما لقب بذلك لكثرة ذكر المروءة في شعره وقوله:
لا تحسبنْ أنَّ المرو ... ءةَ مطعمٌ، أو شربُ كاس
أوْ في الولايةِ والموا ... كبِ، والمراكبِ، واللباس
لكنها كرمُ الفرو ... عِ، زكتْ على كرمِ الأساس
وقوله أيضاً:
ليسَ المروءةُ بالدراهمْ ... بل المروءة بالمكارمُ
كم من غنيٍّ سفلةٌ ... ومقلِّ قومٍ ذي معالمُ
فصل في ذكر من لقب من الشعراء بعلامة من خلقه وبظاهر من لونه
منهم الأخضر، وهو الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب. وإنما سمي الأخضر لأنه كان أدماً شديد الأدمة والأدم عند العرب: الأخضر. ويسمون الأبيض أخضر. وسمي آدم عليه السلام لأنه كان أبيض. وقال الفضل:
وأنا الأخضرُ منْ يعرفني ... أخضر الجلدةِ من نسلِ العربْ
قال: والأخضر أيضاً في كلام العرب: الأسود. ويسمون الليل: الأخضر، والماء: الأخضر. قال الراجز:
وعارضُ الليلِ إذا ما أخضرا
ولذلك سمي السواد، لكثرة الأشجار، وخضرتها.
ومنهم الحطيأة، واسمه جرول بن مالك. وإنما سمي الحطيأة لقصره.
ومنهم الأقيشر، واسمه عقبة من بني عميرة. وسمي الأقيشر لشدة حمرة لونه، والأقشر: الشديد الحمرة، وقوله:
إني أنا الأقشرُ ذاكم نزبي ... أنا الذي يعرفُ قومي حسبي
والنزب والنبز: اللقب. وهذا من المقلوب، وهو النبز. كمل قالوا: جبذ وجذب، وما أطيبه وما أيطبه.
ومنهم أيضاً أقيشر آخر، كان يغضب إذا دعوه الأقيشر، ويخاصم. وهو المغيرة بن عبد الله بن الأسود. ودعاه بعضهم بالأقيشر، فقال له:
أتدعوني الأقيشرَ، ذاك إسمي ... وأدعوكَ ابن مطفئةِ السراجِ
فسمي ذاك الرجل بابن مطفئة السراج.
ومنهم الأخطل، وهو غياث بن غوث بن الصلت. وإنما سمي الأخطل لكبر أذنه. والخطل: المسترخية الآذان. يقال: شاة خطلاء، ورجل أخطل، أي عظيم الأذن. والخطل: الحمق. والخطل: خفة وسرعة. ويقال: خطل في كلامه، إذا أخطأ. ومن ألقاب الأخطل: دوبل. وقال جرير:
بكى دوبلٌ، لا يرقئ الله دمعهُ ... ألا إنما يبكي من الذلِّ دوبلُ

فلما بلغ الأخطل هذا البيت قال: أخزاه الله، والله لقد سمتني أمي بهذا الاسم يوماً واحداً وأنا طفل، فمن أين وقع لهذا الخبيث.
ومنهم الفرزدق، واسمه همام بن غالب بن صعصعة. وإنما سمي الفرزدق لأنه كان جهم الوجه، فقيل: كأن وجهه فرزدقة، وهو الجردق الكبير. يقال: بالدال وبالذال. والفرزدق أيضاً: الفتوت الذي تشربه المرأة. ولقد قال له بعض أهل المدينة، نكراً عليه: والله ما نعرف الفرزدق إلا هذا الفتوت الذي تشربه المرأة وتقذفه. فقال: الحمد لله الذي جعلني في بطون نسائكم.
ومنهم الزبرقان، واسمه حصين بن بدر. وإنما سمي الزبرقان لأنه كان خفيف اللحية. والعرب تسمي الخفيف اللحية: الزبرقان. وقال قطرب: إنه كان حسن الوجه، فشبه بالقمر، ويقال للقمر: الزبرقان. قال الشاعر:
تضيءُ له المنابرُ حين يرقى ... عليها، مثلُ صنوِ الزبرقانِ
وقال الخليل: الزبرقان: ليلة أربع عشرة وخمس عشرة. وقال أبو عبيدة: قلت لرجل من ولد الزبرقان: لم سمي الزبرقان، واسمه حصين؟ قال: اشترى حلة خضراء مزبرقة، ثم راح إلى ندي قومه، فقالوا له: زبرقت. وزبرق الرجل ثوبه: إذا صفره، أو حمره.
ومنهم الطرماح، واسمه حكم بن حكيم. وإنما سمي الطرماح لطوله. والطرماح: الطويل. قال الشاعر:
معتدل الهادي، طرماح العصبْ
وقيل: سمي الطرماح لزهوه. والطرماح: الذي يرفع رأسه زهواً.
ومنهم أبو قطيفة، واسمه عمرو بن الوليد بن عقبة. وإنما سمي أبا قطيفة لأنه كان كثير شعر الجسد والوجه.
ومنهم الأرقط، وهو حميد بن مالك. وسمي الأرقط لآثار كانت في وجهه.
ومنهم الأفوه. سمي بذلك لأنه كان غليظ الشفتين، ظاهر الأسنان.
ومنهم النجاشي. سمي بذلك لشدة سواده.
ومنهم جحدر. واسمه ربيعة بن ضبيعة بن قيس. وإنما سمي جحدراً لقصره.
ومنهم زياد الأعجم. وإنما سمي الأعجم لأن مولده ومنشأه كان بفارس.
ومنهم سديف. واسمه إسماعيل بن ميمون. وسمي سديفاً للونه شبه بالسدف. وسديف تصغير السدف. والسدفة: الظلمة. وهذا من الأضداد. لأن السدفة في الضياء والظلمة. وقال ابن الأعرابي: السدفة ظلمة يخالطها ضوء.
ومنهم أبو نواس. واسمه الحسن بن هاني الحكمي. ويكنى أبا علي. وإنما قيل له أبو نواس لذؤابة. كانت في رأسه. والنواس: الذؤابة. ومنه سمي ذا نواس. وقيل: سمي ذا نواس لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه. والنوس: الحركة من كل شيء مدلى. وقال محمد بن يحيى المقرئ: سألت أبا نواس عن كنيته، ما أراد بها، وهل نواس بفتح النون، أو نواس بضمها؟ فقال: بضم النون، وكان سبب كنيتي أن رجلاً من جيراني بالبصرة دعى إخواناً له، فأبطأ عليه واحد منهم، فخرج من بابه يطلب من يبعثه إليه، يستحثه. فوجدني ألعب مع الصبيان، وكانت لي ذؤابة في وسط رأسي، فصاح بي: نيا حسن إمض إلى فلان فجئن به. فمضيت أعدو، وذؤابتي تتحرك. فلما جئت بالرجل، قال: أحسنت يا أبا نواس. فشاعت هذه الكنية.
ومنهم حماد عجرد. وهو حماد بن عمرو، من أهل الكوفة، مولى بني عامر. وإنما سمي عجرداً لأنه كان مكتنز الخلق " ، كثير العضلات، والعجرد من هذه صفته. والعجرد: الغليظ الشديد.
ومنهم أبو العتاهية. قال أبو سويد عبد القوي: وإنما سمي أبا عتاهية وكنيته أبو إسحاق، واسمه إسماعيل بن سويد، وبلده الكوفة. وأبو عتاهية لقب. تقول العرب: عته الرجل، وهو يعته، ومعتوه: مدهوش من غير مس الجنون. وتقول العرب: رجل عتاهية، بغير ألف ولام. ومعنى عتاهية من الدهاء. وقال ابن الأعرابي: عتاهية الرجال ضلالهم.
ومنهم العث. واسمه زيد بن معروف. والعث: جمع عثة، وهي السوسة. وإنما سمي بذلك لأنه كان أكولاً. والعث يأكل الصوف والخشب وغيره.
ومنهم عروة الصعاليك. وهو عروة بن الورد بن زيد بن عبد الله. وإنما سمي بذلك لأنه كان من أفقر من العرب ضمه إليه. فمن كان يمكنه أن يغزو معه غزى، ومن لم يمكنه ذلك جعل له شيئاً في الفيء، وأقعده. والصعاليك: الفقراء.
ومنهم المقنع اسمه محمد بن عمير. وإنما سمي المقنع لأنه كان أجمل أهل زمانه، وأحسنهم وجهاً، وأقدهم قامة. وكان إذا كشف وجهه لطمته الجن، فكان يقنع وجهه دهره.

ومنهم علقمة الفحل. وهو علقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس بن عبيد. وإنما سمي الفحل لأنه كان تنازع هو وامرؤ القيس في الشعر، فقال كل منهما لصا حبه أنا أشعر منك. فقال علقمة: قد حكمت بيني وبينك إمرأتك أم جندب، فقال: قد رضيت. فتحاكما إليها، فقالت: ليقل كل واحد منكما شعراً يصف فيه الخيل، على قافية واحدة. فقال امرؤ القيس:
خليليَّ مرابي على أمِ جندبِ ... لنقضيَ حاجاتِ الفؤادِ المعذبِ
فقال علقمة:
ذهبت من الهجرانِ في غير مذهبِ ... ولم يكَ حقاً طولَ هذا التجنبِ
وأنشد كل واحد قصيدته. فقالت لامرئ القيس: علقمة أشعر منك. قال: وكيف ذاك؟ قالت: لأنك قلت:
فللسوطِ ألهوبٌ، وللساقِِِ درةٌ ... وللزجرِ فيه وقعُ أحرجَ مذهبِ
فجهدت في شكه بسوطك وزجرك، ومريته فأتعبته. وقال علقمة:
فردَّ على آثارهنَّ بحاصبٍ ... وغيبة شؤبوبٍ، من الشدَّ ملهبِ
فأدركهنَّ ثانياً من عنانهِ ... يمرُّ كمرّ الرائحِ المتحلبِ
فأدرك فرسه ثانياً من عنانه، لم يضربه بسوط، ولم يزجره بساقه، ولم يتعبه. فقال لها امرؤ القيس: ما علقمة بأشعر مني، ولكنك له عاشقة. وطلقها، وخلف عليها علقمة، فكسمي. وله يقول الفرزدق:
والفحلُ علقمةُ الذي كانت له ... حلل الملوك كلامه تتنخلُ
وأما الجاحظ فأنكر ذلك، وقال: إنما سمي الفحل لأن بعض عياهلة اليمن خصى علقمة بن شبل، فسمي علقمة الخصي، فلما وقع على هذا اسم الخصي، قيل لذاك: الفحل، ليفرق بينهما.
ومنهم البرك. وهو عوف بن مالك، وإنما سمي البرك في حرب، لأنه صعد ثنية من جبل، ومعه أمه على جمل، فلما وصل الثنية ضرب عرقوب فرسه البرك، وقال: أنا البرك أبرك حيث أدرك.
ومنهم الفند. واسمه شهل بن شيبان بن ربيعة، من بكر بن وائل. وكان شيخاً كبيراً، يعد بألف. فقدم في بكر بن وائل في سبعين رجلاً. فلما رأتهم بكر بن وائل استقلوهم، وقالوا: ويك تغير بهذا الجمع القليل أيها الشيخ؟ فقال: أما ترضون أن أكون لكم فندا؟ قالا: بلى. والفند: الحجر العظيم، أو القطعة الضخمة من الجبل. سمي بذلك.
ومنهم زيد الخيل. وهو زيد بن مهلهل بن زيد. وإنما سمي بذلك لكثرة طراده للخيل، ومغاورته القبائل والأحياء. وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد الخير.
ومنهم عنترة الفوارس. وهو عنترة بن شداد. وإنما سمي عنترة الفوارس لكثرة ملاقاته فرسان العرب، وإغارته على أحيائها. وكان فارساً.
ومنهم سليك المقانب. وهو سليك بن عمرو. وإنما سمي المقانب لأنه كان صاحب غارات، وأنشد:
وإذا تواكلتِ المقانبُ لم يزلْ ... بالقفرِ منا مقنبٌ معلومُ
وكان هذا أيضاً يسمى رئبالاً. والرئبال: اسم للسبع.
ومنهم الفاتك. وهو عبد الله بن الحسن. وإنما سمي بالفاتك لفتكه في الحرب.
ومنهم المذلق. وهو أوس بن عباد بن عبدود. وإنما سمي المذلق لأن سنانه كان لا يطعن به شيئً إلا أنفذه. فسمي بذلك. وفي ابنه يقول المذلق:
متى ألقَ عبادَ بنَ أوسٍ أقلْ لهُ ... عليكَ سلامُ اللهِ يا ابنَ المذلق
ومنهم المسيب. واسمه زهير، من ربيعة بن نزار. وإنما سمي المسيب حين أوعد عامر بن ذهل، فقالت له بنو ضبيعة: قد سيبناك. فقال فيه بعض شعرائهم:
إذا سركم ألا تؤوبَ لقاحكمْ ... بطاناً، فقولوا لمسيب يسرحِ
ومنهم فقيد ثقيف، واسمه عمرو بن عبد الله. وكان سببه أنه عشق امرأة أخيه سفيان، وكتم أمره، ولم يعرف الأطباء داءه. فقال الحارث بن كلدة الثقفي، وكان طبيب العرب: هو عاشق. فدعى بشراب، فصبه في فيه حتى سكر، فأنشا يقول:
أهيجُ وأهيجُ، و ... حزيناًً ما أكوننهْ
ألما بي على الأبيا ... تِ بالخيفِ أزرهنهْ
غزالاً ما رأيتُ اليو ... مَ في دورِ بني كنهْ
غزالاً أحور العين ... وفي منطقهِ غنهْ
فقال الحارث: قد عرض ولم يبن. فزاده من الشراب، وعرض عليه نساء العرب، فلما مرت به امرأة أخيه أنشأ يقول:
أهلَ ودي ألا اسلموا ... وقفوا كمي تكلموا
أخذَ الحيُّ حظهمْْْ ... من فؤادي، وأنعموا
فهمُ في كثيرةٍ ... وفؤادي متيمُ
وأخو الحبِّ جسمهُ ... أبدَ الدهر مسقمُ
طلعتْ مزنةٌ من ال ... بحر ريا تحمحمُ
هي ما كنتي، وأز ... عمُ أني لها حمُ
فلما أفاق من سكره عرف ما قاله، فاستحيا من أخيه، فذهب على وجهه، فلا يدرى أين توجه، فسمي فقيد ثقيف.
ومنهم يزيد الغواني. واسمه يزيد بن سويد بن حطان. وإنما سمي بذلك لأنه كان صاحب غوان يتحدث إليهن، فقال:
فلا تدعوني، بعدها، إنْ دعوتنى ... يزيدَ الغواني، وادعني للفوارسِ
ومنهم المجنونان، مجنون بني عامر، وهو قيس بن معاذ، ومجنون بني جعدة، وهو مهدي بن الملوح. سميا بذلك لإفراط جنونهما. قال المبرد: حدثني عبد الصمد بن المعذل، قال: سألت الأصمعي عن المجنون المسمى قيس بن معاذ، فقال: لم يكن مجنوناً، وإنما كانت به لوثة كلوثة أبي حية. واللوثة: الاضطراب، والاسترخاء والانتكاث. والمجنون إنما قيل له مجنون لأنه مستور القعل. ومنه سمي الجن لاستتارهم. وكذا الجنين.
ومنهم قيس الرقيات. وهو عبيد الله بن قيس بن شريح بن مالك بن ربيعة. ورقية بنت الحسين عليه السلام، وكان يمدحها، ورقية بنت عبد الله.
ومنهم تأبط شراً، لأنه احتطب ذات ليلة، ثم انصرف بحطبه، فإذا فيه حية، فقال: إني كنت أتأبط شراً. وقال قوم: إنه قتل الغول وتابطها. ولا حديث طويل يأباه العقل.
ومنهم الحسام. وهو حسان بن ثابت بن المنذر. وإنما سمي الحسام لأنه كان يبلغ بلسانه مبلغ الحسام. وقال مزرد بن ضرار:
ولستَ كحسانِ الحسامِ بنِ ثابتٍ ... ولستُ كشماخٍ، ولا كالمخبلِ
ومنهم اللعين المنقري. وإنما سمي اللعين لأنه جنى جناية، فتبرأ منه قومه، وطردوه وباعدوه، لكيلا يؤخذوا بجريرته. وعند العرب كل مطرود مباعد فهو لعين. وسميت اللعنة من البعد. قال الله جلت قدرته: " يلعنهم الله " : أي يباعدهم.
ومنهم مسكين الدارمي. واسمه ربيعة بن عامر وإنما سمي مسكيناً لأنه احتاج، فسأل أهله وعشيرته، فأعطوه وسموه مسكيناً. ولذلك قال:
وسميتُ مسكيناً وكانتْ لجاجةً ... وإني لمسكينٌ إلى اللهِ، راغبُ
ومنهم القارظان، قارظ عنزة، وقارظ يشكر، ذهبا يقرظان القرظ، ففقدا. فضرب بهما المثل. قال الشاعر:
وحتى يؤوبَ القارظانِ كلاهما ... وينشرَ في الموتى كليبُ بنُ وائلِ
ومنهم الراعي. واسمه عبيد بن الحمير بن معاوية وإنما سمي الراعي لكثرة وصفه رعي الإبل ولغتها في شعره. وقال:
كأنَّ مكاناً لكلكتْ ضرعها بهِ ... مراغةُ ضبعانٍ أسنَّ وأمرعا
لكلكت: حركت.
ومنهم الجفول. لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قومه يحمل لهم صدقات من الإبل، فجفلت الإبل منه. فسمي بذلك.
ومنهم القتال. واسمه عبد الله بن المضرحي. وإنما سمي بالقتال لكثرة قتله للناس. فقيل له في ذلك، فقال: والله ما أقتل أحداً ظلماً، إنما يجيئني الرجل فيقول: إن فلاناً ظلمني، وقد جعلت لك على قتله كذا وكذا، فاقتله.
ومنهم يسار الكواعب، وكان عبداً أسود. وإنما سمي بذلك لأنه لم تكلمه امرأة إلا ظنها قد عشقته. وكان النساء إذا رأينه يضحكن عليه. حتى نظرت إليه امرأة مولاه، وهي منهن، فضحكت عليه، فظن أنها خضعت له. فقال لصاحب له: قد عشقتني امرأة مولاي. فقال له: يا يسار، إشرب من ألبان هذه العشار، وارع في هذه الأرض القفار، وإياك وبنات الأحرار، فإنهن كحد الشفار. فلم ينتبه. فراجع امرأة مولاه، فأعدت له مدية، وقالت: أحضر بيتي هذه الليلة. فلما جاء إليها أخذت المدية وقطعت مذاكيره، وضربت بها وجهه، وجدعت أنفه. فخرج هارباً في جوف الليل، فلما رآه صاحبه قال لأصحابه: قد جاء يسار الكواعب. فلما نظر ما به قال له: ألم أنهك؟ فقال للذي كان نهاه:
أمرتُ أبا عوفٍ فلحَّ، كأنما ... برى بصريحِ النصحِ لسعَ العقاربِ
فقلتُ له: لا ترددِ النصحَ، إنني ... أخافُ بأنْ تردى أمامَ الكتائبِ
فقدْ عافَ محضَ النصحِ قبلك جاهلٌ ... فأصبحَ مجدوعاً يسارُ الكواعبِ
فجاءَ بما قد كنتُ أخشى، وربما ... أبى ذو النهى والرأيِ نصحَ الأقاربِ
فصل من لقب من الشعراء بفعل فعل غلب على اسمه
منهم عدل الأصرة. واسمه امرؤ القيس بن الحمام. وكان قديماً من الشعراء. وهو أول من بكى الديار. وذاك قول امرئ القيس:
يا صاحبيَّ قفا النواعجَ ساعةُ ... نبكي الديارَ كما بكى ابنُ حمامِ

وإنما سمي عدل الأصرة لأن أمه ولدته في الإبل، فلما راحت جعلت عدل الأصرة على بعير من إبلها، فسي بذلك. والأصرة: خيوط تشد على أخلاف الإبل، إذا فلت ألبانها لئلا ترضعها فصلانها. واحدها: إصرار. وأنشد:
ما شمَّ توديةَ الصرار فصيلُ
والتودية: عمود يشد على رأس الخلف.
ومنهم المضرب. واسمه عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى. وسمي بذلك لأنه كان يجلس إلى امرأة فبعشقها، فجاء إخوتها فضربوه.
ومنهم ثابت قطنة. وهو ثابت بن كعب بن جابر. وإنما سمي قطنة لأن عينه أصيبت، فجعل عليها قطنة.
ومنهم ذو الأصبع العدواني. واسمه حرثان بن حارثة. وسمي بذلك لأن حية نهشته في إصبعه. وقال قوم: إنه كان في أصابعه إصبع زائدة.
فصل من غلب اسم أمه على اسم أبيه
منهم ابن الحدادية. وهو قيس بن منقذ الخزاعي.
ومنهم خفاف بن ندبة، وندبة أمه، وكانت سوداء. وخفاف أحد أغربة العرب. وقال أبو عبيدة: أغربة العرب ثلاثة من الشعراء. وإنما سموا أغربة لأن أمهاتهم كن سوداً. وهم: خفاف بن ندبة، وأبو عمير بن الحارث بن الشريد، أحد بني سليم. وسليك بن السلكة، وهو من بني سعد بن زيد مناة من تميم. وعنترة بن زبيبة، أبو عمرو بن معاوية بن شداد.
ومنهم عمرو بن الأطنابة. وأبوه زيد بن مالك الأغر بن ثعلبة.
ومنهم الأشهب بن رميلة وهي أمه، وأبوه: ثور بن أبي خارجة بن عبد المنذر.
ومنهم شبيب بن البرصاء. وهي أمه واسمها بارعة بنت الحارث بن عوف وأبوه: يزيد بن جمرة بن عوف المزني.
ومنهم ابن عنقاء. وهو عبد قيس، من بني فزارة.
ومنهم ابن سهية. وهو: إرطاة بن زفر، من بني ذبيان.
ومنهم ابن أم ذبيان. وهو: زميل بن عقيد بن بلال.
ومنهم ابن أم صاحب. وهو: قعنب بن خمرة.
ومنهم ابن ميادة. وهو: الرماح بن أرثد بن ثوبان.
ومنهم ابن شلوة.
ومنهم ابن دارة. وهو: سالم من بني عبد الله بن غطفان. وفيه قيل: محى السيف ما قال إبن دارة. وأخوه أيضاً عبد الرحمن.
ومنهم ابن الطثرية. وهو يزيد بن المنتشر القشيري، وأمه من طثر، حي من مهرة.
ومنهم ابن قشحم. وهو قيس بن مالك. وقشحم اسم امرأة كان يضرب بها المثل لشجاعتها.
ومنهم ابن ضبة. وقيل: ابن الرعلاء. وما أدري الرعلاء اسم أمه أم أبيه، لأنه لم يعرف الأب.
ومنهم ابن الدمينة.
ومنهم ابن غزالة.
ومنهمخ ابن الطيفان. وهو من دارم.
فصل من نسب إلى أبيه من الشعراء
ابن قرنبل.
ابن الظرب.
وابن الخرج.
وابن جذل الطعان.
وابن العجلان: وهو عبد الله بن عجلان العاشق.
وابن هرمة: وهو إبراهيم.
وابن الرقاع العاملي.
وابن مقبل: وهو تميم بن ابي بن مقبل.
أسماء المعرقين من الشعراء
والمعرق من الشعراء من توالى له خمسة أو أقل أو أكثر، كلهم يقولون الشعر. فإذا كثروا حتى يكونوا أخوة، ولهم أولاد وأخوات وآباء كلهم يقول الشعر، قيل لهم: بيت. قال الحسن البصري: إن أمرء لا يعد بينه وبين آدم عليه السلام أباً حياً لمعرق له في الموت. وتقول العرب: إن فلاناً لمعرق له في الحسب والكرم أو اللؤم. ويقال: إن فلاناً لمعرق له في القتل، إذا توالت له آباء كلهم قتلوا، مثل عبد الله ومصعب إبني الزبير بن العوام. قل عبد الله ومصعب إبنا الزبير يوم ذات نكيف، وقتل العوام يوم الفجار، وقتل الزبير يوم الجمل، وقتل مصعب وابنه بالعراق، وقتل عبد الله بمكة. فعبد الله معرق له في القتل. وكذلك علي بن الحسين بن علي عليهم السلام.
ومن الشعراء المعرقين
العوام بن المضرب، وهو عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى. كل هؤلاء شعراء خمسة في نسق، وبينهم من إخوتهم وأولادهم شعراء أيضاً. فالعوام معرق، وأبو سلمى بيت.
نسب أبي سلمى
ومن قال الشعر من ولده، وولد ولده، وولد ولد ولده
وذكر ما يستدل ببعض أشعارهم عليهم أبو سلمى: اسمه ربيعة بن رياح بن قرط بن الحارث بن مازن بن ثعلبة بن ثور. كان أبوو سلمى يقول الشعر، وابناه زهير وأوس، وابنته خنساء. ومن ولد زهير: بجير وكعب. ومن ولد كعب عقبة. ومن ولد عقبة شبيب والعوام وسيف. فالعوام هو الشاعر من ولد عقبة. وزهير وكعب هما الشاعران المذكوران. فمن شعر أبي سلمى، رواه حماد الراوية، وإن كان ضعيفاً:
ولنا بقدسٍ فالبقيعُ إلى اللوى ... رجعٌ إذا لهثَ السبنتي الوالغُ
وادٍ، قرارٌ ماؤهُ ونباتهُ ... ترعى المخاضُ به، ووادٍ فارغُ
صعدٌ نحرزُ أهلنا بفروعهِ ... فيه لنا حرزٌ، وعيشٌ رافغُ
الرجع: المطر، والسبنتي: النمر، والرافغ: المخصب.
ومن شعر أوس، حيث عرض عليه الإسلام فأبى، رواه أيضاً حماد الراوية:
أحسبتني في الدين تابعةً ... أولوْ حللتُ على بني سهمِ
منعوا الخزايةَ عن بيوتهم ... بأسنةٍ وصفائحٍ خذمِ
ولقد غدوتُ على القنيصِ بسابحٍ ... مثل الوذيلةِ جرشعٍ لأمِ
قيدِ الأوابدِ، ما يغيبها ... كالسيدِ لا ضرجٍ، ولا قحمِ
ومن شعر خنساء بنت زهير:
ولا يغني توق المرءِ شيئاً ... ولا عقدُ التميمِ، ولا الغضارُ
إذا لاقى منيتهُ، فأمسى ... يساقُ به، وقد حقَّ الحذارُ
ولاقاهُ من الأيام يومٌ ... كما من قبل ُلم يخلدْ قدارُ
فأما زهير فأحد فحول الجاهلية. وفحولها أربعة: امرؤ القيس، والنابغة، وزهير، والأعشى. وبالإسناد عن عبد الله الليثي قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في مسيره إلى الجابية: أين ابن عباس؟ قال ابن عباس: فأتيته، فشكا تخلف علي عنه، قال: اولم يعتذر إليك؟ قال: بلى قلت: فهو ما اعتذر به. ثم قال: أما إن أول من ريثكم عن هذا الأمر أبو بكر، إن قومكم كرهوا لكم الخلافة مع النبوة. فقلت: لم؟ ألم تكن خيراً لهم؟ قال: بلى، لكنهم لو فعلوا كنتم عليهم جخفاً، جخفاً، جخفاً، وهو الفخر والبذخ والتطاول، ثم قال: هل تروي لشاعر السو شيئاً؟ قلت: ومن هو؟ قال: الذي يقول:
ولو أنَّ حمداً يخلدُ الناسَ خلدوا ... ولكنَّ حمدَ الناس ليسَ بمخلدِ
قلت: ذاك زهير، قال: فهو شاعر الشعراء، قلت: وبم كان ذلك؟ قال: كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتبع وحشية، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون في الرجال. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل ابن عباس عن أشعر العرب، فقال: زهير، فقال: بم؟ فقال: بقوله:
لو كان يقعدُ فوقَ الشمسِ من كرمٍ ... قومٌ بأولهم أو مجدهم، قعدوا
قومٌ، سنانٌ أبوهمْ حين تنسبهم ... طابوا، وطابَ من الأولاد ما ولدوا
محسدونَ على ما كان من نعمٍ ... لا ينزعُ الله منهم ما لهُ حسدوا
ومما يتمثل به من شعر زهير:
ومنْ يغتربْ يحسبْ عدواً صديقهُ ... ومنْ لا يكرمْ نفسهُ لا يكرمِ
ومنْ يجعلِ المعروفَ من دون عرضهِ ... يفرهُ، ومنْ لا يتقِ الشتمَ يشتمِ
ومنْ لا يذدْ عن حوضهِ بسلاحهِ ... يهدَّ، ومنْ لا يظلمِ الناسَ يظلمِ
ومنْ لا يصانعْ في أمورٍ كثيرةٍ ... يضرسْ بأنيابٍ، ويوطأ بمنسمِ
ومنْ هابَ أسبابَ المنيةِ يلقها ... ولو رامَ أسبابَ السماءِ بسلمِ
ومنْ لا يزلْ يستحملُ الناسَ نفسهُ ... ولا يعفها يوماً من الذلِّ يسأمِ
وهذه أبيات يفضلها الرواة، ويكثرون التمثيل بها. ومعنى قوله: ومن لا يظلم الناس يظلم.
فلاؤها هنا صلة، مثل قول الآخر: والطيبان أبو بكر، ولا عمر.
فلا: صلة زائدة. وقول الآخر: من ير يوماً ير به.
وقول الآخر: من لم يكن ذئباً أكلته الكلاب.
إستذأب الناسُ، فمن لم يكنْ ... في الناسِ ذئباً أكلتهُ الذئابْ
وأما بجير وكعب ابنا زهير، قال محمد بن سلام: قلت لخلف الأحمر: بلغني أنك تقول: كعب أشعر من زهير! قال: لولا أبيات مديح لزهير كبر أمرهن لقلت ذاك: وكان أخوه بجير أسلم قبله، فشهد مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فتح مكة، وقال في ذلك:
منحناهمْ بسبعٍ من سليمٍ ... وألفٍ من بني عثمانَ وافِ
فرحنا، والجيادُ تجولُ فيهم ... بأرماحٍ مثقفةٍ خفافِ
وفي أكنافهم طعنٌ وضربٌ ... ورشقٌ بالمريشةِ الخفافِ
وشهد أيضاً حنيناً، وكان من خيار المسلمين، وقال في ذلك:
وجلنا جولةً، ثمَّ ارعوينا ... فأمكنا لمن حضرَ الجلادا
وقيل: خرج كعب وبجير إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال كعب لبجير: الق هذا الرجل، وانظر ما يقول. فتقدم بجير فأسلم. فبلغ ذلك أخاه كعباً، فقال:
ألا أبلغا عني بجيراً رسالةً ... على أي شيءٍ ويبَ غيركَ دلكا
على خلقٍ لم تلفِ أماً ولا أباً ... عليهِ، ولم تدركْ عليهْ أخاً لكا
سقاكَ أبو بكرٍ بكأسٍ رويةٍ ... وأنهلكَ المأمورُ منها، وعلكا
فبلغت أبياته رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأهدر دمه. فكتب إليه بجير بذلك، وقال له: إنه من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قبل منه، وأسقط ما صدر منه. فأقبل كعب حتى دخل المسجد، فجلس بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: الأمان، فقال: من أنت؟ فقال: كعب بن زهير: فقال: أنت الذي تقول، وسأل أبا بكر عما قال، فأنشد البيت، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: مأمون والله. وفي رواية أخرى أن كعباً أتى أبا بكر فعرفه نفسه، فأتى أبو بكر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: رجل يبايعك على الإسلام، فبسط يده، فقال كعب بأبي أنت مكان العائذ بك، أنا كعب. فتجهمته الأنصار، وغلظت عليه، لما كان ذكر به النبي، عليه السلام. فأنشد النبي، صلى الله عليه وسلم قصيدته المشهورة:
بانت سعادُ فقلبي، اليومَ، متبولُ
حتى بلغ إلى قوله:
نبئتُ أنَّ رسولَ الله أوعدني ... والعفوُ عندَ رسولِ الله مأمولُ
وقال كلُّ خليلٍ كنتُ آملهُ ... لا ألهينكَ أني عنكَ مشغولُ
فقلتُ: خلوا سبيلي لا أبالكمُ ... فكلُّ ما وعدَ الرحمن مفعولُ
كلُّ ابنِ أنثى، وإنْ طالتْ سلامتهُ ... يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
إنَّ الرسولَ لسيفٌ يستضاءُ بهِ ... مهندٌ من سيوف اللهِ مسلولُ
في فتيةٍ من قريشٍ قال قائلهم ... ببطنِ مكةَ، لما أسلموا، زولوا
زالوا، فما زالَ إنكاسٌ ولا كشفٌ ... عندَ اللقاءِ، ولا خورٌ معازيلُ
لا يقعُ الطعنُ إلا في نحورهمُ ... وما بهم عن حياضِ الموتِ تهليلُ
فنظر النبي، عليه السلام، إلى من عنده من قريش، كأنه يومئ إليهم أن اسمعوا، حتى قال:
يمشونَ مشيَ الجمالِ الزهرِ، يعصمهمْ ... ضربٌ إذا عردَ السودُ التنابيلُ
يعرض بالأنصار. فأنكرت قريش ما قال، وقالوا: لم تمدحنا إذا هجوتهم. فقال:
منْ سرهُ كرمُ الحياةِ فلا يزلْ ... في مقنبٍ من صالح الأنصارِ
الباذلينَ نفوسهمْ لنبيهم ... عندَ الهياجِ وسطوةِ الجبارِ
والضاربينَ الناسَ عن أديانهم ... بالمشرفيّ، وبالقنا الخطارِ
صدموا الكتيبةَ يومَ بدرٍ، صدمةً ... ذلتْ لوقعتها رقابُ نزارِ
فكساه النبي، صلى الله عليه وسلم، بردة، اشتراها معاوية بعد ذلك بمال كثير. فهي البردة التي كانت يلبسها الخلفاء في العيدين.
وكان الحطيأة راوية لزهير وآل زهير، فقال يوماً لكعب: قد عرفت انقطاعي إليكم أهل البيت، وقد ذهبت الفحولو غيرك وغيري، فول قلت شعراً تذكر فيه نفسك وتضعني معك موضعاً، فقال:
فمنْ للقوافي شانها منْ يحوكها ... إذا ما ثوى كعبٌ، وفوزَ جرولُ
كفيتكَ لا تلقى من الناسِ واحداً ... تنخلَ منها مثلما يتنخلُ
فاعترضه مزرد أخو الشماخ فقال:
باستكَ إذ خلفتني خلفَ شاعرٍ ... من الناسِ لم أكفي، ولم أتنخلِ
فلست كحسان الحسام بنِ ثابتٍ ... ولست كشماخٍ، ولا كالمنخلِ
وكذلك يقول الكميت في آخر قصيدته:
فما ضرها أنَّ كعباً ثوى ... وفوزَ من بعدهِ جرولُ
ومن جيد شعر كعب قوله:
لأي زمانٍ يخبأ المرءُ نفعها ... غدا، فغدا والدهرُ غادٍ ورائحُ
إذا المرءُ لم ينفعكَ حياً، فنفعهُ ... أقلُّ إذا رصتْ عليهِ الصفائحُ
أخذه أبو العتاهية فقال:
إني رأيتك للدنيا وزينتها ... وما أريدكَ يومَ الدين للدينِ
وأما العوام بن عقبة بن كعب بن زهير فما اختير من شعره من قصيدة كثيرة المحاسن، وهي قوله:
فوالله ما أدري إذا أنا جئتها ... أأبرئها من دائها، أم أزيدها
فلم يبقَض يا سوداءُ نتئٌ أحبهُ ... وإنْ بقيت أعلامُ أرضٍ، وبيدها
سوى نظرةٍ من شبه سوداءَ إذ بدا ... لعينيَّ من أمّ الغزالةِ جيدها
لقد كنتُ جلداً قبل أن توقدَ النوى ... على كبدي ناراً، بطيئاً خمودها
فلو تركتْ نارُ الهوى لتضرمتْ ... ولكنَّ توقاً، كل يومٍ، يزيدها
وقد كنتُ أرجو أن تموتَ صبابتي ... إذا قدمتْ أيامها وعهودها
فقد حملتْ في حبة القلبِ والحشا ... عهادَ الهوى تولي بشوقٍ يعيدها
من الخفرات البيض ودَّ جليسها ... إذا ما قضتْ أحدوثة، لو تعيدها
حصانٌ من السوءات للشمسِ وجهها ... وللريمِ منها محجراها وجيدها
مرتجةُ الأطرافِ، هيفٌ خصورها ... عذابٌ ثناياها، عجافٌ قيودها
وصفرٌ تراقيها، وحمرٌ أكفها ... وسودٌ نواصيها، وبيضٌ خدودها
مثقلةُ الأردافِ زانت عقودها ... بأحسنَ مما زينتها عقودها
خليليَّ إني اليومَ شاكٍ إليكما ... وهل تنفعُ الشكوى إلى من يزيدها
حزازاتِ شوقٍ في الفؤادِ، وعبرةً ... أظلُّ بأطراف البنانِ أذودها
وتحت مجالِِ الصدر حرُّ بلابلٍ ... من الشوقِ لا يدعى لخطبٍ وليدها
نظرتُ إليها نظرةً ما يسرني ... بها حمرُ أنعامِ البلادِ وسودها
إذا جئتها وسط النساءِ منحتها ... صدوداً، كأنَّ النفسَ ليستْ تريدها
ولي نظرةٌ بعد الصدود من الهوى ... كنظرةِ ثكلى قد أصيبَ وحيدها
رفعتُ عن الدنيا المنى غيرَ وجهها ... فلا أسالُ الدنيا، ولا أستزيدها
وهذه الأبيات اخترتها من القصيدة، ومما أطربني، حفظتها فلم أسمع ألطف منها ومن ألفاظها الرقيقة، والمعاني الجزلة الرقيقة.
ومن الشعراء المعرقين
فاطمة ويزيد ابنا سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت. وهؤلاء كلهم شعراء مشهورون، سوى ثابت فإن شعره ضعيف، ليس هو مما يثبت، إنما له البيت والبيتان، فمن ذلك قوله:
ورثنا من البهلولِ عمرو بنِ عامرٍ ... وحارثةَ الغطريفِ مجداً مؤثلا
مواريثَ من أبناءِ بنت أبن مالكٍ ... وبنت أبن إسماعيلَ، ما أنْ تحولا
وابنته خولة بنت ثابت. وحسان بن ثابت عاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، ومات في ايام معاوية. وكانت له ناصية يشدها بين عينيه، وكان يضرب بلسانه أرنبة أنفه، ويكنى أبا الوليد. وأجمع الرواة أم حساناً أشعر المخضرمين. والمخضرمون: من قال الشعر في الجاهلية والإسلام. وهو شاعر رسول الله، وسماه الحسام. وكان شعره يبلغ من المشركين ما يبلغ السيف الحسام، تى أن أحياء كثيرة اسلمت فزعاً من شعره. وبذلك جاءت الأخبار الصحيحة فيه، وفي عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك. ويقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " المؤمن من جاهد بيده ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ينضحو لهم بالنبل " . وفي حديث آخر: " لكلام هؤلاء النفر من الأنصار أشد على قريش من نضح النبل، وأن الروح لتحضرهم بالتوفيق " .
وممن أسلم من شعر حسان: الزبعري.
وقيل أشعر المسلمين ثلاثة: عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت. وكان عبد الله يعيرهم بالكفر، وكان كعب يخوفهم الحرب، وكان حسان يقدح في أنسابهم، لأنه يعرف الأنساب معرفة جيدة. ولما ألح أبو سفيان في هجو رسول الله، صلى لله عليه وسلم استأذنه ابن رواحة وكعب في هجائه فسكت.
وأما شعراء المشركين: فعمرو بن العاص، وابن الزبعري، وأبو سفيان بن الحرث. وبالاسناد عن عائشة قال: لما هجا المشركون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ألا أحد يجيب عنا؟ قالت: فدعونا عبد الله بن رواحة يعارضهم. فعيرهم بالأيام والوقائع والكفر، فلم يبلغ ما يريد. قالت: فدعونا حساناً، فأخرج لسانه، فضرب به أرنبة أنفه، وقال: والذي بعثك بالحق، ما أحب أن لي مقولاً به في معد. قال: كيف وأنا منهم؟ قال: اسلك منهم مثل الشعرة من العجين. قال: يا ابا بكر: قم فعلمه تلك الصفات. قالت عائشة: فشفى وأشتفى. وفي رواية أن جبرائيل عليه السلام أعان حساناً بسبعين بيتاً. فهذا تأويل دعاء رسول الله، صلى الله عليه: " اللهم أيد حساناً بروح القدس " ، وقال له: " اهج المشركين، وروح القدس معك " . وفي حديث آخر: لما وفد وفد بني تميم وضع النبي صلى الله عليه لحسان منبراً فأجلسه عليه.
وفي رواية أن عمر بن الخطاب مر بحسان وهو ينشد في المسجد، فزجره ونهاه، فقال: قد أنشد من كان خيراً منك، يعني رسول الله.
وقيل: إن الحارث بن عوف أتى رسول الله فقال: أجرني من شعر حسان، فلو مزج البحر بشعره مزجه.
وحسان ممن وجفد على الملوك في الجاهلية، وأخذ الجوائز. ولما احتضر الحطيأة قال: أبلغوا الأنصار أن أخاهم أمدح الناس، حيث يقول:
يغشونَ حتى ما تهرُّ كلابهم ... لا يسألون عن السوادِ المقبلِ
وقوله:
ربَّ علمٍ أضاعهُ عدمُ الما ... لِ، وجهلٍ غطى عليهِ النعيمُ
أخذ هذا المعنى ابن هرمة فقال:
يكادُ إذا ما أبصر الكلبُ ضيفهُ ... يكلمهُ من حبهِ، وهو أعجمُ
ولما نظم حسان قوله:
نسودُ ذا المالِِ القليلِ، إذا بدتْ ... مروءتهُ فينا، وإنْ كانَ معدما
أعجب به، فصعد أطمة، ونادى: واصاحباه، فاجتمع قومه إليه، وقالوا: ما وراءك؟ فأنشدهم البيت، فعجبوا كما عجب.
وكان لحسان بنية شاعرة لم تذكر، وقيل: إن حساناً ارق ذات ليلة، فعن له أن يقول الشعر، فقال:
متاريكُ أذنابَ الأمورِ إذا اعترتْ ... أخذنا الفروعَ، واجتنينا أصولها
ثم أرتج عليه. فقالت له بنته: كأن قد ارتج عليك يا أبتي؟ قال: نعم. قالت: فهل لك أن أجيز عنك؟ قال: وهل عندك ذاك؟ قالت: نعم، قال: فافعلي، فقالت:
مقاتيلُ بالمعروفِ، خرسٌ عن الخنا ... كرامُ يعاطونَ العشيرةَ سولها
فحمي الشيخ فقال:
وقافيةٍ مثلِ السنانِ رزيتها ... تناقلتُ عنها افق السماءِ نزولها
فقالت:
يراها الذي لا ينطقُ الشعرَ عندهُ ... ونعجزُ عن أمثالها أنْ نقولها
ومن أحسن ما سمعت من غرر ابياته:
وكنتَ إذ ما موكبٌ صدَّ موكباً ... لدى الروعِ، يوم الروعِ، وحدك موكبا
أخذ هذا المعنى أبو تمام فقال:
قليلكمُ يربى على عددِ الحصى ... وواحدكم في الأرضِ، للهِ، عسكرُ
ولدعبل مثل هذا:
ما شكَّ خلقٌ أن فارسنا له ... إقدام جيشٍ لا يرامُ، لهامِ
وقيل: عن ساناً مر بقوم يشربون الخمر فنهاهم، فقالوا: ننتهي؟ وإنما إذا ذكرنا قولك نعود. فقال: وما هو؟ قالوا:
إذا ما الأشرباتُ ذكرن يوماً ... فهنَّ لطيب الراح الفداءُ
ونشربها، فتتركنا ملوكاً ... وأسداً ما ينهنهها اللقاءُ
فيرغبنا ذلك في شربها.
ذكر عبد الرحمن بن حسان
كان أهدى المقوقس، عظكيم القبط إلى النبي، صلى الله عليه مارية، فولدت له إبراهيم، ووهب لحسان سيرين، فولدت له عبد الرحمن. فبينا عبد الرحمن يلعب مع الصبيان، إذ لسعه زنبور فصاح، فاقبل حسان يسعى، وقال: ما لك؟ قال: لسعني زنبور كأنه برد حبرة. فضمه حسان إليه وقال: قال إبني الشعر ورب الكعبة، وأسلمه إلى المكتب. فهو في المكتب يوماً وقد نقم المعلم على الصبيان، فأدبهم عليه، وأراد تأديبه، فقال:
الله يعلم أني كنتُ معتزلاً
فقال المعلم: وإلا أين كنت؟ قال:
في دار يعقوب اصطاد اليعاسيبا
فبلغ حساناً، فأقبل يسعى حتى ضمه.
وكان عبد الرحمن يقول: عاش ابي مائة وعشرين سنة، وجدي ثابت مثلها وجد ابي منذر مثلها، وأنا ايضاً أعيش كموا عاشوا. فمات ولم يجاوز الستين سنة.
ومما وجدت من شعر عبد الرحمن:
ذممتَ ولم تحمدْ، وأدركتُ حاجتي ... تولى سواكمْ عرفها واصطناعها
أبى لكَ فعلَ الخيرِ رأيٌ مفندٌ ... ونفسٌ أضاقَ الله بالخيرِ باعها
إذا ما أرادتهُ على الخير مرةً ... عصاها، وإن همت بسوءٍ أطاعها
وله ايضاً:
وإني لأمسي، ثمَّ اصبح طاوياً ... وأكرم نفسي عن دقائقِ المطاعمِ
ومن نوادر أبياته:
إذا أبصرتني أعرضتَ عني ... كأنَّ الشمسَ من قبلي تدورُ
وله أخبار كثيرة يطول شرحها.
ذكر سعيد بن عبد الارحمن بن حسان
ومن شعره:
فإنَّ البلاء مرور اللوات ... تكرُّ على الناس بيضاًًًًًً وسودا
ليالٍ تكرُّ بأيامها ... تزيل عن أهل الجدودِ الجدودا
ومما وجدت من شعر فاطمة بنت سعيد:
سل الخير أهل الخير قدماً، ولا تسل ... فتىً ذاق طعم العيش منذُ قريبِ
فليسَ يلذُّ الخير إلا امرؤ به ... تغذى صبياً قبل وقتِ مشيبِ
ومثله لها:
واسألِ الخير، إن سألت، كريماً ... لم يزلْ يعرف الغنى واليسارا
فقليلُ الكريمِ يكسب فخراً ... وكثيرُ اللئيم يكسبُ عارا
ومن الشعراء المعرقين
محمد بن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن عطية بن الخطفى. كل هؤلاء شعراء معرقون، إلا عطية، فهو ضعيف، وقل ما يروى نله. وأشعر ولد جرير بلال.
وأما الخطفي فهو حذيفة بن يدر بن سلمة بن عوف، وسمي الخطفي لقوله:
وطول رحال المطي اختلفا ... يرفعن لليل إذا ما أسدفا
أعناقَ حياتٍ، وهاماً رجفا ... وعنقاً، بعد الكلالِ، خيطفا
والخيطف: السريع. ومن شعر الخطفي:
عجبت لإرزاء العييّ لنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقولِ أعلما
وفي الصمت سترٌ للعييّ، وإنما ... صحيفة لبِّ المرءِ أن يتكلما
ذكر جرير ولده
وولد جرير: حرزة، وزكرياء، والصفاح، وسوادة، والثبجان، وأمهم خالدة بنت سعد بن أوس. ولها يقول:
تشكت أمُّ حرزة، ثمَّ قالت ... رأيتُ الموردين ذوي لقاحِ
وكذا يقول:
حيوا أمامة، واذركوا عهداً مضى ... قبل التفرقِ من شماليلِ النوى
وبلال، ونوح، أمهما أم حكيم بنت سعد، من أهل الري، سباها قطري بن الفجاءة، فوقعت في يدي الحجاج، فوهبها لجرير، وفيها يقول:
لقد زدتِ أهل الريّ عندي ملاحةً ... وحببت، أضعافاً، إليَّ المواليا
إذا عرضتْ بالبين منها تعرضت ... لأمِّ حكيمٍ حاجةٌ في فؤاديا
وفيها يقول:
ما استوصف الناس من شيءٍ يروقهمُ ... إلا رأؤا أمَّ نوحٍ فوق ما وصفوا
كأنها مزنةٌ غراءُ رائحةٌ ... أو درةٌ ما يواري ضوءها الصدفُ
وشعراء الاسلام اربعة: جرير، والفرزدق، والأخطل، وكثير. وسئل الأخطل عن نفسه وعن جرير والفرزدق فقال: أنا أمدحهم للملوك، وأوصفهم للخمر، والفرزدق أفخرنا، وجرير أهجانا وأسبنا وأسهبنا. ويقال: الفرزدق ينحت من صخر، وجرير يغرف من بحر.
ومر الراعي في سفر فسمع إنساناً يغني بشعر جرير:
وعاوٍ عوى من غير شيءٍ رميته ... بقافيةٍ إنفاذها يقطرُ الدما
خروجٍ بأفواهِ الرواةِ كأنها ... قرا هندوانيٍّ، إذا هزَّ صمما
فقال الراعي: لعن الله من يلومني إذا قلت: جرير يغلبني.
وسئل الأخطل عن جرير، فقال: دعوه، فإنه كان بلاء على من صب عليه، وما أخشن ناحيته، واشرد قافيته، والله لو تركوه لأبكى العجوز على شبابها، والشابة على أحبابها، ولقد هزوه فوجدوه عند الهراش نابحاً، ولقد قال بيتاً لأن أكون قلته أحب إلي مما طلعت عليه، وهو قوله:
إذا غضبت عليك بنو تميمٍ ... حسبت الناس، كلهمُ، غضابا
ويقال: إن جريراً هاجى ثلاثين شاعراً غلبهم، وأخباره كثيرة مسموعة، وقد تداولتها الألسن، فلا نذكر منها إلا لمعاً، وكذا من أشعاره نذكر ما يتمثل به.
ومن العجب أن أم جرير رأت في نومها كأنها ولدت جريراً، والجرير: زمام النجيب، من سيور مضفورة، وكان الجرير مطوياً، فجعل أهله يأخذونه فينثرونه ويجعلونه قلائد في أعناق رجال لا تعرفهم. فخبرت أباه بذلك، فقال: لتلدن غلاماً يعد الناس بشر. فلما ولدت جريراً سألته أن تسميه جريراً، فكان منه ما كان.
وقال جرير: لا يقال للشعر شعراً إلا أن يكون بعضه أخذاً برقاب بعض.
وقيل لمسلم: أي الشاعرين أفضل، جرير أم الفرزدق؟ فقال: الفرزدق يبني، وجرير يهدم. وقال: بيوت الشعر أربعة: فخر، ومدح، وهجاء، ونسيب. وجرير غلب في هذه كلها. ويريد بالفخر قوله:
إذا غضبت عليك بنو تميمٍ ... حسبتَ الناس كلهمُ، غضابا
ويريد بالمدح قوله:
ألستمْ خيرَ من ركب المطايا ... وأندى العالمينم بطونَ راحِ
ويريد بالهجاء قوله:
فغضَّ الطرفَ إنكَ من نميرٍ ... فلا كعباً بلغتَ، ولا كلابا
ويريد بالنسيب قوله:
إنَّ العيونَ التي في طرفها مرضٌ ... قتلننا، ثمَّ لم يحيينَ قتلانا
يصرعن ذا اللبِ حتى لا حراكَ به ... وهنَّ أضعفُ خلق اللهِ أركانا
وقيل لبشار: من أشعر الثلاثة؟ فقال: لم يكن الأخطل مثلهما، ولكن ربيعة تعصبت له وأفرطت فيه، وكان لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق. ولقد ماتت النوار فكانوا ينوحون عليها بشعر جرير، الذي رثى به أم حرزة، وهو:
لولا الحياء لعادني استعبار ... ولزرت قبرك، والحبيب يزارُ
ولقد أراكِ كسيت أجمل منظرٍ ... ومع الجمال سكينةٌ ووقارُ
لا يلبثُ القرناء إن يتفرقوا ... ليلٌ يكرُّ عليهمُ ونهارُ
وقوله:
فإن أكُ مجفواً فأخسر صفقتي ... وإن أك متروكاً فللقوسِ منزعُ
ولستُ أخا ذنبٍ فأخشى نكالهُ ... وإن كنتُ ذا ذنبٍ فحلمكَ أوسعُ
وله أيضاً:
يا أيها المولى الذي لم أبتهل ... إلا سألتُ لهُ البقاءَ إلهي
أشكو إليك، وكيف أشكو خلتي ... إلا إليكَ، وأنتَ بابُ اللهِ
وله أيضاً:
غاب عنا فغاب كلُّ سرورٍ ... وأتانا بالبشرِ والترحيبِ
طاوياً بالدنوّ ما نشر البع ... د علينا من الجوى والكروبِ
سافراً عن أسرةٍ تخجل الشم ... س، وتخزي وجه الزمان القطوبِ
وله أيضاً:
نمَّ في الليل عرفها وسناها ... ووشى حليها فهبَّ الرقيبُ
فخشينا الواشي فقلنا أستري ما ... نمَّ، قال، والقول منها عجيبُ
هب سترت الحليَّ، أو ضوء وجهي ... كيف أخفي نشري، وكلي طيبُ
وله ايضاً:
إذا كنت لا أقري الضيوف وأخرق ... وأغني كلَّ عافٍ ومدقعِ
وإلا فبدلتَّ القناة بمغزلٍ ... وسرجي بخدرٍ، واللئامَ ببرقعِ
ذكر أم غيلان بنت جرير
تزوج حبيب الرياحي أم غيلان. وكان لها ابن عم يدعى جعداً، قد خطبها، فأبى جرير أن يزوجه. فجعل جعد وابن عم له يكنى أبا موزون يقعان في زوجها، ويزعمان أنه عنين، فقال:
أصبح جعدٌ وأبو موزون ... يرمون قسطاطي بالظنونْ
ما ساق خمساً قبلهُ عنين ... يسأل في المهرِ ويستدينْ
فسمع جرير الشعر، فقال: هذا شعر أعرفه.
ذكر بلال بن جرير
له يرثي أباه جريراً:
إني رأيتُ جريراً يوم فارقنا ... أبكى ربيعة، وأختلتْ له مضرُ
باتَ المحامي عن الأحساب قد علموا ... والمحرزَ السبقَ لما أعظم الخطرُ
إما ثويتَ مقيماً فوقَ رابيةٍ ... فقد مضت لك أيامٌ لها غررُ
قد كان في الحرب ليثاً ذا مزابنةٍ ... شعباً إذا استحصدت، من حربه، المررُ
وكان يكوي ذوي عرٍّ فيبرئهم ... وكان يعفو كثيراً، وهو مقتدرُ
وربَّ داعٍ دعا في الكيل أطلقه ... والخطو من قيده في الخطو مقتصرُ
وباب ملكٍ نفعت النازلين به ... والبابُ ممن يردُّ الباب محتصرُ
فأنعى جريراً إلى الأخلافِ إذْ نزلوا ... وللأرامل لما أخلفَ المطرُ
ويقول جامع هذا الكتاب: إني مجب بهذه القطعة، وهذا، والله، الشعر.
وولد بلال عقيل
قال عقيل: سمعتني إعرابية وأنا أنشد شعراً:
وكم ليلة قد بتها غير آثمٍ ... بمهضومةٍ الكشحينِ، ريانةِ القلبِ
فقالت لي: هلا أثمت أديناً أم عنيناً؟ وقال في رجل حلف يميناً كاذبة:
لا حلف يقطع حقَّ خصمٍ شاغبٍ ... إلا كحلف عبيدةَ بن سميدعِ
أمضى اليمين على الغموس لجاجةً ... عضَّ الجموحِ على اللجامِ المقدعِ
وعمارة ولد عقيل بن بلال
وكان عمارة اشعر ولد جرير، وهو غزير الشعر، كثير التصرف، وأخذ عنه ابن الأعرابي وابن السكيت. ومن شعره:
أرى الناسَ طراً حامدين لخالدٍ ... ومأكلهم أفضت إليه صنائعهُ
ولن يترك الاقوام أن يحمد الفتى ... إذا كرمت أخلاقه وطبائعهُ
فتى أمعنت ضراؤهُ في عدوهٍِ ... وخصت وعمت في الصديق منافعهُ
فأخذ هذا المعنى أبو هفان، فمدح به ابن ابي دواد، فقال:
ما لي إلى ابن أبي دؤادٍ حاجةٌ ... تحدو إليه، ولا له عندي يدُ
إلا يدٌ عمت فكنت كواحدٍ ... ممن يعين على الثناء ويسعدُ
نال البعيدَ عرفه، فشكرته ... والحرُّ يشكرُ أن ينال الأبعدُ
وقال أيضاً:
وكم قد رأينا من كهامٍ، وجفنه ... حديدٌ، ورثّ الغمد، وهو جديدُ
ومغتمضٍ في العين صدق ٍلقاؤهُ ... ومن مالئٍ للعين وهو بليدُ
وشبيه بهذا المعنى:
خلائقُ المرءِ في الدنيا تزينهُ ... ما إن يزينه طولٌ ولا عظمُ
قد يخلفُ المرءُ، والمرآةُ معجبةٌ ... وقد يسودُ الفتى في كشحهِ هضمُ
ومثله:
وقد يعجزُ المرءُ السمينُ عن العلى ... وقد يمنعُ الضيمَ الفتى وهو أعجفُ
وله وقد أسن:
كبرتُث ودقَّ العظمُ مني، وقني ... بنيَّ، وأجلتْ عن فراشي القعائدُ
وأصبحتُ أعمى لا أرى الشمسَ بالضحى ... تعيرني بين البيوتِ الولائدُ
وأكثر هجري أهلُ بيتي ومنزلي ... وبتُّ كأني منهمُ متباعدُ
وقد كنتُ أغدو في رضاهم كأنني ... من الطير أقنى ينفضُ الطلَّ صائدُ
ولن تلبثَ الأيامُ شيئاً طلبتهُ ... وسودُ الليالي المخلداتُ الجدائدُ
ذهبنَ بإسحاقَ الجوادِ مع الذي ... ببغدادَ صادتهُ المنايا الصوائدُ
يعني إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وكان امتدحه فوهب له خمسين ألف درهم.
وقيل لعمارة بعدما عمي: أيما أشعر أنت أبو أبو تمام؟ فقال: أبو تمام، فقيل له: إنك لأشعر منه، فقال: أنا لا أجيد إلا في وصف النؤي والأثافي والديار، وأبو تمام يقول:
لولا العيونُ، وتفاحُ الخدودِ، إذاً ... ما كان يحسدُ أعمى منْ له بصرُ
فما اشتهيت أن أكون بصيراً إلا مذ سمعت هذا البيت.
ولعمارة لما دخل بغداد:
ترحلْ، فما بغدادُ دارَ إقامةٍ ... وما عندَ منْ أضحى ببغدادَ طائلُ
محلّ ملوكٍ سمنهمْ في أديمهم ... فكلهمُ من حلةِ المجدِ عاطلُ
إذا غطمطَ البحرُ الغطامطُ ماؤهُ ... فليسَ عظيماً أن تفيضَ الجداولُ
قوله: سمنهم في أديمهم: كما يقال: سمنهم في عجينهم، أي ما يغذي فضلة.
وأنا أقول: قاتله الله، لو شاهد هذه الأيام المستنصرية، وهذه المواهب التي عمت البرية. ولقد أجاد من قال في هذا العصر المذهب والزمان الفسيح المذهب:
أقمْ في ذرى بغدادَ، تلقَ إمامها ... مليكاً عليه للنبيِّ دلائلُ
عجبتُ وقد أضحتْ أياديهِ أبحراً ... وليس لها إلا النوال سواحلُ
وفي أهل بغدادَ الكرامِ ثلاثةٌ ... لهم محتدٌ في المكرماتِ، ونائلُ
وزيرٌ سما فضلاً، وأستاذُ دارها ... حليفُ الندى، وابنُ الدوامي عادلُ
ثلاثةٌ أجوادٍ، لو أفتخرتْ بهم ... تميمٌ وتيمٌ باهلوا وتطاولوا
ولعمارة أيضاً:
إذا ما سقى الله البلادَ فلا سقى ... بلاداً بها الميدانُ برقاً ولا رعدا
فيا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً ... على صدرٍ منها، كما جئتها وردا
ومن الشعراء المعرقين
متوج بن محمود بن مروان بن أبي الجنوب بن موان بن يحيى بن ابي حفصة، واسمه يزيد. فكل هؤلاء شعراء. فمتوج معرق، وأبو حفصة بيت، ولهم من ولدهم شعراء لا يحصى لهم عدد، ونذكر العمود بن أبي حفصة إلى متوج.
ومن شعر يحيى بن ابي حفصة يرثي عبد الملك بن مروان:
إنَّ المنايا لا تغادرُ حاسراً ... يشي بثوبيهِ، ولا ذا جنهْ
إنَّ المنايا لو تغادرُ واحداً ... كان الخليفةُ ناجياً منهنهْ
بكتِ المنابرُ يومَ ماتَ، وإنما ... تبكي المنابرُ فقدَ فارسهنهْ
قد كان حلمكَ كالجبالِ رزانةً ... بل لو يوازنهنَّ مالَ بهنهْ
وله حين خرج يزيد بن المهلب:
لا يصلح الناس إلا السيف إن فتنوا ... لهفي عليكَ ولا الحجاج للدينِ
لو كان حياً لحي الأزد إذ فتنوا ... لم يحص قتلاهم حسب دارينِ
وأما أبو السمط مروان الكبير، كان أبو عمرو الشيباني يقول: ختم الشعر بمروان. ودون شعر القدماء، نفلما انتهى إلى شعر بشار لم يكتبه، واستخار عليه شعر مروان.
وكان مروان أبعد المحدثين من السخف، وأصلحهم مبالغة في المدح.
فمن أحلى قصائده التي اشتهر بها، وأعلى المهدي قدره وقرب مجلسه ووفر له العطاء، ولم يعط شاعر ما أعطي، فهي قوله:
طرقتكَ زائرةٌ فحيِّ خيالها ... بيضاءُ تخلطُ بالحياءِ دلالها
فلما أنشدها المهدي قال له: كم بيت؟ قل: مائة بيت، فأمر له بمائة ألف درهم، وقال له: لو زدتنا زدناك.
ومن القصيدة:
ما زالَ ينصبُ للهواجرِ وجههُ ... ويخوضُ في ظلم الدجى أهوالها
حتى إذا وردت أوائل ُخيلهِ ... جيحانَ، بثَّ على العدوِّ رعالها
وقال مروان لخلف الأحمر: إسمع شعري وأصدقني عنه، قال: هات، فأنشده طرقتك زائرةفحي خيالها، فلما بلغ إلى قوله: حتى إذا وردت أوائل خيله قال: لأنت أشعر من الأعشى في قوله:
رحلتْ أميمةُ غدوةً أجمالها
وفي هذه القصيدة يقول بالميراث للعباس:
حسدتكمُ ميراثَ أحمدَ عصبةٌ ... لم ينهَ أهلُ حلومها جهالا
أسفوا لأنْ نالَ الوراثةَ دونهم ... عمُّ النبيِّ، وبالفريضةِ نالها
قلْ للذين على الخلافةِ شايحوا ... ليفتحوا بمناهمُ أفقالها
قد طالَ ما شغلَ الوراثةَ عنهمُ ... أربابها، فدعوا المنى وضلالها
كشفَ الكتابُ عن العيونِ غطاءها ... وشفى الصدورَ، ونورهُ أشفى لها
شهدتْ، من الأنفالِ، آخرُ آيةٍ ... بتراثهم، فأردتمُ إبطالها
هل تطمسونَ من النجومِ لجومها ... بأكفكم، أمْ تسترونَ هلالها
أو تسترونَ مقالةً عن ربكم ... جبريلُ بلغها النبيَّ فقالها
له في مثل ذلك:
يا ابن الذي ورثَ النبيَّ محمداً ... دونَ الأقاربِ من ذوي الأرحامِ
الوحيُ بين بني البناتِ وبينكم ... قطعَ الخصامَ، فليس حين خصامِ
أنى يكونُ، وليسَ ذاك بكائنٍ ... لبني البناتِ وراثةُ الأعمامِ
أخذ هذا المعنى من قول طاهر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، حيث يقول للطالبيين:
لو كان جدكمُ هناكَ وجدنا ... فتسارعا فيهِ لوقتِ خصامِ
كان التراثُ لجدنا من دونهِ ... فحواهُ بالقربى بالإسلامِ
حقُّ البناتِ فريضةٌ معلومةٌ ... والعمُّ أولى من بني الأعمامِ
وله حين سئل عن جرير والفرزدق والأخطل:
ذهبَ الفرزدقُ بالفخارِ، وإنما ... مرُّ القصيدِ وحلوهُ لجريرِ
ولقد هجا فأمضَّ أخطل تغلبٍ ... وحوى النهى بمديحهِ المشهورِ
كلُّ الثلاثةِ قد أبرَّ، فمدحهُ ... وهجاؤهُ قد سارَ كلَّ مسيرِ
ولقد جريتُ ففتُّ غيرَ مقصرٍ ... بجراء لا حصرٍ، ولا مبهورِ
إني لآنفُ أنْ أجيزَ بمدحهِ ... أبداً لغيرِ خليفةٍ ووزيرِ
ما ضرني حسدُ اللئامِ، ولم يزلْ ... ذو الفضلِ يحسدهُ ذوو التقصيرِ
وكان مروان شاعراً للهادي وللمهدي وللرشيد، وكان وصوله إلى المهدي من أطرف ما يحكى. وذاك أنه قصد باب المهدي، وتمسك بوزيره يعقوب بن داود، وأقام سنة لم يوصله. واتفق أن المهدي قبض على يعقوب، وبقي مروان حائراً. فهو في بعض الأيام على باب المهدي إذ خرج إليه يزيد بن منصور الحميري، وقال: يا ابن ابي حفصة إن أمير المؤمنين ذكرك آنفاً وقال أنصرف عن بابي، ولا حاجة لي في شعرك. قال: فانصرفت وأنا مغموم. ثم تذكرت رجلاً كنت أشكو إليه همومي، واستريح إليه، فجئته، فدلني على يزيد بن مزيد، فشكوت إليه الحال، فقال: أدلك على رجل صدوق الحديث، له رقة، عساه ينفعك، فقلت: ومن هو؟ قال: الحسن الحاجب. فغدوت إليه، فشكوت حالي، فقال: اعمل قصيدة، وعرض بذكر يعقوب، واهجه فيها. فقلت قصيدتي التي أقول فيها:
أتاني عن المهديِّ قولٌ كأنما ... به أحتزَّ أنفي، من ذوي الضغنِ، جادعُ
فقلتُ، وقد خفتُ التي لا شوىً لها ... بلا حدثٍ: إني إلى الله راجعُ
فما لي إلى المهديّ، إنْ كنتُ مذنباً ... سوى حلمهِ الضافي على الناسِ، شافعُ
هل البابُ مفضٍ بي إليكَ ابنَ هاشمٍ ... فعذريَ، إنْ أفضى بيَ البابُ، أوسعُ
أثبتَ أمرأً طلقتهُ من وثاقهِ ... وقد أنشبتْ في أخدعيهِ الجوامعُ
وقال في قصيدة أخرى:
سيحشرُ يعقوبُ بن داودَ خائناً ... بلوحِ كتابٍ، بين عينيه كافرُ
خيانتهُ المهديَّ أودتْ بذكرهِ ... فأمسى كمن قد غيبتهُ المقابرُ
بدا منك للمهديِّ، كالصبحِ ساطعاً ... من الغشِّ، ما كانتْ تجنَّ الضمائرُ
وهل لبياضِ الصبح، إنْ لاحَ ضوءهُ ... فجابَ الدجى، من ظلمة الليلِ ساترُ
أمنزلةً فوقَ التي كنتَ نلتها ... تغاطيتَ، لا أفلتَّ مما تحاذرُ
وما زلتَ ترقى فوقَ قدركَ صاعداً ... بأفككَ، حتى قيلَ: يعقوبُ ساحرُ
قال: ثم أتيت بهما الحسن بعد يومين، ودفعتهما إليه فقال: لست واضعهما حتى أضعهما في يد المهدي. ففعل ذلك، وقرأهما على المهدي. فمضيت إليه وسألته عن الحال، فقال: لما قرأهما المهدي رق لك، وأمرني بإحضارك إليه، فاحضر يوم الاثنين. فحضرت الباب، فخرج وقال: قد علم أمير المؤمنين مكانك، ولقد احب أن يجعل لك يوماً يشرفك فيه، ويشهرك، ويبلغ بك شأواً. فقلت: ومتى يكون؟ قال: يوم الخميس تحضر. فحضرت، فإذا وجوه بي هاشم يدخلون. فلما غص المجلس دعاني، فدخلت، فسلمت بالخلافة، فرد علي السلام، وقال: إنما حبسناك من الدخول لانقطاعك إلى الفاسق يعقوب. فخدمت وافتتحت النشيد مما قلت في يعقوب. ثم انشدته قولي:
طرقتكَ زائرةٌ فحيَّ خيالها
فأعجب به وقال: جزاك الله خيراً، فقلت: اشهدوا أن أمير المؤمنين دعا لي. ثم أنشدته:
أعادكَ من ذكر الأحبةِ عائدُ
فلما صرت إلى قولي:
أيادي بني العباسِ بيضٌ سوابغٌ ... على كلِّ قومٍ بادياتٌ عوائدُ
همُ يعدلونَ السمكَ من قبة الهدى ... كما يعدلُ البيتَ الحرامَ القواعدُ
كأنَّ أميرَ المؤمنينَ محمداً ... برأفتهِ بالناسِ، للناس والدُ
أشار بيده: امسك. فمسكت. ثم قال: يا بني العباس، هذا شاعركم المنقطع إليكم، فأعطوه ما يسره. فقلت: فداك أبي وأمي إذا علموا رأي امير المؤمنين في فذاك الفرض. فقال: إني فارض لك عليهم مالاً. ففرض على ابنه موسى بخمسة آلاف درهم، وعلى ابنه هارون مثلها، ثم فرض على القوم على أقدارهم، حتى فرض سبعة وثلاثين ألف درهم، والربيع يكتب، فاستكثر الربيع ذلك، فقال: ولك من الربيع مثل ذلك، فصار المال ستين الفاً. فدعوت وشكرت وقمت بأسر ما يكون، فقلت: هل لأمير المؤمنين أن يجعل هذه الصلة غير مكدرة سؤال غيره؟ قال: نعم، وكتب بها توقيعاً لا أحتاج فيه إلى سؤال أحد أو شفاعة. فخرجت، فلما صرت خلف الستر تبعني خادم ومعه منديل فيه أربعة أثواب من أفخر الثياب، وجبة وقميص من ملابسه الشريفة، وقال: ألبسوه وأعيدوه إلي. فلبست الثياب وعدت إليه. فلما رآني تبسم، ودعا بطيلسان، فنشر ووضع علي بين يديه، وأمر لي بعشرة من الخدم، وضيعة ساجية السواد، وخيل فبعت الضيعة لعيسى بن موسى بعشرين الف درهم وفرس مكمل العدة.
ولم يزل مروان بباب المهدي حتى هلك، فقال يرثيه:
لقد أصبحتْ تختالُ في كلِّ بلدةٍ ... بقبرِ أميرِ المؤمنينَ المقابرُ
أتتهُ التي ابتزتْ سليمان َملكهُ ... وألوتْ بذي القرنين منها البوادرُ
أتتهُ فغالتهُ المنايا، وعدلهُ ... ومعروفهُ في الشرقِ والغربِ ظاهرُ
فلما قام موسى الهادي ولده مدحه، وقال من جملة مدحه:
بسبعينَ الفاً شدَّ ظهري وراشني ... أبوكَ، وقد عاينتَ من ذاك مشهدا
وإني، أميرَ المؤمنينَ، لواثقٌ ... بأنْ لا أرى شربي لديكَ مصردا
فلما أنشده ذلك قال: ومن يبلغ مدى المهدي؟ ولكنا نبلغ رضاك.
فعاجلت موسى منيته قبل أن يعطي مروان جائزته. فلما مات رثاه، وهنأ هارون فقال:
أيا يومَ الخميسِ ملأتَ حزناً ... وتبريحاً قلوبَ المؤمنينا
خميسٌ كان أولهُ بكاءً ... وآخرهُ يسرُّ المهتدينا
لئنْ جاءَ الخميسُ بما كرهنا ... لقد جاءَ الخميسُ بما هوينا
أبو إسحاق ماتَ ضحىً، فمتنا ... وأمسنا بهارونٍ حيينا
وهذا معنى مستملح.
فلما قام هارون مدحه فأجزل صلته، ومضى إلى اليمامة وعاد، فأقام بباب الرشيد حتى مات سنة إحدى وثمانين، ودفن ببغداد في مقبرة نصر بن مالك. ومن صلات الرشيد له مائة ألف وألف درهم.
ذكر مروان الأصغر
شهر مروان هذا في زامن المتوكل، وتقدم على نظرائه. وسبب ذلك أنه كان يسفه رأي العلويين، الذين يخرجون على بني العباس. ولم يمدح الواثق، وإنما المتوكل أرسل أحضره من اليمامة. ولما دخل على المتوكل أنشده قصيدته التي منها:
أنا ابنُ الذي اشجى عداكم بمدحه ... وما زاركمْ من شاعرٍ، بعدهُ، مثلي
طلبتمْ، بني البنتِ، التراثَ بأمكمْ ... وذاك لكم داعٍ إلى البتلِ والشكلِ
أبو طالبٍ أولى بكمْ من محمدٍ ... إذا نسبَ الأقوامُ، في الجدِّ والهزلِ
فلما فرغ من انشادها أمر المتوكل، فنثر عليه ثلاثمائة ألف دينار، وأمره بالجلوس، وأمر ولاة العهود الثلاثة: المنتصر والمعتز والمؤيد أن يلتقطوها فيجعلوها في حجره. وعقد له على اليمامة والبحرين وطريق مكة. وحسدته الشعراء على مكانه من المتوكل، وهجاه خلق عظيم واستبردوا شعره. فمن ذلك قول الشافعي:
كزَّ أبو السمط بأشعارهِ ... فصارَ، من إنشادهِ، ميتا
فمنْ أرادَ الموتَ مستصلحاً ... فليرو، من أشعارهِ، بيتا
وللجماز فيه:
رأينا البردَ مشتداً ... فسائلتُ عن القصهْ
فقالوا: إنما أنش ... دَ شعرُ ابنِ أبي حفصهْ
وهجاه البحتري وعلي بن الجهم، بسبب أنه كان يعرض بذكر علي وولديه عليهم السلام فمما هجاه به البحتري:
ولو أعطاكَ ربكَ ما تمنى ... عليهِ، لزادَ في عظمِ الأمورِ
لأيةِ علةٍ تهجو علياً ... بما لفقتَ من كذبٍ وزورِ
أمالكَ في استكَ الوجعاءِ شغلٌ ... بكفكَ عن أذى أهلِ القبورِ
وأما علي بن الجهم، فكان يهجوه أبو السمط، وابن الجهم يصون نفسه عن هجائه، غير أنه كان يضع من يهجوه. ولما مدح ابن الجهم المتوكل بقصيدته التي أولها:
الله أكبرُ، والنبيُّ محمدٌ ... والحقُّ أبلجُ، والخليفةُ جعفرُ
قال ابو السمط:
أرادَ عليٌ أنْ يحوكَ قصيدةً ... بمدحِ أميرِ المؤمنينَ، فأذنا
فقلتُ له: أذنتَ سراً، فلا تقمْ ... فلستُ على طهرٍ، فقال: ولا أنا
فلما لح في الهجاء لعلي قال فيه:
بلاءٌ ليسَ يشبههُ بلاءٌ ... عداوةُ غيرِ ذي حسبٍ ودينِ
يبيحكَ منه عرضاً لم يصنهُ ... ويرتع منكَ في عرضٍ مصونِ
وكان لأبي السمط ولد يقال له محمود وقد ذكرناه في النسبة، أعطاه المتوكل موضع أبيه، فقال في ذلك:
قد باركَ الله في شعري وشعر أبي ... والله منَّ على أهلِ اليمامةِ بي
قد باركَ الله في شعرٍ، وليتُ بهِ ... طرقَ الحجيجِ، وولاني على العربِ
أنا المؤدبُ حقاً، إنما أدبي ... ضربُ الرقابِ، وليسَ السوطُ من أدبي
كم من فوارسِ قومٍ قد تركتهمُ ... بالمشرفيةِ فرساناً على الخشبِ
تلقى اللصوصَ على الأقتابِ مقعيةً ... ومن فلحتُ به أقعى على الذنبِ
ذكر متوج بن محمود بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان
قال يمدح الموفق، ويصف قتل العلوي، وكيف صار الجند إليه في المراكب:
ولما أقاموا البحرَ خندقَ خصمهم ... وظنوا بأنَّ البحرَ مركبهُ صعبُ
أقمتَ الشذا خيلاً، وسرتَ إليهمُ ... عليها، كأنَّ البحرَ مسلكهُ سهبُ
خيولٌ يحلُّ الماء مدةَ عمرها ... وليسَ لها أكلٌ، وليس لها شربُ
إذا أسرجوها يركبونَ بطونها ... فما إنْ لها لجمٌ، وما إنْ لها ركبُ
تسيرُ مكاناً تعجزُ الخيلُ سيره ... وما عندها خطوٌ، وما عندها وثبُ
إذا عطفوها في ليالٍ تعطفتْ ... وإنْ عطفتْ بالضربِ، لم يثنها الضربُ
فتجري، وبين الجوِّ والأرضِ جريها ... وإنْ باشرتْ أرضاً فحينئذٍ تكبو
قطعتَ عليها البحرَ، والبحرُ زاخرٌ ... وقد سفرتْ للموتِ، عن وجهها، النقبُ
بفتيانِ إقدامٍ وفتكٍ، كأنما ... لكل فتىً في كل جارحةٍ قلبُ
وهذا بيت نادر، وهو مأخوذ من قول من قال:
فمروا وكلٌّ مسمئتٌّ كأنهُ ... إلى أنْ يلاقي حتفَ ميتتهِ صبُّ
ثم قال:
فدارتْ كؤوسُ الموتِ فيهم كأنما ... كؤوسُ مناياهم لهم مشربٌ عذبُ
فما رجعوا إلا برأسِ عميدهم ... قد اقتضبتهُ منه هنديةٌ قضبُ
فإنْ كانَ قلبٌ للقناةِ فقد غدتْ ... قناتكَ فيها رأسه، أبداً، قلبُ
وإنْ كانَ للأفلاكِ قطبٌ يقيمها ... فللأرضِ أنتمْ، في خلافتكم، قطبُ
ذكر من قال الشعر من ولد ابن ابي حفصة
منهم إدريس. له يرثي إسحق بن إبراهيم الموصلي:
سقى الله يا ابنَ الموصلي بوابلٍ ... من الغيثِ قبراً أنت فيه مقيمُ
ذهبتَ فأوحشتَ الكرامَ، فما يني ... بعبرته يبكي عليك كريمُ
إلى الله أشكو فقد إسحق إنني ... وإن كنت شيخاً، بالعراق يتيمُ
وله أيضاً:
قد تولى النهارُ، واشتبكَ اللي ... لُ، خليليَّ، فاشربا واسقياني
قهوةً تتركُ الفقيرَ غنياً ... حسنَ الظنِّ، واثقاً بالزمانِ
ومنهم محمد بن إدريس " ، وكان له شعر فيه تعسف. ومنه:
لما زمخنا، دونَ فهرٍ، زمخا
زخَّ بنا الله الأعادي زخا
فلم ندع من جمع قومٍ قلخا
إلا ملخنا الرأسَ منه ملخا
رستْ أواخي مجدنا ولخا
في الأرضِ حتى لم نجدْ مصخا
بنى لنا عادية لا تلخا
عزاً قدامياً، ومجداً بلخا
لو زاحما دمخاً أزالا دمخا
إنَّ لنا وبلاً وسيلاً جلخا
وعدداً جم الحصى وبذخا
نشدخُ منهم، منْ أردنا، شدخا
ولو نفخنا الناس طاروا نفخا
ومنهم آمنة بنت الوليد بن يحيى بن أبي حفصة. كانت زوجة مروان بن سليمان، وهي أم أبي الجنوب والسمط، فبلغها أن معن بن زائدة وهب لمروان زوجها جارية، فتسراها، وقد كان حلف لها مروان أنه لا يتخذ صاحبة حتى يرجع إليها، فكتبت إليه:
أبا السمطِ إنْ كانت أحاديثكَ التي ... أتتنا يقيناً، فاثبتِ، الدهرَ، في اليمنْ
حلفتَ بأيمانٍ غلاظٍ، فخنتنا ... ولو كنتَ تخشى الله، بالغيبِ، لم تخنْ
وكان سبب هذه الجارية أنه لما قدم على معن بن زائدة اليمن، وأحسن قراه، وأكرم مثواه، واجزل صلته، طلب المقام عنده. فلما طال عليه المقام كتب إليه:
منْ مبلغٌ معناً، حليفَ المجدِ ... أني من الليل أبيتُ وحدي
أبيتُ كالسيفِ الحسامِ الفردِ ... لا خودَ، إلا ما حلمتُ، عندي
كلٌّ يواري سيفهُ في غمدِ ... أحلفُ بالله يمينَ الجهدِ
ما مسَّ جلداً، مذْ قدمتُ، جلدي ... إلا منىً، في مرقدي، لا تجدي
ويروى عن أبي السمط أنه قال: دخلت على الأمير عبد الله بن طاهر، فقال لي: إني بت البارحة قلقاً أرقاً بتذكري ذا اليمينين، فارثه لي في مقامك هذا بأبيات تجعل لي لذكره طريقاً سهلاً. فوقفت ساعة، ثم قلت:
إنَّ المكارمَ إذ تولى طاهرٌ ... قطعَ الزمانُ يمينها وشمالها
إنَّ المنايا لو يبارزُ طاهراً ... لاقتْ، بوقعِ سيوفهِ، آجالها
أرسى عمادَ خلافةٍ من هاشمٍ ... ورمى عمادَ خلافةٍ، فأزالها
بكتِ الأسنةَ طاهراً، لما رأت ... روى النجيعُ بسيفهِ أنهالها
ليت المنون تجانفت من طاهرِ ... ولوتْ بذورة من تشاجى لها
ما كنتُ، لو سلمتْ يمينا طاهر ... أرزا، ولا أسلُ الحواث ما لها
فأمر لي بخمسة آلاف درهم، وقال: ربحنا عليك وخسرت علينا. وثم اعطاه في اليوم الثاني مثلها، ثم في اليوم الثالث.
وله أيضاً:
يقولُ أناسٌ: إنَّ مرواً بعيدةً ... وما بعدتْ مروٌ، وفيها ابنُ طاهرِ
وأبعدُ من مروٍ أناسٌ نراهمُ ... بحضرتنا، معروفهمْ غيرُ حاضرِ
عن العرفِ موتى، ما تبالي أزرتهم ... على أملٍ، أمْ زرتَ أهلَ المقابرِ
والبيت الأول كما قال أبو نواس:
واستبعدتْ مصرٌ، وما بعدتْ ... أرضٌ يحلُّ بها أبو نصرِ
ولقد وصلتُ بكَ الرجاءَ، ولي ... مندوحةٌ، لو شئت، عن مصرِ
ومن الشعراء المحدثين الذين هم بيت
رزين بن سليمان بن تميم بن نهشود بن خراش بن خالد بن عبد بن دعبل بن أنس بن خزيمة بن مازن بن الحارث. منهم علي بن رزين، ودعبل بن علي، ورزين بن علي، وأبو الشيص محمد بن عبد الله بن رزين، وعبد الله بن أبي الشيص، والحسن بن دعبل.
فأما علي بن رزين فهو مقل من الشعر. ومن شعره:
قد قلتُ، لما رأيتُ الموتَ يطلبني ... يا ليتني درهمٌ في كيس مياحِ
وأما رزين بن علي فمقل أيضاً. أنشد له أخوه دعبل:
أغرى بني جعفرٍ بي أنَّ أمهمُ ... كانت تلمُّ برحلي حين تغتلمُ
قومٌ إذا فزعوا، أو نالهمْ حدثٌ ... كانتْ خصومهمُ الأعراضُ والحرمُ
ذكر دعبل بن علي بن رزين
دعبل أكثر القوم شعراً، هو وأبو الشيص بحران. واسم دعبل محمد ودعبل لقب، يقال: هو الناقة الهرمة. وقل أحمد بن يحيى: إنه مشتق من الدعابة، أو الناقة السمينة. وكان دعبل، مع جودة شعره وفخامة لفظه، رجلاً ذا همة ونبل في نفسه، ويهجو من الخلفاء فما دون، وكان شعره أكثر من شعر نظرائه. وقيل: كان عند ولده الحسين من شعره ستة مجلدات ضخمة، في كل مجلد ثلاثمائة ورقة، وشعره قليل السقط. وسئل عبد الله بن مسلم عن جيد شعره، فقال: القصيدة القديمة قوله:
أفيقي من ملامكِ يا ظعينا
وهي القصيدة التي يرد فيها على الكميت، في قصيدته التي يقول فيها:
ألا حييتِ عنا يا مدينا
وكان دعبل عالماً بصيراً بالغريب والأخبار وأيام العرب، وشعره يدل على ذلك. وكان معاصراً لأبي نواس ومسلم. وقال دعبل: اجتمعت أنا وأبو الشيص ومسلم وأبو نواس في مجلس، فقال لنا أبو نواس: إن مجلسنا هذا قد شهر باجتماعنا فيه، ولا بد للناس أن يسألوا على ما انعقد وعلى ما انحل، فليأت كل امرئ بأحسن ما قاله. فأنشد أبو الشيص:
وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليسَ لي ... متأخرٌ عنهُ، ولا متقدمُ
وأهنتني، فأهنتُ نفسي جاهداً ... ما من يهونُ عليكِ ممن أكرمُ
أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حباً لذكركِ، فليلمني اللومُ
فجعل أبو نواس يعجب من حسن الشعر. فأنشد مسلم من شعره:
موفٍ على مهجٍ في يومِ ذي رهجٍ ... كأنه أجلٌ يسعى إلى أملِ
تكسو السيوفُ نفوسَ الناكثينَ بهِ ... وتجعلُ الروسَ تيجانَ القنا الذبلِ
فقال أبو نواس: هذا الشعر الذي لم يقل قبلك مثله ولا يقول بعدك. ثم قال له: كأني بك وقد جئتنا بواسطة عقدك. وانشد دعبل:
لا تعجبي يا سلمَ من رجلٍ ... ضحكَ المشيبُ برأسهِ فبكى
أين الشبابُ؟ وأيةً سلكا؟ ... لا أينَ يطلب؟ُ ضلَّ، بل هلكا
قصرَ الغوايةَ عن هوى قمرٍ ... وجدَ السبيلَ إليهِ مشتركا
فقال: كأنك كنت في نفسي. فسألناه أن ينشد، فأنشد:
لا تبكِ ليلى، ولا تطربْ إلى هندِ ... وأشربْ على الوردِ من حمراءَ كالوردِ
كأساً إذا انحدرتْ من حلقِ شاربها ... أحذتهُ حمرتها في العينِ والخدِّ
فالخمرُ ياقوتةٌ، والكأسُ لؤلؤةٌ ... من كفِّ لؤلؤةٍ، ممشوقةِ القدِّ
تسقيكَ من عينها سحراً، ومن يدها ... سكراً، فما لكَ من سكرينِ من بدِّ
لي نشوتانِ، وللندمانِ واحدةٌ ... شيءٌ خصصتُ بهِ، من دونهم، وحدي
فقمنا، فسجدنا له، فقال: افعلتموها؟ والله لا كلمتكم ثلاثاً، وثلاثاً، وثلاثاً.
ومع ما ذكرنا من غزارة شعر دعبل، فيحسن أن نذكر له الأبيات التي تحتوي على الأمثال، أو تصلح للمذاكرة. فمن شعره إلى المأمون:
أيسومني المأمونُ خطة عاجزٍ ... أوما رأى، بالأمسِ، رأسَ محمدِ؟
نوفي على هام الخلائفِ مثلما ... توفي الجبالُ على رؤوسِ القرددِ
ونحلُّ في أكنافِ كلِّ ممنعٍ ... حتى نذللَ شاهقاً لم يصعدِ
إني من القوم الذينَ همُ همُ ... قتلوا أخاكَ، وشرفوكَ بمقعدِ
شادوا بذكركَ بعدَ طولِ خمولهِ ... واستنقذوكَ من الحضيضِ الأوهدِ
كم من كريمٍ قبلهُ، وخليفةٍ ... أضحى لنا دمهُ لذيذَ المقصدِ
مثل ابن عثمان، ومثل وليدهم ... أو مثل مروانٍ، ومثل محمدِ
وإنما فخر برأس محمد لأن طاهر بن الحسين قتله، وطاهر مولى خزاعة، وكان جده زريق مولى عبد الله بن خلف الخزاعي، وهو أبو طلحة الطلحات، وعثمان سارت إليه اليمانية من مضر، والوليد قتله يزيد بن خالد القسري، ومروان قتله عامر بن إسماعيل.
وقال قتم بن جعفر بن سليمان: بينا أنا في مجلس المأمون، إذ جرى ذكر دعبل، فقال إبراهيم بن المهدي: يا أمير المؤمنين اقطع لسانه واضرب عنقه، قال: ولم؟ قال: لأنه هجاك، قال: وإن هجاني فما أباح الله دمه بهجائي. فقال بعض من حضر: يا أمير المؤمنين، إنه قد هجا إبراهيم، قال: بماذا؟ فأنشده:
أنى يكونُ، ولا يكونُ، ولم يكنْ ... يرثُ الخلافة فاسقٌ عن فاسقِ
إنْ كان إبراهيمُ مضطلعاً بها ... فلتصلحنْ، من بعدهِ، لمخارقِ
فقال المأمون: حسبك. ثم قال: يا ثابت، هل تحفظ ما هجاني به، فقلت: لا والله، فقال: لا بد أن تجيئني بما هجاني به، وإلا رأيت مني ما تكره، وأنا مقيم على ذلك. قال: فانصرفت ولم تكن لي همة إلا تحصيل شيء من ذلك، فحصلت لي القطعة الدالية، فكتبتها في رقعة، وجئت بها، فنظرها وهي بين إصبعي، فقال لي: هذه الورقة حاجة ذاك الرجل؟ فقلت: نعم، فاخذها وقرأها وكررها، ثم لما وصل إلى قوله:
شادوا بذكركَ بعدَ طول خموله ... واستنقذوكَ من الحضيضِ الأوهدِ
قال: يا قوم، رأيتم أظلم من دعبل؟ ومتى رآني هذا الحضيض، وأنا رضيع الخلافة، وما زلت منذ نشأت خليفة، إلا أن القدر صدفها تلك المدة، وكنت مالك البلاد. ثم القى القرطاس، وقال: شأنك، فقد علمنا ما فيه.
وحدث محمد بن موسى الحمال، قال: رأيت دعبلاً عند خشبة بابك، وهو واقف، فقلت: ما تصنع يا ابا علي، فأنشد:
الحمدُ للهِ لا صبرٌ ولا جلدُ ... ولا رقادٌ، إذا أهلُ الهوى، رقدوا
خليفةٌ ماتَ لم يحزنْ له أحدٌ ... وآخرٌ قامَ لم يفرحْ بهِ أحدُ
قد مرَّ هذا، فمرَّ الشؤمُ يتبعهُ ... وقامَ هذا، فقامَ الشؤمُ والنكدُ
عني بما قاله: أن المعتصم مات، وقام الواثق. فقلت: يا هذا أمسك عليك لسانك، فكأني اراك سوف تجني على نفسك جناية، فقال: دعني، فأني أتصدق من ربي خشبة أصلب عليها من عشرين سنة، فما جاد لي بها. ولما قتل الواثق أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي وصلبه، قال دعبل:
بني مالكٍ صونوا الجفونَ عن الكرى ... ولا ترقدوا بعدَ ابنِ نصرِ بن مالكِ
فقد حملتهُ للقبورِ مطيةٌ ... أنافتْ بهاديهِ على شخصِ بابكِ
وسلوا من الأجفانِ كلَّ مهندٍ ... بصيرٍ بضربٍ للطلى متداركِ
يقومُ به للهاشمياتِ مأتمٌ ... له ضجةٌ يبكي بها كلُّ ضاحكِ
تذكرهم قتلى ببدرٍ تنوشهمْ ... سباعٌ وطيرٌ من سباعٍ بواركِ
كما فتكتْ أسيافهمٍ بمحمدً ... وهدتٍ مباني عرشهِ المتماسكِ
فطلَّ دمُ المخلوعِ، وانتهكتْ له ... ذخائرُ من منقوشةٍ، وسبائكِ
فأنْ غصَّ هارونٌ بجرعةِ عمهِ ... فأيسرُ مفقودٍ، وأهونُ هالكِ
وله أيضاً:
نعوني، ولما ينعني غيرُ حاسدٍ ... وغيرُ عدوٍّ قد أصيبتْ مقاتلهْ
يقولون: إن لاقى الردى ماتَ شعرهُ ... وهيهاتَ عمرُ الشعرِ طالت طوائلهْ
وهبْ شعرهُ، إن ماتَ، ماتَ فأينَ ما ... تحملهُ الراوون والخطُّ حابلهْ؟
سأقضي ببيتٍ يحمدُ الناسُ صدقهُ ... ويكثرُ من أهل الروايةِ ناقلهْ
يموتُ رديءُ الشعرِ من قبل موتهِ ... وجيدهُ يبقى، وإنْ ماتَ قائلهْ
ومن معاني دعبل، وإن كانت موجودة، قوله:
وإذا حلمتَ فأعطِ حلمكَ كنههُ ... مستأنياً، وإذا كويتَ فأنضجِ
وإذا التمستَ دخولَ أمرٍ فالتمسْ ... من قبل مدخلهِ سبيلَ المخرجِ
ومنه قوله:
فلا تحسدِ الكلبَ أكلَ العظامِ ... فعندَ الخراءةِ ما ترحمهُ
تراهُ وشيكاً تشكى آستهُ ... كلوماً جناها عليهِ فمهُ
إذا ما أهانَ امرؤٌ نفسهُ ... فلا أكرمَ اللهُ من يكرمهُ
وأول هذا المعنى لحاتم في قوله:
ونفسك أكرمها، فإنكَ إنْ تهنْ ... عليكَ، فلنْ تلقى لها، الدهرَ، مكرما
وقال زهير:
ومنْ لا يكرمْ نفسهُ لا يكرمِ
ومثل ذلك:
وكان غنيَّ النفسِ أيام فقرهِ ... فصارَ فقيراً في الغنى، خيفةَ الفقرِ
بخلتَ بما آتاكَ ربكَ خيفةً ... من العسرِ، ويكَ الآن صرتَ إلى العسرِ
ولابن عباد المهلبي:
تجودُ بالمالِ على وارثٍ ... ولا ترى أهلاً لهُ نفسكا
قدمَ حسنَ الظنّ بالله من ... جادَ، وأخطا الظنَّ منْ أمسكا
وله أيضاً:
فأقسمتُ: لا عنْ جفوةٍ، لا ولا قلىً ... ولا مللٍ أبطأتُ عنكَ أبا بكرِ
ولكنني لما رأيتكَ زائراً ... فأفرطتَ في بري، عجزتُ عن الشكرِ
فملآنَ لا آتيكَ إلا مسلماً ... أسلم في الشهرين يوماً، وفي الشهرِ
فانْ زدتني براً تزيدتُ جفوةً ... فلا نلتقي، طولَ الحياةِ، إلى الحشرِ
المعنى مأخوذ من أبي نؤاس:
قد قلتُ للعباسِ معتذراً ... من ضعفِ شكريهِ، ومعترفا
أنتَ امرؤٌ جللتني نعماً ... أوهتْ قوى شكري، فقد ضعفا
لا تسدينَّ إليَّ عارفةً ... حتى أقومَ بشكرِ ما سلفا
وقال البحتري:
أخجلتني بندى يديكَ، فسودتْ ... ما بيننا تلكَ اليدُ البيضاءُ
صلةٌ غدتْ في الناسِ وهي قطيعةٌ ... عجباً، وبرٌ راحَ وهو جفاءُ
وقيل في صفة جولان القوافي:
ألستُ إذا ما قلتُ بيتاً تناوحتْ ... بهِ الريحُ في شرقيها والمغاربِ
يقصرُ للسارينَ من ليلةِ السرى ... ويغدى عليه بالقيانِ الضواربِ
ولدعبل في المعنى:
من كلِّ عابرةٍ إذا وجهتها ... طلعتْ بها الركبانُ كلَّ نجادِ
طوراً يمثلها الملوكُ، وتارةً ... بين الثديِّ تراضُ والأكبادِ
ولمروان بن أبي حفصة:
إني أقولُ قصائداً جوالةً ... أبداً تجولُ خوالعاً أرسانها
من كل قافيةٍ إذا أجريتها ... جمحتْ، فلم تملكْ يدايَ عنانها
ولبشار:
ومثلكَ قد سيرتهُ بقصيدةٍ ... فسارَ، ولم يبرحْ عراصَ المنازلِ
رميتُ بها شرقاً وغرباً فأصبحتْ ... به الأرضُ ملآى من مقيمٍ وراحلِ
وما أحسن قول ابن حازم:
أبى لي أن أطيلَ الشعرَ قصدي ... إلى المعنى، وعلمي بالصوابِ
فأبعثهنَّ أربعةً وستاً ... مثقفةً بألفاظٍ عذابِ
وهنَّ إذا وسمتُ بهنَّ قوماً ... كأطواقِ الحمائمِ في الرقابِ
وهنَّ إذا أقمنَ مسافرات ... تهاداها الرواة مع الركابِ
وقول البحتري:
وأنا الذي أوضحتُ غيرَ مدافعٍ ... نهجَ القوافي، وهي رسمٌ دارسُ
وشهرتُ في شرقِ البلادِ وغربها ... فكأنني في كلِّ نادٍ جالسُ
ولبعضهم:
فلا تبعدني من نداكَ فإنَّ لي ... لساناً ملا الدنيا، وأنتَ ابنُ خالدِ
وكان دعبل صاحباً للفضل بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث بن عقبة، مكلم الذئب الخزاعي، وغزا كابل وافتتحها، ودعبل يدل عليه لأنه أدبه، فعاتبه في جملة قصيدة، قال:
ألا أيها القطاعُ هل أنتَ عارفٌ ... لنا حرمةً، أمْ قد نكرتَ التحرما
فهلا بطوسٍ، والبلادُ حميدةٌ ... تعولُ الليالي والمطيَّ المرسما
وأسلمتني من بعد ما صوحَ الكلا ... وغاضتْ بقايا الحسي، والمزنُ أنجما
ستعلمُ إن راجعتَ نفسكَ أوسختْ ... عن الضفِّ يوماً: أينا كان ألوما
قال دعبل الخزاعي: حججت أنا وأخي رزين، وأخذنا كتباً إلى المطلب، صاحب مصر، فصرنا من مكة إلى مصر، فصحبنا رجل يعرف بأحمد بن السراج، ما زال يحدثنا ويؤنسنا ويتولى خدمتنا، وكان شاعراً، وكتمنا نفسه.
فعرضنا عليه أن يقول في المطلب قصيدة ننحله إياها، فقال: إن شئتم. فعملنا له قصيدة، فلما دخلنا إلى المطلب وأوصلنا إليه الكتب التي كانت معنا، وأنشدنا ووصفنا له أحمد بن السراج، فأذن له، ونحن نظن أن سينشده القصيدة التي نحلناه إياها. فلما مثل بين يديه عدل عنها وأنشده:
لم آتِ مطلباً إلا لمطلبِ ... وهمةٍ بلغتْ بي غايةَ الرتبِ
أفردتهُ برجائي أن تشاركهُ ... في الوسائلُ، أو ألقاهُ بالكتبِ
رحلتُ عنسي إلى البيت الحرام على ... ما كان من نصبٍ فيها، ومن وصبِ
ألقى بها وبوجهي كلَّ هاجرةٍ ... تكادُ تقدحُ بينَ الجلدِ والعصبِ
حتى إذا ما قضتْ حاجاً ثنيتُ لها ... عطفَ الزمامِ فأمتْ سيدَ العربِ
فيممتكَ وقد ذابتْ مفاصلها ... من طولِ ما تعبٍ لاقت ومن نصبِ
إني استجرتُ بأستارينِ مستلماً ... ركنين: مطلباً والبيتَ ذا الحجبِ
فذاك للأجلِ المرجو آملهُ ... وأنتَ للعاجلِ المرجو والطلبِ
هذا ثنائي، وهذي مصرُ سانحةً ... وأنتَ أنتَ، وقد ناديتُ من كثبِ
قال: فصاح المطلب: لبيك، لبيك ثم قام وأخذ بيده وأجلسه معه، واستدعى بالبدر فأحضرت، ثم الخلع فنشرت، فأمن له بذلك ما ملأ عينه، وحسدناه على ذلك.
ولدعبل:
فأنتَ إذا ما التقوا آخرٌ ... وأنتَ إذا انهزموا أولُ
وعاديتَ قوماً فما ضرهمْ ... وقدمتَ قوماً فلم ينبلوا
إذا الحربُ كنتَ أميراً لها ... فحظهمُ منكَ أنْ يقتلوا
شعاركَ في الحربِ يومَ الوغى ... إذا انهزموا: عجلوا، عجلوا
ذكر أبي الشيص
أبو الشيص كان شاعراً مجيداً في كثرة البكاء على سالف أيامه، ومدح الرشيد وولد محمد بن الأشعث الخزاعي. وهو ودعبل من الكوفة. وفي أول ما اشتهر بالشعر قال قصيدته التي مدح بها عقبة بن جعفر بن محمد:
ألقى الزمانُ به ندوبَ عضاضِ
وعرض هذه القصيدة على بشار، فقال له بشار: قد بقيت قافية إن علمتها فأنت شاعر، قال: وما هي؟ قال: المقراض، فأنشده:
وجناحِ مقصوص تحيفَ ريشهُ ... ريبُ الزمانِ، تحيفَ المقراضِ
فقال له: أنت أشعر أهل عصرك. وهذه القصيدة تفضل على كل قصيدة نظمت في وزنها، وفيها معان نادرة منها:
لا تنكري صدي ولا إعراضي ... ليسَ المقلُّ على الزمانِ براضِ
وعصائبٍ صرفت إليكَ وجوهها ... نكباتُ دهرٍ للفتى، عضاضِ
شدوا بأعوادِ الرحالِ مطيهمْ ... من كلِّ أهوجَ للحصى رضاضِ
أكل الوجيفُ لحومها ولحومهم ... فأتتكَ أنقاضاً على أنقاضِ
ومثله قول ابن الأحنف:
أنضاءَ شوقٍ على أنضاءِ أسفارِ
ومثله:
رأتْ نضوَ أسفارٍ أميمةُ شاحباً ... على نضوِ أسفارٍ، فجنَّ جنونها
ومن القصيدة الضادية:
إنَّ الأمان من الزمانِ وريبهِ ... يا عقبَ شطا بحركَ الفياضِ
ومن معانيه المستحسنة:
أتى الموتُ عدلَ الموتِ في سطواتهِ ... فيا منْ رأى موتاً على الموتِ أقدما
أخذه ابن جبلة فقال يرثي حميداً:
حمامٌ رماهُ من خصاصة أمنهِ ... حمامٌ، كذاك الخطبُ بالخطبِ يقرعُ
وأخذه البحتري فقال:
حتوفٌ أصابتها الحتوفُ، وأسهمٌ ... من الموتِ، كرَّ الموتُ فيها بأسهمِ
ومنه قوله يرثي الرشيد، ويمدح الأمين حين قام:
جرتْ جوارٍ بالنحسِ والسعدِ ... فالناسُ في وحشةٍ وفي أنسِ
والعين تبكي والسنُّ ضاحكةٌ ... فنحن في مأتمٍ، وفي عرسِ
يضحكنا القائمُ الأمين، وتبكي ... نا وفاةُ المهديِّ بالأمسِ
بدرانِ: بدرٌ أضحى ببغداد في ... الخلدِ، وبدرٌ بطوسَ في الرمسِ
ومن مختار شعره:
أشاقكَ والليلُ ملقي الجرانِ
وهي إحدى النونيات، ويصف فيها ساقياً ويقول:
يطوفُ علينا بها أغيدٌ ... يداه من الكأسِ مخضوبتانِ
غزالٌ تميلُ بأردانهِ ... قناةٌ تعطف كالخيزرانِ
ومنها في المدح:
إلى ملكٍ من بي هاشمٍ ... كريمِ الضرائب، سبطِ اليدانِ
فتى البأس للجودِ في كفه ... من البحرِ عينان نضاحتانِ
ومن مختار شعره:
للهِ أنتَ، أبا بشرٍ، إذا برزتْ ... سوقُ النساءِ، ولاح القلبُ والقرطُ
وأبرزَ الخدر من ثنييهِ بيضتهُ ... واعجلَ الروعَ نصلُ السيف يخترطُ
فثمَّ تفديكَ منا كلُّ غانيةٍ ... والكهلُ تفديك، والمولودُ، والشمطُ
وأنتَ أصلبهم عوداً، إذا عجموا ... وأنتَ أرحبهمْ باعاً إذا اختبطوا
ومن شعره:
كريمٌ يغضُّ الطرف فضلُ حياتهِ ... ويدنو، وأطراف الرماحِ دوانِ
وكالسيفِ إن لاينته لاَنَ حدهُ ... وحداهُ، إن خاشنتهُ خشنانِ
ومما يستطرف من شعره:
جاريةٌ تسحرُ عيناها ... أسفلها يجذبُ أعلاها
أصبحتُ أهواها، وأهوى الردى ... لكلِّ منْ أصبحَ يهواها
نفسي على أمرينِ مطبوعةٌ ... من حبها، أو بغضِ ملاها
قد ملكتني، وهي مملوكةٌ ... فصرتُ أخشاهُ وأخشاها
وأول هذا المعنى لأبي دلامة:
إني أراني سوفَ أصبحُ ميتاً ... أولا، فأصبحُ ثمَّ لا أمسي
من حبِّ جاريةِ الجنيد، وبغضهِ ... كلاهما قاضٍ على نفسي
فكلاهما يشفى به سقمي ... فإذا تكلمَ عادَ لي نكسي
أخذه الآخر فقال:
لي مولىً يسيءُ ملك العبيدِ ... مخلفُ الوعدِ، منجزٌ للوعيدِ
ليَ من حبهِ، ومن بغضِ مولا ... هُ بلاءٌ، ما فوقهُ من مزيدِ
ومن شعر أبي الشيص:
ما فرقَ الأحبابَ بع ... دَ الله إلا الإبلُ
والناسُ يلحونَ غرا ... بَ البينِ لما جهلوا
وما على ظهر غرا ... بِ البين تمطى الرحلُ
ولا إذا صاحَ غرا ... بٌ في الديار احتملوا
وما غرابُ البين إل ... ا ناقةٌ، أو جملُ
وهذا المعنى من قول عوف الراهب:
غلطَ الذين رأيتهمْ بجهالةٍ ... يلحونَ كلهمُ غراباً ينعقُ
ما الذنبُ إلا للجمالِ، فإنها ... مما تشتُّ جميعهمْ، وتفرقُ
إنَّ الغرابَ بيمنهِ تدنو النوى ... وتشتُّ بالشملِ الجميعِ الأينقُ
ذكر عبد الله بن ابي الشيص
كان عبد الله هذا يقيم بسر من رأى، وله أشعار حسنة، وكان لا يفارق أبا تمام، وكان الحسن بن وهب قابلاً له، محسناً إليه. ومما يرثي به أبا تمام:
ماتَ بديعُ الشعرِ، والظرفُ ... والأدبُ الموصوفُ والوصفُ
يا جدثاً حلَّ ابنُ أوسٍ به ... واغتالهُ من زمنٍ صرفُ
إنْ لم يكنْ جادكَ مزنٌ فقد ... جادتك منا أعينٌ ذرفُ
وله أيضاً:
أظنُّ الدهرَ قد آلى فبرا ... بألا يكسبَ الأموالَ حرا
كأنَّ صفائحَ الأحرارِ أردت ... أباهُ، فحاربَ الأحرارَ طرا
وأصبحَ كلُّ ذي شرفٍ ركوباً ... لأعناقِ الدجى براً وبحرا
يهتكُ جيبَ درع الليل عنه ... إذا ما جيبُ درع الليلِ زرا
يراقبُ للغنى وجهاً ضحوكاً ... ووجهاً للمنيةِ مكفهرا
ليكسبَ من أقاصي الأفق ِكسباً ... يحلُّ به المحلَّ المشمخرا
ومنْ جعلَ الظلامَ له قعوداً ... أصابَ يدَ الدجى خيراً وشرا
وكان عبد الله هذا كثير الذم لسر من رأى، ومنه قوله:
لعنَ الله سرَّ منْ را بلاداً ... ورماها بالقحطِ والطاعونِ
بعتُ في الصيفِ عندهم قبة الخي ... شِ، وبعتُ الكانونَ في كانونِ
ومنه قوله:
لعمركَ ما سررتُ بسرّ من را ... ولكني عدمتُ بها السرورا
رأيتُ بها القصورَ مشيداتٍ ... على قومٍ يشينونَ القصورا
إذا قيل: البسوا، لبسوا المخازي ... وإنْ قيل: اركبوا، ركبوا الأيورا
وكتب الحسن بن وهب إلى مالك بن طوق لأجله كتابا، وهو: كتابي إليك كتاب خططته بيدي، وفرغت له دهني، فما ظنك بحاجة هذا موقعها مني؟ أتراني أقصر في الشكر عليها، أم أقبل العذر فيها. وابن أبي الشيص ممن عرفت حاله وخالص مودته، وصفاء سريرته. ولو كانت الدنيا تنبسط بيده ما عدانا إلى غيره. فاكتف بهذا مني فيه وله، والسلام.
وكتب إلى بعض إخوانه:
رداؤكَ في الحربِ العوانِ هو الردى ... ورأيكَ في داجي الخطوبِ هو الفجرُ
ولو أنَّ للأوعارِ والسهلِ ألسناً ... لأثنى عليكَ السهلُ بالجودِ، والوعرُ
أسلكَ بحقِّ الراحِ والرشأ الذي ... له في حواشي طرفهِ، أبداً، سحرُ
ترى منكَ ماءَ الوجهِ في ماءَ وجههِ ... وللعينِ في ديباجِ بهجتهِ زهرُ
فانَّ له حقاً على كلِّ ذي هوىً ... وللكأسِ أجرٌ حقهُ، أبداً، وزرُ
بحقيهما ألا قبلتَ مموهاً ... من العذرِ يهديهِ امرؤٌ ماله عذرُ
فإنْ يكُ غداراً فمن آلِ دعبلٍ ... فإنهمُ قومٌ، وفاؤهمُ غدرُ
إذا عاهدوا فالنكثُ بحتُ عهودهم ... وإنْ وصلواخلاً، فوصلهمُ هجرُ
سأكفيكَ يا ابن المجدِ ذمي، ولم تكنْ ... لتبلغَ من ذمي الذي بلغَ الشعرُ
ومن الشعراء المعرقين
أبو سويد عبد القوي بن محمد بن أبي عتاهية، واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد، وبلده الكوفة.
ذكر أبي عتاهية
كان من أكثر المحدثين شعراً، واسهلهم في المعاني والألفاظ، وأبعدهم عن التكلف. وقال ابن الأعرابي: إن أبا عتاهية وبشاراً أجود المحدثين شعراً، وأبعدهم من التكلف. وقيل لربة بن العجاج: من أشعر المحدثين؟ قال: الذي إذا جد جد، وإذا هزل هزل، كأنما يتناول الكلام من كمه. يعني ابا عتاهية. وقال مسعود بن بشر الأزدي.: قلت بمكة لابن مناذر: من أشعر الناس؟ قال: من إذا شبب لعب، وإذا جد جد. قلت: مثل من؟ قال: مثل جرير حيث يقول:
إنَّ الذين غدوا بقلبكَ غادروا ... وشلاً بعينكَ لا يزالُ معينا
غيضنَ من عبراتهنَّ، وقلنَ لي ... ماذا لقيتَ من الهوى، ولقينا
ثم قال حين جد:
إن الذي حرمَ الخلافةَ تغلباً ... جعلَ الخلافةَ والنبوةَ فينا
هذا ابنُ عمي في دمشقَ خليفةٌ ... لو شئتُ ساقكمُ إلي قطينا
فيروى عن الوليد أنه قال: لو قال جرير: لو شاء لفعلت، ولكن جعلني شرطياً له. ثم قال ابن الأعرابي: ومن هؤلاء المحدثين هذا الخبيث، الذي يتناول الشعر من كثب، يعني ابا عتاهية، حيث يقول:
الله بيني وبين مولاتي ... أبدتْ ليَ الصدَّ والملالاتِِ
ثم يخرج من الغزل فيجد ويقول:
ومهمهٍ، قد قطعتُ، طامسةٍ ... قفرٍ على الهولِ والمخافاتِ
بحرةٍ، جسرةٍ، عذافرةٍ ... خوصاءَ عيرانةٍ علنداةِ
تقولُ للريح كلما بسمتْ ... هل لك يا ريحُ في مباراتي
وبهذا الشعر قال ابن العجاج ما قال، لأنه كان أنشده إياه، فقال: ما كنت أظن أنه يكون بحضرتي مثل طبعك.
وسمعه أبو نواس ينشد بحضرة قوم، فقال: أفجر هذا، أم أنتم لا تبصرون. وبطريق هذه التائية تاب عن الشعر، وذلك أنه رأى في منامه كأن شخصاً يقول له: ما كان في الدنيا احد يكون بينك وبين مولاتك وحبيبتك إلا الله تعالى، حتى تقول: بيني وبين مولاتي. فصار يميل في أشعاره إلى الزهديات.
وكان أبو عمرو الشيباني يفضله. وقد ذكر محمد بن يزيد في كتاب الروضة من أخبار أبي عتاهية جملاً، فلم آت في هذا بشيء مما ذكره، ذلك إلا القليل، قصداً للفائدة. حدث أبو عمرو الشيباني قال: جاء أبو عتاهية، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس إلى أبي، فاستنشد أبا عتاهية، فأنشده قوله:
وعظتكَ أجداثٌ صمتْ ... ونعتكَ ساكتةٌ خفتْ
وتكلمتْ عن أعظمٍ ... تبلى، وعن صورٍ سبتْ
وأرتك قبرك في القبور ... رِ، وأنتَ حيٌ لم تمتْ
والدهرُ كم من غيرةٍ ... لكَ في نوائبهِ الثبتْ
غيرٌ مقلعةٌ لأو ... تادٍ وأطنابٍ ثبتْ
لا تغفلنَّ، فأنهُ ... من تمضِ ساعتهُ تفتْ
ولربما انتقلَ الشما ... تُ، فحلَّ بالقومِ الشمتْ
وهذه أبيات ما وجد لمحدث مثلها.
وله ايضاً:
لكم من رجاءٍ، ومن شدةٍ ... إلى غايةٍ، وإلى مدةِ
وكم عقدَ الدهرُ من عقدةٍ ... فرقتْ، وكم حلَّ من عقدةِ
على سرعةِ الشمسِ في سيرها ... دبيبُ الخلوقة في الجدةِ
وأنشدهم أيضاً:
يا عجبي للبلى وجدتهِ ... يدبُ في الخلقِ ساكناً حركا
ثم انصرفوا، ولم يستنشد مسلماً، ولا أبا نواس شيئاً، فعادوا إليه بعد أيام، فاستنشد مسلماً، فأنشده قصيدته التي منها:
أجررتُ حبلَ خليعٍ في الصبا، غزلِ
حتى إذا بلغ إلى قوله:
ينالُ بالرفقِ ما تعيا الرجال له ... كالموتِ مستعجلاً يأتي على مهلِ
قال له أبو عمرو: أحسنت يا أبا الوليد، إلا أنك أخذت قول أبي إسحاق، حيث يقول:
وحكتْ لكَ الساعاتُ سا ... عاتٍ أتياتٍ بغتُ
ثم استنشد أبا نواس، فأنشده:
يا شقيقَ النفسِ من حكمِ
حتى بلغ إلى قوله:
فتمشتْ في مفاصلهم ... كتمشي البرءِ في السقمِ
قال له أبو عمرو: احسنت يا ابا علي، غلا أنك أخذت معنى قول أبي إسحاق:
على سرعةِ الشمسِ في مرها ... دبيبُ الخلوقةِ في الجدةِ
ولأبي عتاهية:
كلٌّ على الدنيا له حرصُ ... والحادثاتُ أناتها غفصُ
وكأنَّ منْ واروهُ في جدثٍ ... لم يبدُ منه لناظرٍ شخصُ
ليدِ المنيةِ في تلمسها ... عن ذخرِ كلِّ شقيقةٍ فحصُ
نبغي من الدنيا زيادتها ... وزيادةُ الدنيا هي النقصُ
وأخذ هذا المعنى مؤلف هذا الكتاب فقال:
زيادةُ عمر المرءِ نقصُ حياتهِ ... فكيفَ غدتْ تلك الزيادةُ نقصانا
وللمتنبي:
لا يكثرُ الأمواتُ كثرةَ قلةٍ ... إلا إذا شقيتْ بكَ الأحياءُ
وأما قول أبي عتاهية:
لم يبدُ منه لناظرٍ شخصُ
فمأخوذ من قول الأول:
وكأنَّ أقواماً مضوا لم يخلقوا
وأما قوله:
ليد المنيةِ في تلمسها ... عن ذخرِ كلِّ شقيقةٍ فحصُ
وقوله:
نبغي من الدنيا زيادتها ... وزيادةُ الدنيا هي النقصُ
فقد تردد هذا في كثير من شعره. فمن ذلك:
إذا ازددتُ من عمري قربتُ من البلى ... وألفيتُ نقصي بيناً في زيادتي
وقوله:
وكلُّ زيادةٍ فليومِ نقصٍ ... وكلُّ جماعةٍ فليومِ بينِ
وقوله:
وأسرعَ في نقضه امرئٍ تمامهُ ... يا لكَ أمراً نقصهُ إبرامهُ
وقوله:
وأسرع ما يكونُ المرءُ نقصاً ... وأقربُ ما يكونُ من الزيادةُ
ومعانيه قريبة بعضها من بعض. وللنمر بن تولب مما يلم بهذا المعنى قوله:
يحبُّ الفتى طولَ السلامةِ جاهداً ... فكيف ترى طول السلامةِ يفعلُ
ويروى عن النبي، صلى الله عليه وسلم: " كفى بالسلامة داء " .
وقال حميد بن ثور:
أرى بصري قد رابني بعدَ صحةٍ ... وحسبكَ داءً أن تصحَّ وتسلما
وهذا من كلام الحكماء. قال بعض الحكماء، وقد سئل كيف أنت، فقال: كيف حال من يفنى ببقائه، ويسقم بصحته، ويؤتى من مأمنه. وقال بعض الشعراء:
وما ازدادَ شيءٌ قطُّ إلاّ لنقصهِ ... وما اجتمعَ الالفانِ إلا تفرقا
وقال آخر:
كانتْ قناتي لا تلينُ لغامزٍ ... فألانها الاصباحُ والإمساءُ
ودعوتُ ربي بالسلامةِ جاهداً ... ليصحني، فإذا السلامةُ داءُ
وقال آخر:
يحبُّ الفتى طولَ البقاءِ، وإنهُ ... على ثقةٍ أنَّ البقاءَ فناءُ
زيادتهُ في الجسمِ نقصُ حياتهِ ... ليس عى طولِ البقاءِ بقاءُ
ولأبي عتاهية في الشيب ما قد أكثر فيه، فمن ذلك:
إنما الشيبُ لابنِ آدمَ ناعٍ ... قامَ في عارضيهِ، ثمَّ نهاهُ
وهذا المعنى قس اتسع فيه الشعر، وقالته الخطباء والوعاظ. وقد قال عدي بن زيد:
وابيضاضُ المشيبِ من نذر المو ... تِ، وهل بعدهُ لحيٍّ نذيرُ
وقال مزرد:
فلا مرحباً بالشيبِ من وفدِ زائرٍ ... متى زارَ لا تحجب عليهِ لمداخلُ
وقال بعض أهل العصر:
إن الشبابَ نذيرُ الموتِ، ثمَّ إذا ... جاءَ المشيبُ، فذاكَ القبرُ والكفنُ
وقال المتنبي:
وإذا الشيخُ قالَ: أفٍ، فما ملَّ ... حياةً، وإنما الضعف ملا
وقال أيضاً:
وقد أراني الشبابُ الروحَ في بدني ... وقد أراني المشيبُ النقصَ في بدني
وقال آخر:
والشيبُ ضيفٌ إذا ما حلَّ ربعَ فتىً ... أعيى ترحلهُ، أوْ يرحلانِ معا
وعن أبي شقيقة الوراق قال: أتاني أبو عتاهية يوماً فجلس في دكاني، وجلس الناس حوله وكتبه عنه، ثم تناول دفتراً من كتبي فكتب عليه:
أيا عجباً كيفَ يعصى الإلهُ ... أم كيفَ يجحدهُ الجاحدُ
وللهِ في كلِّ تحريكةٍ ... وتسكينةٍ، أبداً، شاهدُ
وفي كلّ ما أبصرتهُ العيونُ ... دليلٌ على أنهُ الواحدُ
ثم قام، وجاء أبو نواس فنظر إلى الكتاب، وقرأ ما تب أبو عتاهية، فسألني عن قائل الأبيات، فأخبرته، فقال: أحسن والله لوددت أنها ي بجميع شعري. ثم تناول القلم وكتب:
سبحانَ منْ خلقَ الخل ... قَ من ضعيفٍ مهينِ
يسوقهُ من قرارٍ ... إلى قرار مكينِ
يجوزُ شيئاً فشيئاً ... في الحجبِ دون العيونِ
حتى بدتْ حركاتٌ ... مخلوقةٌ من سكونِ
فجاء أبو عتاهية فنظر إليها: فقال: لمن هذه؟ لوددت أنها لي بجميع شعري فانظر إلى اتفاق قوليهما.
ومن معنيه:
نراعُ إذا الجنائزُ قابلتنا ... ونلهو إنْ تولتْ مدبراتِ
كروعةِ ثلةٍ لمغارِ سبعٍ ... فلما غابَ عادتْ راتعاتِ
وقول الآخر:
نزاعُ لذكرِ الموتِ ساعةَ ذكرهِ ... ونعترضُ الدنيا فنلهو ونلعبُ
ومثله لابن دريد:
نهالُ للشيءِ الذي يروعنا ... ونرتعي في غفلةٍ إذا انقضى
ومثل ذلك:
إذا مرضنا نوينا كلَّ صالحةٍ
ومن معانيه المسترقة:
ألا يا موتُ لم أرَ منكَ بداً ... أبيتَ فما تحيفُ، ولا تحابي
كأنكَ قد هجمتَ على مشيبي ... كما هجمَ المشيبُ على شبابي
وله أيضاً:
نحمدُ الله كلنا سنموت ... لخرابِ البيوتِ تبنى البيوتُ
وهذا معنى أخذه من قول أبي ذر رحمه الله، فإنه قال: تلدون للموت، وتعمرون للخراب، وتذرون ما يبقى، وتحرصون على ما يفنى.
وقال الآخر:
وللموتِ تغذو الوالداتُ سخالها ... كما لخرابِ الدورِ تبنى المنازلُ
وله أيضاً:
منْ أحبَّ الدنيا تحيرَ فيها ... واكتسى عقلهُ التباساً وتيها
قنعِ النفسَ بالكفافِ، وإلاّ ... طلبتْ منكَ فوقَ ما يكفيها
ليسَ فيما مضى، ولا في الذي لم ... يأتِ من لذةٍ لمستحليها
إنما أنتَ طول عمركَ ما عمر ... تَ في الساعةِ التي أنتَ فيها
أخذه غيره:
ما مضى فاتَ، والمؤملُ غيبٌ ... ولكَ الساعةُ التي أنتَ فيها
وهذا المعنى يروى عن محمد بن الحسن بن عبيد اله الكوفي، قال: كتب إلي داود الفارسي: يا ابن أخي الدنيا دار زلل وزوال، وتغير حال عن حال. ثم كتب في آخر كتابه:
أفرطتَ في العيشِ وتأميلهِ ... وللمنايا شيمٌ نكدُ
وإنما عيشُ الفتى ساعةٌ ... لا قبلها منهُ، ولا بعدُ
ما أوسعَ الدنيا على أهلها ... لو لم يكنْ آخرها لحدُ
وأتى بهذا المعنى ذو اليمينين طاهر بن الحسين فقال:
دنياكَ دنيا هوىً ومتعبةٍ ... يشقى بها مستهامها الأشرُ
تبدي لأبنائها مساوئها ... عوداً وبدءاً، وليس معتبرُ
ما فاتَ منها كأنهُ حلمٌ ... ليسَ له لذةٌ، ولا خطرُ
وليسَ للمرءِ غيرُ ساعتهِ ... إن طالَ، أو لم يطلْ به العمرُ
وقال محمود في معنى بديع:
مازالَ يظلمني وأرحمهُ ... حتى بكيتُ له من الظلمِ
أخذ هذا المعنى من أبي ذر، إذ أتاه رجل فقال: رأيت فلاناً شتمك حتى رحمتك، فقال: هل سمعتني شتمته؟ فقال: لآ، قال: فياه فارحم. وقال محمد ابن الحجاج: حضرت مجلساً فيه بشار وأبو عتاهية، فقال بشار لأبي عتاهية: أنشدني، فأنشده:
كمْ من صديقٍ لي أسا ... رقهُ البكاءَ من الحيا
فإذا تفطنَ لامني ... فأقولُ ما بي من بكاءِ
لكنْ ذهبتُ لأرتدي ... فطرفتُ عيني بالرداءِ
قال بشار: يا عتبة ما أشعرك! إلا أنك سرقتني، قال: وما قلت يا ابا معاذ؟ قال:
وقالوا: قد بكيتَ، فقلتُ: كلا ... وهل يبكي من الجزعِ الجليدُ
ولكني أهابُ سوادَ عيني ... عويدُ قذىً له طرفٌ حديدُ
فقالوا: ما لدمعهما سواءٌ ... أكلتا مقلتيكَ أصابَ عودُ؟
فقال له أبو عتاهية: وأنت يا بشار أخذت هذا المعنى من قول الآخر:
يقولُ خليلي يومَ أكثبةِ النقا ... وعيناي من فرطِ البكا تكفانِ
أمنْ أجل دارٍ بين لوذانَ فالنقا ... غداةَ اللوى عيناكَ تبتدرانِ
فقلتُ: ألا لا، بل قذيتُ، وإنما ... قذى العينَ مما هيجَ الطللانِ
ومن معاني أبي عتاهية المخترعة:
وإذا شكوتُ إلى المحبِّ رأيتهُ ... يجدُ الذي أشكو إليه لديهِ
وإذا شكا أيضاً إليَّ ظننتهُ ... قد مسَّ قلبي، مرةً، بيديهِ
منْ لم يكنْ فيما شكوتُ به الذي ... في الحبِّ مثلي، هانَ ذاكَ عليهِ
إنَّ المحبَّ إذا تطاولَ سقمهُ ... يلقى المحبَّ، فيستريح إليهِ
أخذه بعض المحدثين فقال:
لو علقتَ الهوى عذرتَ، ولكن ... إما يعذرُ المحبَّ المحبُّ
ومثله:
لا تلمْ صبوتي فمن حبِّ يصبو ... إنما يرحمُ المحبَّ المحبُّ
ويقال: إن أبا عتاهية غلب على قلب الرشيد، فغضب عليه موسى الهادي بذلك السبب، وتوعده، فقال يخاطب المهدي:
ألا شافعٌ عندَ الخليفةِ يشفعُ ... فيدفع عني كربَ ما أتوقعُ
فإني، على علمِ الرجاءِ، لخائفٌ ... كأنَّ على رأسي الأسنةَ شرعُ
رماني وليُّ العهدِ موسى بغضبةٍ ... فلم يكُ لي، إلاّ الخليفةُ، مفزعُ
وليس امرؤٌ يمسي ويصبحُ عائذاً ... بظلِّ أميرِ المؤمنينَ، مروعُ
ثم أقبل على مديح موسى. فمن مدائحه قوله:
لهفي على الزمنِ القصيرِ ... بين الخورنقِ والسديرِ
إذ نحنُ في غرفِ الجنا ... نِ نعومُ في بحرِ السرورِ
في فتيةٍ ملكوا عنا ... نَ الدهرِ، أمثالِ الصقورِ
ما منهمُ إلا الجسو ... رُ على الهوى، غيرُ الحسورِ
يتعاورونَ مدامةً ... صهباءَ من حلبِ العصيرِ
عذراءَ، رباها شعا ... ع الشمس في حر الهجيرِ
حلبتْ على قومٍ كرا ... مٍ سادةٍ، في درعِ قيرِ
ومشمر يسعى أما ... م القومِ كالرشأ الغريرِ
بزجاجةٍ تستخرجُ ال ... سرَّ الدفينَ من الضميرِ
تذرُ الحليمَ، وليس يد ... ري ما قبيلٌ من دبيرِ
ومخدراتٍ زرننا ... بعدَ الهدوِّ من الخدورِ
نفحٌ روادفهنَّ يل ... بسنَ الخواتمَ في الخصورِ
متغمساتٍ في النعي ... مِ، مضمخاتٍ بالعبيرِ
يرفلنَ في حللِ الجما ... لِ، وفي المجاسدِ والحريرِ
ما إنْ يرينَ الشمس إلاّ ... الفرط من خللِ الستورِ
ولقد غططنا البؤسَ في ... لججِ الغضارةِ والسرورِ
فمحا لذاذةَ عيشنا ... مرُّ الليالي والشهورِ
وغدا فألهب في الرؤو ... سِ، وفي اللحى شعلَ القتيرِ
فالى ولي العهدِ مه ... ربنا من الدهرِ العثورِ
وإليهِ أتعبنا المط ... يَّ بالرواحِ، وبالبكورِ
صعرَ الخدودِ كأنه ... نَّ كسينَ أجنحةَ النسورِ
هوجاً يطرنَ بزائرٍ ... يهدي المديحَ إلى مزورِ
أضحتْ لموسى بيعةٌ ... في الملكِ أثبتُ من ثبيرِ
فرضي عنه وأجازه. فلما أفضت الخلافة إلى الرشيد قدمه ووفر له الجراية، وأمره بملازمته. فكان لا يفارقه في سفر ولا حضر. وقيل: إنه حج مع الرشيد، فجاء الرشيد يوماً في الطريق، وقد استلقى في ظل ميل، وهو يقول:
ألا يا طالبَ الدنيا ... دع الدنيا لشانيكا
فلما تصنعُ بالدنيا ... وظلُّ الميلِ يكفيكا
فعجب الرشيد من بديهته.
وعمر أبو عتاهية إلى أيام المأمون، وقد جاوز لسبعين، فقال:
أعينيَّ هلا تبكيانِ على عمري ... تناهبتِ الأيامُ عمري ولا أدري
ألا في سبيل الله سوفتُ توبتي ... ودفعتُ أيامي، وفرطتُ في أمري
إذا كنتُ قد جاوزتُ سبعينَ حجةً ... ولم أتأهبْ للمعادِ، فما عذري
أمني البقا نفسي أحاديثَ ظلةً ... وقد أشرفتْ بي الحادثاتُ على قبري
وكان أبو عتاهية ي قول: إن المكارم موصولة بالمكاره، فمن أراد مكرمة إحتمل كروهاً. وولد أبو عتاهية في سنة إحدى وثلاثين ومائة، وتوفي في أيام المأمون سنة عشر ومائتين.
ذكر أبي عبد الله محمد بن ابي عتاهية
لم تكن لمحمد غزارة أبيه في الشعر، ولكنه كان ذا طبع مجيب بغير تكلف، وفي شعره لين. ومن شعره يرثي أباه:
أيا دهرُ كم لكَ من بائقهْ ... وكمْ لك من نكبةٍ طارقهْ
فكمْ لكَ من غمزةٍ في القلوبِ ... وكمْ لكَ من دمعةٍ دافقهْ
إذا درجَ القرنُ في وقتهِ ... فإنَّ القرونَ به لاحقهْ
عوالقُ دنياكَ مسمومةٌ ... توقَّ، فقد تقتل ُالعالقهْ
أيا كبدً مالها سكنةٌ ... فتسكن أحشاؤهُ الخافقهْ
كأنَّ و سادي على جمرةٍ ... به، في توقدها، لاصقهْ
أبي يا صريعَ ثرى حفرةٍ ... نعيتَ بألسنةٍ ناطقهْ
وقد كنتَ تنعى برجمِ الغيو ... بِ، فقد جاءتِ النعيةُ الصادقهْ
وله يرثي أباه:
يا أبي ضمكَ الثرى ... وطوى الموتُ أجمعكْ
ليتني يومَ متَ صر ... تُ إلى حفرةٍ معكْ
رحمَ الله مصرعكْ ... بردَ الله مضجعكْ
ولأبي عبد الله محمد ولد يقال له أبو سويد عبد القوي بن محمد بن ابي عتاهية. وهذا كان متقدماً في صناعة الكلام، ألد في الجدال. وله كتب مؤلفة في الرد على أهل البخل، وله معان مستحسنة، وكان مطبوعاً، ظريفاً، دعباً. ومن شعره يرثي أمه، وإن كان معنى قد سبق إليه:
يقولُ أناسٌ: قد جفا قبرَ أمهِ ... وما قبرها إلا الفؤادُ الذي فجعْ
لقد ضاقَ بي من عالم الله كلهِ ... عشيةَ أودتْ روحها كلَّ متسعْ
وله فيها أيضاً:
بادَ أنسي، فربعُ دار ... ي من الأنسِ مقفرُ
كيفَ يقلا قبرٌ هو ال ... قلبُ، أمْ كيف يهجرُ
من فؤادي دونَ الأما ... كنِ أمي ستحشرُ
المعرقون من الرجاز
ومن المعرقين في شعر الرجز، وهم الرجاز
عقبة بن رؤبة بن العجاج، وحومة أخت رؤبة شاعرة أيضاً.
حدث أبو دهمان الغلابي قال: حضرت مجلساً فيه بشار وعقبة بن رؤبة وابن المقفع، فتحادثوا، وتناشدوا، فأنشدهم بشار أرجوزته:
يا طللَ الحيِّ بذاتِ الصمدِ
بالله خبرْ كيفَ كنتَ بعدي
فسمع فيها عقبة كثرة الغريب، فاغتاظ، وقال: أنا وأبي وجدي فتحنا الغريب للناس، وإني، والله، لخليق أن أسده عليهم.
فقال بشار: رحمهم الله، فقال عقبة: أتستخف بهم، وأنا شاعر بن شاعر ابن شاعر؟ فقال له، يتماجن عليه: أنت إذاً من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس، طهرهم تطهيرا.
ذكر العجاج
ولد العجاج وأبو النجم جميعاً بالقاعة. والقاعة أرض بكر بن وائل دون البحرين. وهو العجاج بن رؤبة، وهو أول من أطال الرجز، وكان في الرجاز ك امرئ القيس في الشعراء. وقيل ليونس: من أشعر الناس؟ فقال: العجاج، قيل: لم نسأل عن الرجاز، قال: واشعر أصحاب القصيد، إنما الشعر كله كلام، فأجودهم كلاماً أشعرهم، ليس في شيء من شعر العجاج شيء من الكلام يستطيع قائل أن يقول: لو كان مكانه غيره كان أجود. قال العجاج:
قد جبرَ الدينَ الإلهُ فجبرْ
وهي نحو من مائتي بيت، وهي مقيدة القافية، فلو أطلقت قوافيها كلها كانت منصوبة.
وسئل الأصمعي عن أشعر الرجاز، فقال: العجلي، ثم السعدي، ثم العجلي، ثم السعدي. يريد بالعجلي الأول: الأغلب، وبالسعدي الأول: العجاج، وبالعجلي الثاني: أبا النجم، وبالسعدي الأخير: سليمان بن رؤبة.
وإنما سمي شعر الرجز رجزاً لتدارك أجزائه. وهو مأخوذ من الإرتجاز، وهو صوت الرعد المتدارك. والرجز مصدر يرجزون ويرتجزون إرتجازاً. الواحدة أرجوزة، والجمع الأراجيز. قال أبو عبيدة: قال العجاج أبياتاً من رجزه في الجاهلية، ولم يدرك سلطان سليمان بن عبد الملك. وقال له عبد الملك بن مروان: أتحسن الهجاء؟ قال: إن لنا حلماً يمنعنا أن نظلم، وعزاً يمنعنا أن نظلم.
وكان العجاج يرى المتعة بغير شاهد. وقيل: إنه قدم إلى والي اليمامة إمرأة، ادعى تزويجها، فأنكرت المرأة، فسأله البينة، فأنشد:
وفالقِ الحبِّ، وفلاقِ النوى
لقد مددنا أيدياً تحتَ الدجى
تحت. . . الليلِ، والليلُ يرى
صفتاً، وكلٌ معجبٌ بما اشترى
وله يهجو بنيه:
إنَّ بنيَّ للئامٌ زهدهْ
ما عندهمْ لأحدٍ من موددهْ
إلاّ كودِّ مسدٍ لقرمدهْ
فقال ولده رؤبة يجيبه:
عجاجُ ما كنتَ بأرضٍ مأسدهْ
إنَّ بنيكَ لكرامٌ مجدهْ
ولو دعوتَ، لأتوكَ حفدهْ
الاحتفاد: السرعة، والحفد في الخدمة.
وقيل: إن العجاج استقرض من بنته حومة بكراً، فمطلها به سنة وشهراً، وكان له جمل، يقال له جوجله، فسألته حومة أن يدفع إليها ذلك الجمل، بدلاً من بكرها، فقال العجاج:
قد أقرضتْ حومةُ قرضاً عسرا
ثمَّ تعدتْ بازلاً ضبطرا
حوجلة القبعثري الدمثرا
الدمثر: الكبير الفم.
فأجابته حومة:
يا أبتي زادكَ ربِّ وفرا
وزادَ في عمركَ، أيضاً، عمرا
بعد نسائي سنةً وشهرا
تمتعني حوجلةَ الدمثرا
وقال العجاج:
والشمسُ قد كادتْ تكونُ دنفا
أدفعها بالراحِ كي تزحلفا دنفا: تموت، أو تصفر للغروب. وتزحلف: تنحى وقال الآخر:
تنورتها من أذرعاتٍ، وأهلها ... بيثربَ، أدنى، أدنى دارها نظرٌ عالِ
تنورتها: رأيت نارها.
ومثله:
أليسَ بصيراً من يرى، وهو قاعدٌ ... بمكةَ، أهلَ الشامِ يختبزونا
قال بعضهم: رأى أهل الشام بمكة وهم يختبزون.
وقال إبن شبة: إجتمع على باب عبد العزيز كثير والعجاج ونصيب، فأبطأت عليهم جوائزهم، فأرادوا تحريكة، فقال كثير في ذلك:
ولقدْ علمتَ، وأنتَ تعلمهُ ... أنَّ العطاءَ يشينهُ الحبسُ
وقال العجاج:
إني امرؤٌ قد ثبتتْ فراستي
فأنجزنَّ، يا هديتَ، حاجتي
وقال نصيب:
حتى متى حاجةٌ، لو شئتَ، قد قضيتْ ... محبوسةٌ ما لها وردٌ ولا صدرُ
ويروى أن العجاج أنشد سليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز حاضر قوله:
يا خيرَ نفسٍ خرجتْ من نفسِ
خرجتَ بينَ قمرٍ وشمسِ
ومما يشبه هذا أن كعب بن زهير أشد أبا بكر، رضي الله عنه، قصيدة زهير، فلما بلغ إلى قوله:
لو كنتَ من شيءٍ سوى بشرٍ ... كنتَ المنورَ ليلةَ القدرِ
والستر دون الفاحشاتِ، ولا ... يلقاكَ، دونَ الخيرِ، من سترِ
فذرفت عينا أبي بكر، وقال: هكذا كان رسول الله صلى الله عيه وسلم.
ذكر رؤية بن العجاج
كان يكنى أبا الجحاف، وكان رجلاً كاملاً، وكان أبوه تزوج امرأة غير أمه، اسمها عقرب، فولدت له أولاداً، كان يؤثرهم على رؤبة، ويهب لهم الشيء بعد الشيء من الإبل والغنم وغير ذلك. فقال رؤبة: إن هذه الإبل أنا اكتسبتها لأبي، وما زلت أذب عنها، وأدور معها الغمرات، وأتبع بها الأرياف أرعاها، ويأخذها أبي ويعطيها لمن لا تعب فيها. فأخبر بذلك العجاج فقال:
لطالما أجرى أبو الجحافِ
لفرقةٍ، طويلةِ التجافي
لما رآني أرعشتْ أطرافي
وقد مشيتُ مشيةَ الدلافِ
كان مع الشيبِ من الدفافِ
إستعجلَ الدهرَ، وفيه كافِ
يخترمُ الألفَ مع الألافِ
ليسَ كذاكَ ولدُ الأشرافِ
وهو عليكَ واسعُ العطافِ
فلما سمع رؤبة شعر أبيه خرج إلى رعاء إبله، وقال: هو أعلم بالشعر مني، فاسمعوا ما أقول، فان كان شعراً فأنا شاعر، وإن لم يكن شعراً أقبلت على رعاء الإبل، فقالوا: هات ما سنح لك، فقال:
إنكَ لم تنصفْ أبا الحجافِ
وكان يرضى منكَ بالإنصافِ
فليتَ حظي من جداكَ الضافي
كفافِ، إنْ تتركني، كفافِ
قالوا: والله أحسنت، وسلكت طريق الشعراء، وما أبوك بأشعر منك.
قال: فوالله، لا أتبع ذنب بعير أبداً. وسمع أبوه فخرج إليه، وقال له: خدعك الشيطان، هات ما قلت، فوالله لأنت عندي أوغد من أن تقول شعراً، فأنشده، فقال: اشهدوا، إن أمر زوجتي عقرب بيده، قال: فاشهدوا إنها طالق من أبي، ثم عكف عليه.
قال: وبلغ العجاج أن رؤبة قال: أنا أشعر من أبي، فقال له أبوه أنت أشعر مني؟ قال: نعم، قال: ومن أين أتاك ذلك؟ قال: من حيث أتاك، إنك أشعر من أبيك رؤبة، فسكت.
وتنازعا معاً بحضرة عبد الملك بن مروان في قول:
وقاتمِ الأعماقِ خاوي المخترقْ
وكانت لرؤبة دون العجاج، فأخذها العجاج ثم أنشدها لعبد الملك، وأخذ جائزتها، فقال رؤبة لأبيه: ما أنشدت أمير المؤمنين؟ فقال:
وقاتم الأعماقِ خاوي المخترقْ
فقال: والله لقد سرقت شعري، ولست أفارقك أو تدفع إلي جائزتها، وإلا بيني وبينك عبد الملك. فرجعا إلى عبد الملك، فقال رؤبة: يا أمير المؤمنين، إن أبي سرق قصيدتي، وأنشدكها. فجحد أبوه أنها لولده، وقال: هي لي دونه، وأنا قائلها. فقال له: خل عن أبيك، فقد جاء عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أحل، ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه " . فلا ضير إن اكتسب أبوك بشعرك. فأغاظ العجاج ما صنعه به ابنه رؤبة، فقال له: إن قلت وادعيته لنفسي، فأنا شاعر. فقال: إن كنت شاعراً فلست ابن شاعر، وأنا شاعر إبن شاعر. فأنشأ العجاج يقول:
يردُّ عليَّ الشعرَ منْ أمهُ ... ثلاثينَ عرداًً في ثلاثِ ليالِ
فأجابه رؤبة:
فقد جدي جدتي، باابنَ جدتي ... ثمانينَ عرداً في ثلاثِ ليالِ
فضحك عبد الملك حتى علا صوته، وأجازه كما أجاز أباه.
ومات رؤبة سنة خمس وأربعين ومائة. وفي اسمه لغات: روبة، غير مهموز، ورؤبة مهموز، وروبة بفتح الراء. وسئل يونس عن رؤبة المهموزة، قال: هي قطعة من خشب، يرأب بها القدح والجفنة. ورؤبة الفرس جماعه.
ورؤبة الليل: ساعة منه. ورجل رائب، ورجال روبى: تعني النعاس. ويقال: فلان لا يقوم برؤبة أهله: أي لا يقوم بما يسندون إليه من حوائجهم. ويقال: روب لبنك برؤبة، أي بخميرة تدرك بها اللبن.
قال الأصمعي: حدثنا رؤبة قال: دخل علي ذو الرمة، فسمع قولي فسرق أول أرجوزتي.
قال الأصمعي: دخلنا على أبي عمرو بن العلاء، فقال: سمعت رؤبة يقول: دخلت على أبي مسلم، بعد قتل مروان، وهو في بهو له بالشام، فسلمت عليه، فرد السلام وقال: أنشدني قصيدتك التي في وصف البعير، فقلت: بل أنشد مدحي فيك، وأنشأت أقول:
ما زالَ يأتي الأمرَ من أقطارهِ
على اليمينِ، وعلى يسارهِ
مشمرٌ لا يصطلي بنارهِ
حتى أقرَّ الملكَ في قرارهِ
فقال: ويحك أنشدني ما قلت لك أولاً، فقلت:
خفضتَ بيتاً ورفعتَ بيتا
في الأكرمين من قريشَ بيتا
فقال: ويحك أنشدني ما قلت لك أولاً، فقلت:
ما زال يبني خندقاً ويهدمهْ
وعسكراً يشرعهُ فيهزمهْ
ومغنماً يجمعهُ فيقسمهْ
مروانُ لما غرهُ منجمهْ
فقال ويحك أنشدني:
وقاتمِ الأعماقِ خاوي المخترقْ
فأنشدته، فلما انتهيت إلى قولي:
ترمي الجلاميدَ بجلمودٍ مدقْ
قال: قاتلك الله لقد صليت حافره. ثم دعا وصيفاً له وأسر إليه شيئاً. فقمت والوصيف في الباب، فأعطاني ألف دينار.
ومن معاني رؤبة:
قد رفعَ العجاجُ ذكري فادعني
باسمٍ، إذا الأسماءُ طالتْ، يكفني
وهذا المعنى من قول الآخر يمدح قيس بن معدي كرب:
قيسٌ أبو الأشعث بطريقُ اليمنْ
لا يسألُ السائلُ عنه ابن منْ
وأخذ هذا المعنى دعبل فقال:
إذا تسميتَ فذاكَ نسبي
ولستُ أحتاجُ إلى ذكرِ أبي
ومن أخبار رؤبة قال الأصمعي: إن رؤبة قال: كانت لي حاجة إلى بعض عمان السلطان، فاستشفعت ببعض أهل البصرة وبالشعر فلم تنجح، فرشوت فنلت حاجتي، فقلت:
لما رأيتُ الشعراءَ بلدوا
وسألوا أميرهم فأنكدوا
هزمتهم برشوةٍ فأقردوا
فسهلَ الله بها ما شددوا
وشبيه بهذا قول الأعرابي:
وكنتُ إذا أخصمتُ خصماً كبيتهُ ... على الوجهِ، حتى خاصمتني الدراهمُ
فلما تنازعنا الخصومةَ صدقتْ ... عليَّ، وقالوا: قمْ فانكَ ظالمُ
وكان دعبل إذا أنشد هذا البيت:
عليَّ، وقالوا: قمْ فانكَ ظالمُ
يصيح صيحة قوية في قوله: قم. فقيل له: لم تصيح؟ فقال: كذا صاحوا علي لما قالوا: قم.

وقال ابن العلاء: كنت عند بلال بن أبي بردة، إذ قدم عليه الطرماح والكميت، ودخل رؤبة فقال له ابن العلاء: أتدري من هذان؟ قال: لا، فقال: هذا الكميت وهذا الطرماح، الساعة يسرقان شعرك، ويهدمان قوافيك. فقال: هلا أعلمتني قبل ذلك فلا أنشدهما.
ونشأ لرؤبة ولد اسمه عقبة، ونحن نذكره. وقيل لرؤبة: إن ولدك عقبة قد أحسن في الشعر، قال: بل ما لشعره قران التشابه والموافقة. ولذلك قال عمرو بن لجأ لبعض الشعراء: أنا أشعر منك، قال: ولم؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه.
الأخوة من الشعراء
وأما الأخوة من الشعراء، فالشماخ، واسمه معقل، ومزرد وإسمه يزيد، وجزء، وكلهم كان شاعراً. وهم أبناء ضرار بن سنان بن أمامة. فأرادت أمهم أن تتزوج رجلاً بعد موت أبيهم، يقال له آوس، وكان أيضاً شاعراً. فلما رآه بنو ضرار أتى أمهم يخطبها، وهم على بئر يستقون الماء منها، تناول شماخ الدلو، ثم متح، وهو يقول:
أمُّ أويسٍ أويسا
وجاء مزرد، فتناول الحبل، وهو يقول:
أعجبها حدارةً وكيسا
وجاء جزء، فتناول الحبل، وقال:
أصدق منها لجبةً وتيسا
فلما سمع آوس رجز الصبيان هرب، وترك أمهم فهذا أول شيء تفوه به بنو ضرار من الشعر.
وقال أبو عمرو بن العلاء: قيل للحطيأة في اليوم مات فيه: أوص، قال: ويل للشعراء من رواية السوء. قيل: أوص، قال: أخبروا الشماخ أنه أشعر غطفان.
وكان الشماخ يجيد إذا وصف الحمر، حتى قال الوليد: إني لأظن أن أبا الشماخ كان حماراً، لكثرة وصفه للحمير في شعره.
وروي أن ابن داب خرج من حضرة المهدي، فقيل له: أنشدنا أبياتاً من أشعر ما قالت العرب، فأنشد قول الشماخ:
وأشعثَ قد قدَّ الشفارُ قميصهُ ... وجرَّ شراباً بالعصا غيرَ منضجِ
دعوتُ إلى ما فاتني، فأجابني ... كريمٌ من الفتيانِ غيرُ مزلجِ
فتىً يملأ الشيزى ويروي سنانهُ ... ويضربُ في رأسِ الكميِّ المدججِ
فتىً ليس بالراضي بأدنى معيشةٍ ... ولا في بيوتِ الحيِّ بالمتولجِ
ومما يتمثل بشعره:
وكنتُ إذا حاولتُ أمراً رميتهُ ... بعيني، حتى تبلغا منتهاهما
وكنتُ إذا ما شعبتا الأمرِ شكتا ... عليَّ، فلم يصدر جميعاً هواهما
عمدتُ إلى ذات المغبةِ منهما ... وخليت نفسي من طلابٍ سواهما
ويروى: سدهما، أي المهلة بينهما. قال الأصمعي: قال لي الرشيد يوماً، وقد هم بأخذ العهد لمحمد الأمين، وقد فكر فيه طويلاً: من القائل:
وكنتُ إذا حاولتُ أمراً رميتهُ ... بعينيَّ، حتى تبلغا منتهاهما
وأنشدني باقي الأبيات، قلت: الشماخ، وأنشدت باقي القصيدة، فقال: قاتله الله، ما أرصن شعره وأحكمه: ومن شعره السائر:
رأيتُ عرابةَ الأوسيّ يسمو ... إلى الخيراتِ، منقطعَ القرينِ
أفاد سماحةً، وأفادَ مجداً ... فليس كجامدٍ لحزٍ ضنينِ
إذا ما رايةٌ رفعتْ لمجدٍ ... تلقاها عرابةُ باليمينِ
إذا بلغتني وحللتِ رحلي ... عرابةَ، فاشرقي بدمِ الوتينِ
فنعم المعتزى ركدت إليهِ ... رحى حيزومها كرحى الطحينِ
ومن معانيه التي يختلف فيها قوله:
إذا دعتْ غوثها ضراتها فزعتْ ... أثباجُ نيٍ على الأعقابِ منضودُ
الضرة: مجتمع اللبن، والثبج: أعلى الظهر، النيئ: الشحم كأنها منضودة عقب على عقب. والمعنى قال الأصمعي وغيره: يقول: هذه إبل سمان، إذا احتاجت إلى الدر أتتها شحومها باللبن. وقوله: فزعت، أي لفاثت، والجرت والفزع: الاغاثة.
ومن معانيه المستحسنة:
بها شرقٌ من زعفرانٍ وعنبرٍ ... أطارتْ من الحسنِ الرداءَ المحبرا
أخذه ابن أبي ربيعة، فقال:
فلما توافقنا وسلمتُ، أشرقتْ ... وجوهٌ زهاها الحسنٌ أن تتقنعا
أخذه الآخر فقال:
تمشي الهوينا مائلاً خمارها
أي من حسنها، أي لا تخمر بخمار.
ومن معانيه المستطرفة، وقد ادعت عليه إمرأته أنه طلقها، فألزمه عثمان رضي الله عنه باليمين، فأعانها قومها من بني سليم، فقال:
أتتني سليمٌ، قضها وقضيضها ... تمسحُ حولي بالبقيعِ سبالها
يقولن: إحلفِ، قلتُ لستُ بحالفٍ ... أخاتلهم عنها، لكيما أنالها
ففرجتُ همَّ النفسِ عني بحلفةٍ ... كمتنِ جوادٍ، شقَّ عنهُ جلالها
أخذ هذا المعنى بعضهم فقال:
خوفوني اليمينَ فارتعت منها ... كي يغروا بذلك الارتياعِ
ثمَّ أرسلتها كمنحدرِ السيلِ ... تداعى من المكانِ اليفاعِ
وأخذه الآخر فقال:
وقالوا: اليمين، فمنْ لي بذاكَ ... ياليتهم يطلبونَ اليمينا
فأمنحهمْ حلفةً لذةْ ... تنجي المدينَ، وتردي المدينا
وأخذه أخوه مزرد فقال:
إذا أحلفوني باليمينِ منحتهمُ ... عيناً، كسحقِ الأتحميِّ الممزقِ
وإنْ أحلفوني بالعتاقِ فقد درى ... دهيمٌ غلامي أنهُ غيرُ معتقِ
وإنْ أحلفوني بالطلاقِ رددتها ... كأحسنَ ما كانت كأنْ لم تطلقِ
وله التشبيهات الحسنة. فمن ذلك قوله:
رأيتُ، وقد أتى نجرانَ دوني ... وليلى دونَ منزلها السديرُ
بدالي بالعميمِ ضوءُ نارٍ ... تلوحُ كأنها الشعرى العبورُ
أخذ هذا المعنى كثير فقال:
رأيتُ وأصحابي بمكةَ موهناً ... وقد لاحَ ضوءُ الكوكبِ المتصوبُ
لعزةَ نارٌ ما تبوخُ، كأنها ... إذا ما رمقناها من البعدِ، كوكبُ
قال الأصمعي: أول درهم أصبته من الرشيد مائة ألف درهم، أعطانيها على بيتي كثير هذين. وذاك أنه كنت في خدمة يحيى بن خالد في بعض أسفاره مع الرشيد. فنظر الرشيد ليلة إلى نار بعيدة، فقال ليحيى بن خالد: هل تحفظ في صفة هذه النار شيئاً، فقال: لا، ولكن معي رواية يقال له الأًصمعي، قال: تحضره. فلما وقفت بين يديه قال: انظر إلى هذه النار، فنظرت، قال: هل تحفظ فيها شيئاً؟ قلت نعم، وأنشدته البيتين، فاستحسنهما، وقال: ما أخطأت ما في قلبي من تشبيهها، وأمر لي بمائة ألف درهم.
وقد ذكرنا مزرداً أولاً، وأردنا بذكره قصيدة له نادرة، فذكرناها ها هنا على غير ترتيب. والقصيدة قوله:
صحى القلبُ من سلمى، وملَّ العواذلُ
وهي قصيدة منعوتة قد جمع فيها أِشياء مما يستجاد منها:
ومنْ يكُ معزالَ اليدين فانهُ ... إذا كشرتْ عن نابها الحربُ، خاملُ
وقد علمت شيبانُ ذبيان أنني ... أنا الفارسُ الحامي الذمار المقاتلُ
وأني أردُّ الكبشَ، والكبشُ جامحٌ ... وأرجعُ رمحي، وهو ريانُ ناهلُ
وعندي، إذا الحربُ العوانُ تلقحتْ ... وأبدتْ هواديها، الخطوبُ الزلازلُ
طوال القرا قد كادَ يذهبُ كاملاً ... جوادُ المدى والعقب، والخلقُ كاملُ
أجشّ صريحيٌّ كأنَّ صهيلهُ ... مزاميرُ شربٍ جاوبتها خلاخلُ
ومسفوجةٌ فضفاضةٌ تبعيةٌ ... وآها القتيرُ تجتويها المعابلُ
موشحةٌ بيضاءُ، دانٍ حبيكها ... لها حلقٌ، بعد الأناملِ، فاصلُ
وتسبغةٌ في تركةٍ حميريةٍ ... دلامصةٌ، ترفضُّ عنها الجنادلُ
وأملسُ هنديٌّ متى يعل حدهُ ... ذرى البيضِ لا تسأمْ عليه الكواهلُ
ومطردٌ، لدنُ الكعوبِ، كأنما ... تغشاهُ منباعٌ من الزيتِ سائلُ
أصمٌّ إذا ما هزَّ مارتْ سراتهُ ... كما مارَ ثعبانُ الرمالِ الموائلُ
وقد عن لنا أن نعود نذكر شيئاً من حديث ذي الرمة. لأنا ذكرنا سبب كنيته في الألقاب. ولم نذكره ها هنا إلا لما أردنا أن نذكر الأخوة من الشعراء، كما ذكرنا الشماخ وأخوته.
كان أبو عمرو بن العلاء يقول: ختم الشعر بذي الرمة. وسئل جرير عنه، فقال: بعر ظباء يفوح، ونقط عروس. أراد به بعر ظباء، يعني أول ما تأخذ بعر الظباء تفوح منه رائحة المسك، ثم يرجع إلى حالته. يعني شعر ذي الرمة أول ما يطرق السمع توجد له حلاوة، ثم لا.
ومن الفرزدق بذي الرمة، وهو ينشد شعره، فلما فرغ قال: كيف ترى شعري؟ قال: أنت شاعر. قال: فلم فضل علي غيري؟ قال: لأنك كثير البكاء على الدمن، وكثير الوصف لأبوال الأبل وذكر الديار البلاقع، فإذا صرت إلى الهجاء والمدح أكديت، وقيل لذي الرمة: إنما أنت رواية الراعي، ومنه تعلمت، فقال: ما مثلي ومثل الراعي، إلا مثل شاب صحب شيخاً، فسلك به طرقاً، ثم فارقه، فسلك الشاب بعده شعاباً وأودية لم يسلكها الشيخ قط.
وكان يقال: أحسن الجاهلية تشبيهاً امرؤ القيس، وأحسن الأسلاميين ذو الرمة. وروي عن ذي الرمة أنه قال: إذا قلت كان فلم أجد، فلا إنطلق لساني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى