محمد عبد الرحمن يونس - سفر

حزم حقائبه ودع أمه.. هبطت الأحزان على قلبه الصغير.. زيناً راقب الموانئ والمطارات.. تمدد على الشاطئ.. راقب النجوم الأليف ما وجد نجمة واحدة.. انطرح على الرمال.. رسم سفينة.. مد لها أشرعة.. شكل امرأة.. وضع لها حاجبين خضراوين.. اجلسي أيتها المرأة على دفة هذه السفينة، واحمليني معك واقذفيني حيث شئت.. لسعته حرارة الرمال…..طاف حوله نورس….حلق…..هبط…..حط أمامه…نقر السفينة.. نتف الحاجبين….قطع أشرعة السفينة فامحت….راقبه النورس هازئاً وطار عالياً.
تهبط الأحزان على قلبه…..تهبط الجبال الرواسي….هي ذي البنايات والسيارات والشوارع ونوادي الليل والراقصات شاهرة ألسنتها، وثيابها المثقوبة…تحاصره….يدور يميناً وشمالاً….وأين المنافذ ووجه البحر؟……أين السفينة التي تطفئ مواجعه القديمة؟.
تحسس جيوبه……شبه خاوية….منذ أن ترعرع والخواء يحاصره. جاع مراراً…عطش في كل أماسيه…وما ارتوى يوماً….لم يترك حلماً جميلاً إلا واستحضره، لكن الليالي الموحشة لم تتركه ليكمل فرحه.
غازل زجاجة بيرة..شهية عبقة أحاطته بفتنتها الصفراء الأخاذة……ابتعدي أيتها الزجاجة فأنا خاوٍ…. ابتعدي وإلا سرقتك…أطياف سوداء كابوسية هجمت عليه..سجون وجدران وفجائع، فانقبض قلبه وابتعد وبحركة بذيئة مدت الزجاجة لسانها، ثم بصقت عليه…شيعها.أنا لست لك أيتها الأميرة.
- أيها الأحمق، ولست لغيري أيضاً.
تخرج في الجامعة..هي ذي درجاته تثبت تفوقه، وتدفعه لأن يكون الثاني على دفعته، وتقدم: سيدي مدير جامعة الحرية والتقدم، وكل الشعارات البلهاء الجوفاء والملونة..لي الشرف أن أتقدم بطلبي راجياً تعييني معيداً في جامعتكم الموقرة….حيث أنني أحقق كل الشروط التي حددها إعلانكم….فترتيبي الثاني على دفعتي….وأنا من منبت طبقي معدم وبحاجة إلى مساعدة، وجامعتكم العريقة منذ أن تشكلت الأحقاب الجيولوجية الأولى، وهي تدعو للمساواة……وتقدير المتفوقين.
وقال مدير الجامعة: هذا الأحمق ما زال يهذي بالوساوس والعدالة والمساواة، والحق…سيفسد الطلبة إن عيناه.
وقال مدير معهده: أنا أرفض تعيينه في معهدي.
وقال عضو آخر في لجنة القبول: طالما حددتم شروطاً يحققها جميعها….فلماذا ترفضونه؟
وقال مدير الجامعة الذي يعاديه طبقياً: وحق أولياء الله الطاهرين…إن قبل هذا الأحمق في جامعتي، سأستقيل.
وقررت لجنة القبول الموقرة عدم الموافقة على تعيينه، وعينت بدلاً منه زميلته مليكة، الجميلة جداً، والتي رسبت ثلاث سنوات في الجامعة، فنالت بجدارة وشرف آخر ترتيب في دفعته.
وشكا الأمر إلى معالي الوزير، لكن مولانا ما أراد أن يغضب عيني مليكة المشعتين ألقاً ومشاريع استثمارية، ولا والدها العزيز في قومه ومضاربهم، ولا شهادات مدير الجامعة المتخمة عظمة وعلماً، وكان سعيداً بتحريفه لقوانين القبول، وغير هياب ولا وجل.
أحس بالجوع…أيتها الشهادة الجامعية المليئة بالزخارف والنقوش والتفوق، وأختام مدراء وعمداء ورؤساء أقسام، لم يقرأ كتاباً واحداً بعد حصولهم على الدكتوراة المزورة أو الفخرية، أطعميني سمكة أو فخذ إوزة..أو صحناً من الحساء، فالجوع يقتلني.
دارت الأختام والتواقيع على بعضها، وطوت ذيلها الأحمر، ودخلت تجاويف النقوش، فاستكان المدراء والعمداء لتواقيعهم المعقدة التي تنم عن عظمتهم التاريخية، شهاداتهم التي تطول الجبال الرواسي…..
ورمقوه محتقرين هازئين: جميع شهاداتك وجامعاتك إلى كعاب أحذيتنا….وجميع ما تعلمته من قيم ومبادئ وشعارات براقة إلى أدراج مكاتبنا، ثم إلى سلال مهملاتنا.
رمق شهاداته الجامعية….بانت زخارفها لامعة زاهية…..احتضنها….قبلها بحنان… سامحيني…أنت تعاستي وعاري…أنت ذلي وفقري…ثم قبلها القبلة الأخيرة…..وقطعها مزقاً مزقاً….ورماها في وجه الريح والبحر وراقصات البلدة المتألقات عراقة وأصالة.
* * * *
إلى أول مكتب سفريات شاهده، طوى أحزانه واتجه….هي الطائرات الجميلة المحلقة عالياً، والتي عذبته طويلاً…كان بوده أن يعمل….أي عمل كان…لم يعد مهماً أكان وضيعاً أو رفيعاً، فالعمل شرف في كل شرائع الأمم والحضارات، وهاهم يحثون عليه في الإذاعة والتلفزيون، والصحف الموالية والمعارضة.
ثلاث سنوات مرت بعد تخرجه، والبطالة تهبط جراداً، يرعى أحلامه ليل نهار..عشرات الطلبات تقدم بها إلى دوائر رسمية وخاصة، وشركات مساهمة مغفلة وسماسرة وبنوك ونوادي واتحادات ومافيات وطنية وقومية وعالمية. كان الجواب واحد في كل مرة: آسفون…..نعتذر….لا شواغر لدينا.
الفراغ والمرارة وليالي الصقيع الموشومة حزناً أسود وكوابيس كانت تقصف كل نخيله، وتقطع كل بيارات والده الذي مات مدهوساً ذات أصيل بسيارة فورد سوداء ومنذ خمس سنوات، وهادئة ملتاعة يفتها النوى والخوف والوحشة ظلت الوالدة تبكيه طيلة هذه السنوات، وعندما تأكدت أن الموت اعتاد الضحك ذقون الفقراء، وتدليل الأغنياء….وإطالة أعمارهم، حتى يعمروا الأرض ناطحات سحاب، ومراقص وملاهي ومشاريع استثمارية، قررت أن تسلو، وتعتبر هذا الابن بديلاً عن الأب المغدور، و ها هي الضربة الثانية موجعة تدمي قلبها الجريح.
- أتسافر غير معقول…أيها الجاحد……كيف تتركني ولمن؟….أنت ولدي الوحيد……وأنا المقطوعة من شجرة ألا يكفي أن والدك ذهب…أما كان أفضل لو أنه أخذني معه.
- آتيك كل سنة …..أعمل…..أكسب مالاً وأعود…….أعدك بذلك……سأغسل فقرك الأسود….سأبدل هذا الزمان الخنزيري… لن أكون سيداً في قومي وعشيرتي إن بقيت فقيراً.
- ولن تكون سيداً في بلاد الغربة الضيقة كسم الخياط أيها الأحمق… ضع عقلك برأسك أو في قدمك، لا فرق وقر….أنا أمك…..أظللك بدمي ودموعي..مستعدة أن أمسح البلاط فأنا لا أريد مالاً وجاهاً… إن ذهبت ستقتلني.
- سأذهب….ورب الفقراء والحمقى والمعتوهين سأذهب.
- لا رافقتك السلامة….غضبي عليك إلى يوم القيامة.
وتماسك وبكى وانهار….دعيني أقبلك أيتها العزيزة….كلليني بالدعاء والرحمة……قبلة واحدة أخيرة.
- لن تمسني أيها العاق.
وتأبط جواز سفره المزور..ودخل مكتب سفريات الشرق……هنا النساء تتألف، وتقطر عطوراً ورقصاً ومطارات ورشاوي وهدايا….ومواعيد عشق مع الطائرات والنوارس والقباطنة ورجال الأعمال، قابلته شابة…..ساعداها العاريان يلمعان شهيين على مكتبها الوثير….يقفز نهداها ألقين طافحين بحليب التذاكر والطائرات.
جلس مكسوراً مضطرباً….قدم جواز سفره……دعا ربه ألف مرة حتى لا تكتشف سره.
- من فضلك مدموزيل..تذكرة شباب إلى الدار البيضاء.
- رفعت رأسها وبعجرفة جمعت شعرها المتداعي، وألقته خلف ظهرها، ووضعت سيجارتها….وهادئة أخذت جواز السفر، وتذكر نساء الأباطرة اللاتي قرأ عنهن في الروايات والتاريخ….هي ذي المرأة تمزق حجب التاريخ، وتتربع عرش المكاتب والمطارات.
وجيداً تأملت الصورة، وثقبت مكامن خوفه، تماسك…قطب حاجبيه…… هجم وحش الفقر والصراعات الطبقية في أعماقه…..استعاد وعيه….كان مستعداً أن يضربها، ويبصق في وجهها….ويمسكها من شعرها الجميل الملونّ، وينتقه شعرة شعرة.أحس أنها عدوه الطبقي والتاريخي الذي شحنوه ضده عندما كان طالباً في مراحله الأولى.
يالله… يا للإيدلوجيا الرثة التي لم يستطع التخلص منها، لا في الحياة، ولا في الجامعة، ولا في اللحظة ولعن الإيدلوجيا وكل الإيدلوجين الذين لم يورثوه إلا الفقر وضيق الأفق. ابتعد أيها الوحش الإيدلوجي قليلاً….أخمد اللحظة أرجوك.إن استيقظت فأنت الخاسر..ستدوسك هذه الشقراء المنتفخة من أطرافها وقاراتها وشواطئها…وما ابتعد….كان قد تعود في سفراته السابقة أن يلتقي بوجوه نساء تطفح بشراً وابتسامات هادئة أليفة…ولعن في سره هذه الموظفة الطافحة بالخمور والحشيش والملابس الفاخرة المستوردة…لماذا لا تكون موظفات الشركات لطيفات…..ما ضرها لو استنفرت إنسانيتها قليلاً، وعاملته بذوق ولباقة؟ ود لو يبصق….غراب أسود بدأ ينخر خلايا دماغه..ألا يكفي أن هذه المكاتب الخاصة تسرق البلد، بكل فتوحاته وأرزاقه وخيراته؟…. واستشاط خياله الإيدلوجي والطبقي….واستشاط كبته التاريخي المزمن، وثقب تلال الجسد المكومة سنابل وبلحاً شهياً، وشك في أن هذه النوعية من النساء الأسطوريات لا يهمها من مآسي هذا العالم، وظواهرها الطبقية التاريخية، إلا أن تمنح نفسها سخية معطاءة لمن يدفع أكثر….فلا هموم ولا أحزان ولا فقر..ولا ايدلوجيا، ولا التزام بزوج مطعون..هذه النساء الجميلات يكفيها أن تثرثر، وشرف للمدن والمكاتب إن نالت احتضانها، وسمعت ثرثراتها، وشرف للناس إن أطلت عليهم بطلعتها البهية، وللمقاولين ورجال الأعمال إن هي ابتسمت إليهم.
قدمت له جواز سفره وتذكرة الطائرة….حمد الله وأثنى عليه…..وتأكد أن هاته النسوة البلهاوات الملونات، لا يمكن أن تكتشف التزوير، واطمأن إلى أن ضباط المطارات العظام لن يكتشفوا هذا التزوير، طالما أن سيداتهم الأرستقراطيات لم يكتشفنه.
خلايا دماغه فرحاً ورقصاً، واستحضرت كل خمور العالم، وبدأت تتخيل الأجداد العظام، وهم يكرعون الخمرة حالمين محلقين، وجواريهم وراقصاتهم، وهن يلتوين بغنج ودلال، وتمنى لو الزمان يعود، لتعود قطعان الجواري والإماء، وليغني الناس بفرح وحرية كما كانوا يفعلون سابقاً في عكاظ والمربد والبصرة.
شكرها بعمق….لم تنطق كلمة واحدة..خرج…..شيعته بإزدراء….لتحتقره ألف مرة….اذهبي أيتها الخرقاء إلى الجحيم…..ماذا يهمني من أصباغك وعطورك وتلال جسدك طالما أن بطاقة الطائرة صارت معي…ووثب خياله الإيدلوجي….أنت العدو التاريخي للثورة..أنت البقية الباقية من ذيول الإستعمار……. أنتِ النجمة الحتمية للثورات المجهضة المداسة بالنياشين والأحذية….وداس أذناب هذا الوحش..آه أيها اللعين….اسكت قليلاً….مت الآن….بل مت وإلى الأبد…أنت شر شقائي الأبدي…..ودعا الله أن تموت جميع الإيدلوجيات……أو أن تزول تدريجياً….وتمنى لو أن الله يقذفه إلى منصب أكاديمي كبير.عندها سيلغي تدريس جميع أشكال الإيدلوجيات، وسيعاقب بالسجن والأشغال الشاقة كل من يدعو إلى فرزها الطبقي والمعرفي….وسيعلن في الصحف موت الإيدلوجيات….وسيقوم على توعية الأجيال الشابة، وفتح عقولهم وقلوبهم، وشحنها ضد الإيولوجيات بإعتبارها بؤساً ومرضاً ولوثات هائجة ضد العقل والمنطق، وسيعلن تدريس النظريات الغربية الحديثة التي تقوم على العقل أولاً وآخراً…..العقل وليس إلا العقل.
وسيسافر فيما بهد ويتجول كثيراً ويرى مدناً….ونساء وخمارات، وبطالة وجوعاً….وغربة راعفة مجنونة….. ولن يموت الوحش الإيدلوجي الكامن في أعماقه أو يستكين.
جواز سفره وبطاقة طائرته أغلى شيء في هذا العالم….هما العالم كله…..هما الروح والجسد وجميع المنى الجميلة..لو فقد بطاقة طائرته لسقط مطعوناً بألف سكتة قلبية أو شلل دماغي، خبأ البطاقة وجواز السفر في شغاف قلبه، فزقزق القلب فرحاً، وشكر الله، وبالرغم من أنه لم يكن من المدمنين على الصلاة وطقوسها إلا أنه قرر أن يصلي، فدخل جامع باب الواد، وظل يركع ويسجد طويلاً، فأتاه شيخ الجامع :
كفاك يا ولدي .. أرهقت نفسك .. مرضاة الله لا تأتي بطول الركوع والسجود .. بل بالنية الصافية ومحبة الله الخالصة التي لا تشوبها منفعة أو زلفى .
شيّع الجامع .. ودلف شارع ابن تومرت .. كم يبدو هذا الشارع أليفاً شارع النساء الجميلات المعطرات بأفخر عطور العالم .. شارع الثياب الملونة والسوق السوداء والبيضاء .. هنا تجد كل ما لذ وطاب .. وكل حلال وحرام .. هنا نساء التاريخ والأباطرة جميعهم .. هنا أشهى تمور العالم .. والخمر الفاخر بنجومه العشرة، والذي يصدر إلى أنحاء العالم .. والثراء مكللاً متوجاً بالتيجان والأبهة .. والفقر مداساً وجرثومة خبيثة تفتك بخلايا الروح والجسد .
كانت المدينة تقيم طقوسها .. البيع والشراء .. تجار الأندلس، وبني أمي‍ّة والعبّاس ووهران ومراكش .. تيجان القادة التاريخيين .. قلائد نساء الأباطرة والبربر .. سيوف التاريخ المثلومة .. لبن العصفور والمرأة .. ما لذ وطاب .. نحن التجار العباقرة .. دائماً في خدمة الاقتصاد ورفاهية المجتمع وتحضير الأمة . وكان الناس منهمكين بهذا الكرنفال السحري .. يروحون ويجيئون لاهثين .. قلما يلتفتون إلى بعضهم، وقلما يسلمون على بعضهم، وإن سلموا يكون السلام سريعاً ومقتضباً وذئيباً يفتقد إلى أية حميمية أو صدق.
وقف أمام البريد المركزي….فتح صدره…أحس أنه مخنوق…..افترش جريدة وجلس عليها….هبط عليه كابوس الحزن ثانية، فنسي فرحه ببطاقة طائرته وجواز سفره…..أما من دوائر ناجع يوقف بحار أحزانه؟
مر طيف والده مسلماً…أيها الحبيب…..النجمة …الشراع الغائب أبداً……تعال اجلس قليلاً بجواري…. وتأمل مدينة ربي الغارقة أبداً بحمى البيع والشراء، المكتوبة بلوثات الحقد الطبقي والعنصري والطائفي، والمزابل وفنادق ومطاعم العشرين نجمة وراقصة.
ولوح له والده: كم أنا سعيد بخروجي من هذه المدينة يا ولدي.
- أيها العزيز….انظر كم السيارات جميلة وفارهة….وكم النساء شهيات مشعات ببلح بسكرة وتمنراست!*
- جميع نساء مدنك هذه لا يعادلن قلامة حورية من حوريات الجنة.
-غير معقول….! أنت في الجنة يا ولدي؟.
-ولماذا لا أكون في الجنة أيها الأحمق العاق؟.
-وهل قلبك الباري؟
-ولماذا لا يقبلني؟
-فقير مثلك مهزوم، لم يرث ولم يورث إلا الفقر وزوجة بائسة، وولداً مطعوناً بخناق الإيدلوجيا، كيف سيقبله الباري؟….أنا لا أصدق؟
- أستودعك الله أيها الجاهل..لن تستطيع أن تعرف مكانة وقدر والدك عند ربه.
- بالله عليك قل لربك الكريم أن يقبض روحي الموطوءة بأقدام العظماء والتجار والراقصات، أو يستبدل فقري، ويزيدني مكانة عند أشراف وسادتهم قومي، أنا تعب يا ولدي….أموت كل يوم…خلصني يرحمك الله، ويزدك ألف حورية وكاعب وبكر، وألف قصر من قصوره.
- أنا لا أستطيع مساعدتك…ولد شغلته الدنيا والنساء، ونسي ربه لن يخلصه الله….أدعو لك بالهداية والتقوى.
- ورفرف طيف والده، وحلق عالياً، وراقبه حزيناً، هنيئاً لك أيها العزيز بحوريات الجنة، حيث لا حيض ولا طمث، ولا فقر، ولا تجار ولا سادة.
- دخل البريد…..قابله موظف يقبع خانعاً تحت بذلة زرقاء قاتمة….مد يده….ناوله ورقة برقية…ملأها ومضى عليها….ودفعها للموظف، أعادها الموظف غاضباً.
- اكتبها بالفرنسية أو الإنكليزية…هناك لا يستقبلونها إن لم تكن مكتوبة بإحدى اللغتين.
- ألسنا عرباً..لماذا الفرنسية….ألسنا من بطون نجد ونزار وقحطان وعدنان وجميع السلالات العربية المقدسة؟.
- بركة تمسخير….يرحم باباك……دين باباها هادي العربية….باغي تصدعني*.
كتب: أيتها العزيزة الجميلة.سأصل اليك غداً…أرجو أن تنتظرني بالمطار…قبلاتي السريعة.
صديقك المخلص دهناش الطفشان.
وأعاد البرقية إلى الموظف. أرجع له وصل الإستلام…دقق فيه جيداً. أحس أنه ضاعف البرقية وعندما سأله: كم أجرة الكلمة؟ واقترح عليه أن يراجع حساباته استشاط الرجل غليظاً….واكفهرت بدلته الداكنة، وصرخ شاتماً: دين باباها هادي خدمة…واش هادي القوادة……راك تشك بي…واش ما كانش الأمانة.. احشم شوية**.
فاعتذر منه وطلب السماح: راني خاطي…يرحم باباك اسمح لي….هات رأسك الطاهر لأقبله….أنت الأمين النزيه، وأنا الشكاك اللئيم..السماح يا خويا السماح.
وخرج مذعوراً….ولم يصدق كيف نجا…وحمد الله وأثنى عليه….وتأكد أنه لو لم يطل الصلاة في مسجد باب الواد، لداسه هذا الموظف بأحذيته الطاهرة شر رفس، وخرج،وهبط إلى شارع ديدوش مراد.
كانت دور السينما تشتغل مبتهجة تحت أضواء النيون التي وضعت فوق الصور شبه العارية الملونة، وكانت دعاية الفلم الأمريكي، تتلألأ: دمر….احرق….لتحصل على امرأة كالشهد وحفنة من الدولارات…إنه فلم فلم الموسم…أضخم انتاج سينمائي عرفته هوليود في تاريخ السينما…لا تدعوا الفرصة تفتكم.
قطع شارع ديدوش مراد وانحرف يساراً إلى شارع محمد الخامس، رأى مطعم " وهران سنترال"…هي رائحة الكسكسي الشهية…..أفخر أكلة شعبية تعرفها البلاد طولاً وعرضاً، تحبها أباً عن جد…طلب صحناً من الكسكسي، وآخر من شوربة العدس…..وبشهية أكل…..ولم يستطع أن يعرف فيما إذا كان طازجاً أم قديماً…..وفي المساء هبط عليه الصداع، وتقيأ كل ما أكله….ولعن النساء في البليدة وحجوط وباب الواد*** لأنهن يغششن الكسكسي، ويبعنه قبل أن يفتلنه، ويعرضنه لأشعة الشمس جيداً.
المساء هادئ شفيف…سكينة تهبط على الروح والجسد…حمى البيع والشراء تهدأ قليلاً بعد أن أتخم التجار، وأقسموا بالله الأيمان الغلاظ كذباً وبهتاناً، وغشوا في بضاعتهم، وربحوا أرباحاً مضاعفة… السكارى يتمايلون، بعد أن بردت البيرة المثلجة والباستين أعصابهم المتوفزة، فبدو أكثر رقة وهم يقذفون مؤخرات النساء وصدروهن بالغزل الحزين المنكسر الذي اعتادت عليه هاته النسوة، فألفنه وأحببنه….
المواهقون يتكدسون أمام دور السينما…والنساء الفاتنات بقاماتهن الممشوقة كنحيل الأوراس يتبخترن….وقد أقسمن جازمات أنهن أنضر وأشهى نساء المعمورة طرا……أصحاب سيارات الرينو والبيجو الحديثة جداً، والمستوردة من باريس ومرسيليا، يرابطون مزهوين بسياراتهم عند مفترق الزنقات والمنعطفات…..ويعتقدون بأن شباكهم ستمتلأ بالمزيانات العامرات بالشهوة والألق.
شاهد سيدة جميلة تخرج من ملهى "جبل طارق"…كانت تهتز بثقة وعظمة….وتأكد أن الرأس الجميل معتمر الآن بأطياف الخمرة ووهجها…..كان ثوبها الأخضر القصير يتفرج من مؤخرته عن شق طولي….تبان من تحته سهوب خضراء،م ترعى فيها إبل وحمر وحشية شموص….وبالرغم من أنه كان يعرف نفسه وقدراته….وأنه أغبى رجل على هذه الأرض في فن اصطياد النساء واستهوائهن، فحسه الإيدلوجي المتشنج دائماً كان منفراً لكل امرأة، تقترب منه، أو تفكر به عشيقاً أو زوجاً، فقد قرر أن يتبعها…كانت سريعة….وكان أسرع منها..وعند سينما الهقار اصفر لونه، وازدادت ضربات قلبه…وأحس أن الأرض تنشق وتبتلعه….وهمد كل صراخه الثوري، وهو يهتف عالياً في المظاهرات والإضرابات منادياً بإعلاء راية الحق والخير والفضيلة، والغاء التفاوت الطبقي، وأحس بدونية تطمسه في وحول الحراش *ومستنقعاتها العطنة، فاضطرب وتلعثم، وخانته جميع اللغات والإشارات، وتأكد أن أي تلميذ في مراحله الأولى يتقن استخدام اللغة أكثر منه. وأحست به المرأة، فتوقف. وقالت:
- واش بيك..اك تبع بي…..واش تبعني…..واقيلا ما عندكش ما تهدر**.
- مدام….من فضلك دقيقة واحدة.
مشيا…..كانت رائحة عبقة تقطر شهية منها…عطور وكحول وغربة وحرمان، وجميع الإحباطات التاريخية المزمنة هاجت في خلاياه .تحدثا.
- لا تعذب نفسك..أريد ألفي دينار لليلة الواحدة.
- لكن هذا كثير يا مدام.
- وماذا تفعل الألفين؟….إنها لا تشتري فستاناً.
عجباً…ماذا الألفين عند هذه الحسناء الملونة؟…وتحسس تذكرة طائرته التي تساوي العالم كله…. إنها تساوي ألفين ومئتي دينار….أمعقول أن تكون هذه البطاقة الرائعة….الحلم الأبدي…لا تساوي إلا ليلة واحدة مع هذه المرأة؟.
وقالت المرأة: بع البطاقة واتبعني.
- واللات والعزى، وجميع أصنام العرب وآلهتهم القديمة والحديثة لو وهبوني وجميع نساء المعمورة. وربع حوريات الجنة، لما بعت بطاقة سفري.
تركها معتذراً….ابتعدت عنه….وشامخة هادئة دخلت مقهى اللوتس….أجمل مقاهي المعمورة، الغاص بطالبي الجنس والحشيش والمخبرين واللاجئين السياسيين.
المساء طويل…الليل طويل..غبش أسود يستوطن قلبه…خنازير برية تنهب زروعه..طيف والدته ينهره موبخاً..تتمزق اشرعته….لا أب…..لا أم…..لا أخ….لا حبيبة ولا زوجة….لا كفن يظلله….لا عشيرة ولا قبيلة يحتمي بأفخاذها وبطونها….مطروداً حزيناً من رحمة ناسه وتاريخه….وبكى وتاه في الشوارع….وسيظل يتوه إلى أن يبدل الله هذه الأزمنة بأزمنة جديدة، الليل طويل، والشوارع تغص بالشبق الأنثوي التائه في الحانات والمراقص ودور السينما، والوحشة تضغط أضلاعه…….ولم يحن النوم.
وقف في الطابور أمام سينما دنيازاد….كانت دعاية الفلم تؤكد أنه مثير…ويشد الأعصاب والنفوس لساعتين متواصلتين….وفوجئ…إنه من أرخص الأفلام التي شاهدها وجميع أحداثه لا تتجاوز بعض المغامرات العاطفية لامرأة منتفخة انتفاخاً قبيحاً مع رجل أعمال متورط في تهريب عملات ومخدرات وخادمات من الفلبين، وأمام صفير الناس وإعجابهم بهذا الفلم الأسطوري….أحس بالتقيؤ من جميع النساء، وخرج.
كانت الثانية عشرة….توجه إلى فندق النخيل، ودخل حجرته المشتركة مع شابين طافشين…كان الأول مسافراً إلى السعودية ليكمل نصف دينه ويؤدي العمرة….وكان الآخر طافشاً إلى اليمن السعيد، حيث السعادة الأسطورية، وصروح بلقيس،والنساء المبرقعات المكللات بتيجان سبأ ومأرب وعدن والمعلا وحضرموت، وغفا واستسلم، وهجمت عليه الأحلام شفيفة من واق الواق، والجزر البعيدة النائية…واستيقظ ليكتشف أن جميع أحلامه سراب أبدي.
عند سلم الطائرة وقفت المضيفة الشابة توزع الابتسامات المكللة بالأشعة الحمراء والزرقاء .. وكانت تعرف أنها تبتسم بخبث لهؤلاء المسافرين .. فشركة الطيران العريقة علّمتها أن تكون دمية جميلة ملونة، حتى يثق الزبائن المغفلين بشرف أصول هذه الشركة وعراقتها التقليدية.
وجلس في المؤخرة .. ومن زجاج النافذة راقب المدينة وهي تبتعد بملاهيها وبناياتها البيضاء الشاهقة، وآخر ما شاهده المجمع المركزي الحكومي، وهو يشع بأطياف دعايته الجميلة المتوهجة : (( ونستون الكمال في المتعة .. ونستون كنج سايز الذوق الرفيع .ز ونستون للرجل العصري .. ونستون النكهة الفاخرة ))
أمامه شابة عربية سمراء تقرأ .. ودّ التحدث إليها ماحياً ضباباً حزيناً غطاه .. لكنها قابلته بكلمات موجزة فيها كثير من العجرفة والتأنيب . اعتذر مبتسماً .. جحظت عيناها .. انفجر فيهما قرف من الكلام والحديث والاعتذار .. وتذكر المرأة التي طلبت منه ألفي دينار، والتي كانت لطيفة وهي تساومه .. أشعل سيجارة (( طارق )) .. ومن على زجاج النافذة أخذ يراقب الأراضي البور الشاسعة .. وهي ترقد كسلى .. يعلوها خنازير وجثث ميتة .. وأنهار عطنة .. دغدغته الأحلام، فحضرت البحار والرمال وأمه، وسلال القمامة المنتفخة بالنساء وكتب الإيديولوجيا .. وأصوات جياد وأحصنة لا ينقطع صهيلها، وأقامت كرنفالاً في شاشات ذاكرته .. فغفا . أيقظته المضيفة .. اربط حزامك .
سيداتي .. سادتي .. نرجو ربط الأحزمة والامتناع عن التدخين .. سنهبط في مطار ( كازابلانكا) بعد دقائق قليلة .
اصطف مع الناس .. طابور طويل .. صراخ أطفال .. همهمات نساء تنضح تعباً وسفراً وخوفاً . . أصوات رجال الشرطة وهم ينعون شاتمين الناس والطائرات، والركاب الحمير الذين لا يعرفون قيمة النظام .. والأمهات الغبيات اللواتي أنجبتهم .
ملأ بطاقة الدخول الحمراء، وقدمها للديك المنفوش وراء الحاجز، فرمقه بقسوة .. وصاح عليه، وهو يقطّع البطاقة مزقاً ويقذفها بوجهه .
- عمّر الكارتة بالرومية .. ما تعرفش الرومية ؟ .. عربية تع شبكي .. عرب خماج*.
كانت صالة المطار غاصّة بالنساء اللواتي يودعن أزواجهن، ويستقبلنهم، مكللات بالفرح ن مبتهجات بجيوبهم المنتفخة بما لذّ وطاب .. تأمل الوجوه .. ما بان طيف صديقته .. توجه إلى إذاعة المطار .. وناداها باسمها مرات .. وانتظر ساعتين وما بانت .. وسيظل يفتش عنها في الشوارع والحانات والجامعات لسنوات طويلة، وعندها يجدها ستتنكر له تماماً وتسخر منه، وتقول له : لم أعرف شخصاً باسمك طيلة حياتي .
ركب الحافلة الحمراء .. هي ذي كازابلانكا تتفتح وردة بيضاء .. هو ذا البحر يحاصرها .. هي ذي المراقص والخمارات، وبائعي الهيروين .. هي ذي المقبرة التي تطوي عظماء شفشاون، وجنود ابن تاشفين .
توقفت الحافلة في ساحة الشهداء .. تائهاً هبط .. طوابير كثيرة تصطف أمام مواقف التاكسي والحافلات .. ولاحت له جميع المدن العربية السوداء بغبائها وطوابيرها وتخلف مرورها وساحاتها .. لا فرق بينها . هنا كلّ ما خلق ربي من فوضى وأمراض ومتسولين .. ورشاوى ومحتالين ونصابين .. ورجال شرطة فاسدين وجهلة .. ومتسلطين لا همّ لهم إلا دبّ الذعر في نفوس مواطنيهم واحتقارهم والتجسس عليهم .. وجامعات بليدة تخرج الآلاف، وتقذفهم عراة كما جاؤوا . وهبطت سحابة ثقيلة كئيبة .. ولفت المدينة، وأمطرت قلبه الصغير بالرماح والمدى، والقلق الوحشي، بينما كانت نساء فارعات يتلفعن بجلابيب سوداء ومزركشة، ورجال يبصون عليهن بعيون ثاقبة مسعورة .. وصفارات رجال بوليس تملأ الفضاء زاعقة على الذين كانوا يخالفون الإشارات الضوئية .. وشباب متسكعون يغمزون للغرباء والسياح : باغي حاجة يا شريف .. باغي تبدل الدراهم ديالك .. باغي الكيف .. كل ا كاين .. وما كاين حتى مشكل *.

الدار البيضاء / المغرب
* من الدارجة : املأ البطاقة بالفرنسية .. ألا تعرف الفرنسية .. لغة عربية لا تساوي شيئاً .. عرب متخلفون
* هل تريد شيئاً يا سيدي ؟ .. هل تريد تبديل نقودك ؟ .. هل تريد حشيشاً ؟ .. كلّ شيء موجود ولا يوجد حتى مشكلة . من الدارجة .


محمد عبد الرحمن يونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى