حيدر العايب - ما معنى أن تفكر في ذاتك؟

أولا: سؤال الإنسان في محطات ثلاث:
عرف نمط التفكير الفلسفي القديم _ما قبل السقراطي إذ ما أخذنا بالتحقيب النتشوي_ توجها نحو الوجود لمساءلته كشفا لكنهه وأسراره في علاقته مع الإنسان ومكانة الإنسان فيه. لكن مع سقراط شهد التفكير الفلسفي منعطفا مغايرا البتة، قوامه التوجه صوب الإنسان ذاته وفقا لشعاره "اعرف نفسك بنفسك"، تحول بموجب ذلك جغرافيا النظر من التفكير في الوجود إلى التفكير فيالأنا، حتى قيل أنّ الفلسفة نزلت من السماء إلى الأرض، أي من التفكير في الكون الفسيح إلى التفكير في الإنسان ذاته، وأوّل مرة مع سقراط، بات الإنسان موضوعا لذاته السّؤُولة.
في الفلسفة الحديثة كان الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804) وضع أسئلة ثلاث بمثابة توليف لنسقه الفلسفي العام؛ ما الذي يمكنني أن أعرفه؟ (سؤال المعرفة)، ما الذي يمكن أن أفعله؟ (سؤال الأخلاق)، ما الذّي آمله؟ (سؤال الإيمان). لكن على نحو ما يبدو أنّ كانط كان يرى نقصا في ذينك الأسئلة الثلاث، نقصا يعتري مكانة الإنسان في كل الأنساق الفلسفية الحديثة وليس نسقه فقط، إنّه سؤال الإنسان، لذا أضاف سؤالا رابعا؛ ما هو الإنسان؟ (الانثروبولوجيا)، لتكتمل بذلك أطروحته الفلسفية من جانب، كما أعاد كانط الاعتبار للإنسان ليس كذات مفكرة بل كموضوع للتفكر الفلسفي من جانب آخر.
أما خلال الحقبة الفلسفية المعاصرة فكان سؤال الإنسان هو الغالب وبلا منازع، فمع الفلسفات الرومنسية والوجودية، من كيركوجورد وصولا إلى هايدجر، كان مدار الرحى، الإنسان، فاستحالت الفلسفة من الأنطولوجيا إلى الأنثروبولوجيا ومن اللّاهوت إلى الناسوت.
كانت تلك محطات ثلاث في كل مرّة يتم فيها استدعاء الإنسان للمساءلة الفلسفية إن في مساءلة ماهيته مع سقراط أو في مساءلة قدراته وملكاته مع كانط وإن في مكانته في الكون مع الفلسفة الوجودية.
لكن كيف هو الحال مع الفلسفة الإسلامية؟ الحديث عن ماهية الإنسان له مركزية ضمن التراث الفكري والأخلاقي للفكر الإسلامي، فهي ليست بالمستحدثة والجديدة بل تضرب بجذورها في التراث الإسلامي الكلاسيكي سواء من طرف المتكلمين أو المتصوفة أو الفلاسفة؛ أين تجدنا نتحدث عن المتكلم المعتزلي أبي هشام الجبائي الموسوم بــــ "الإنسان"، وكذلك المتكلم عبيد الله بن الأنباري الشيعي في كتابه "البيان عن حقيقة الإنسان". وكتب الفلاسفة مثل الكندي بكتابه "مائية الإنسان"، وتلميذه السرخسي بــــ "سيرة الإنسان". أما المتصوفة فنجد على رأسهم ابن عربي في كتب عديدة عن الإنسان؛ "البيان في حقيقة الإنسان"، "نسخة الأكوان في معرفة الإنسان"، "الميزان في حقيقة الإنسان". كذلك المتصوف عبد الكريم الجيلي في كتابه "الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر".[1]
طبعا، لسنا بصدد المقارنة بين التصور الإسلامي ونظيره الغربي، في تصورهما للإنسان، بل الأمر يتعلق بموقع الإنسان ومكانته من البحث الفلسفي بصفة عامة.

ثانيا: استراتيجية الأنا في التفكير في أناها:
ينبغي للوهلة الأولى التمييز بين أربع أنماط من التفكير، مثنى مثنى، التفكير التبريري مقابل التفكير النقدي، ثم التفكير بالوصاية مقبل التفكير المستقل.
أما النمطين الأوّلين؛ الطرف الأول منهما هو التفكير التبريري، وهو تفكير سلبي أساسا يموضوع الذات/ الأنا خارج كل مساءلة نقدية، هدفه الأساسي تبرير أفعاله السلبية منها خاصة، وله في ذلك آليات: ادعاءه تمام المعرفة والقدرة على الإتيان بالأفعال على الوجه الصحيح. أيضا، رفضه لتوجيهات ونصائح الآخرين حتى وإن أخذ بها فيكون ذلك خفية دونما تصريح. كذلك، ادعاءه أنّ القصور في أفعاله لا يرجع لذاته بل للظروف المحيطة به كقصور الأدوات وعدم مناسبة الظروف الزمكانية بل اتهامه للآخرين بالوقوف كعائق أمام مشاريعه.
أما التفكير النقدي ونعتبره نظرا إيجابيا للأنا لأناها، إذ صاحب هذا التفكير دائما ما يسعى لمساءلة ذاته ونقدها ونسبة القصور إليها في حالة الفشل وعدم الرضى عليها في حالة النجاح، فيطمح للاستزادة وعدم الرضى بقليل منجزاته؛ وله في ذلك آليات؛ البحث في ذاته عن قدرات نجاحه (التنمية البشرية مثلا)، اختياره للشخصية القدوة، التوجه لنقد ذاته بدل نقد الظروف المحيطة به.
صحيح هنالك بعض الملابسات التي تحيط بهذا النط من التفكير ومحاولة تسييسه، إذ معلوم أنّ النزعات الليبيرالية والرأسمالية تدعم نشاطات التنمية البشرية لنسبة القصور إلى الذات/ الفرد لا إلى المجتمع والحكومات، وذلك تبريرا للوضع السائد، وكذلك كردّة فعل على التيارات الاشتراكية والحركات الثورية المطالبة بالتغيير، لذلك فالتفكير النقدي قد يكون بدوره إيديولوجيا تبرير للوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي القائم، فبدل التوجه لنقد المجتمع والحكومات كظروف محيطة يتم التوجه صوب الأنا وتحميلها مسؤولية الفشل والإخفاق وإن كان منها النجاح فسيأتي الاستثمار فيها لصالح الأنظمة تلك.
لكن هذا لا يزيد عن تجاذبات إيديولوجية لا تحظى بوافر إقناع إذا ما نظرنا لإيجابيات التفكير النقدي الذي من شأنه تفجير قدرات وطاقات تعمل بغض الظروف المحيطة.
أمّا عن النمطين الأخيرين؛ يأتي الطرف الأول وهو التفكير بالوساطة كأحد أشنع وصاية على الإنسان لأنّها تأتي أساسا لمصادرة قدراته وحرياته الفكرية وفق سلطة أبوية ملزمة وقاهرة؛ ولهذا النمط هو الآخر آليات؛ منها التشكيك في قدرات الأنا وتعظيم قدرات الوصي الفكري سواء كان هذا الوصي فردا أو جماعة أو نموذجا حضاريا. ومنه، الاستعانة بآليات الدعاية التي تزيد من عرض قدرات الوصي خاصة في ظل تقهقر ظروف المُوصى عليه. احتقار واستصغار وحتى ابعاد الموصى عليه من ابداء الرأي باعتباره صغيرا أو قليل خبرة وتجربة أو أن بدائله لا تتماشى والظروف المتاحة... والمشكلة أنّ هذا النّمط قد يبدأ من الأسرة في حالة منع الولد حضور مجتمعات الكبار أو اسكاته إن أبدى رأيه أو استبعاد الفتاة أو المرأة لاحتكار الرجال سلطة القرار... وصولا إلى الأفراد والمجتمعات فالأمم.
بقي الطرف الثاني من هذا النمط؛ أي الاستقلال الفكري فعليه قام عصر الأنوار وأكثر من بسط فيه الكلام الألماني إيمانويل كانط حيث جاء تعريفه للأنوار في قوله: "إن بلوغ الأنوار هو خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه، والذي يعني عجزه عن استعمال عقله دون إرشاد غيره... تجرأ على أن تعرف، كن جريئا على استعمال عقلك أنت، ذلك هو شعار الأنوار"[2].
بمعنى أنّ نهضة أمّة تأتي انطلاقا من ابداعها الخاص لمفاهيمها ورؤيتها للحياة لا من تدبر غيرها لها.

ثالثا: فيما يقارب الخاتمة:
مما تقدم نستنتج وجود أربع أنماط من القيم، مثنى مثنى، التفكير التبريري في مقابل التفكير النقدي، ثم التفكير بالوصاية في مقابل التفكير المستقل، هذا التقابل النِّدي يولّد تقابلا آخر، التفكير التبريري قرين التفكير بالوصاية فحيث ما وجد الأول وجد الثاني والعكس، ثم التفكير النقدي قرين التفكير المستقل فحيث ما وجد الأول وجد الثاني والعكس.










[1] محمد الشيخ: أركون والنزعة الإنسية في التراث العربي و الإسلامي، ندوة فكرية : قراءات في مشروع محمد أركون الفكري، تحرير: محمد العتوم، جامعة الحسن الثاني، المغرب، منتدى المعارف للطباعة و النشر، بيروت، 2011، ص 123.
[2].إيمانويل كانط. ما هي الأنوار؟ (ثلاثة نصوص: تأملات التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير؟)، تر: محمود بن جماعة، صفاقس: دار محمد علي للنشر، ط1، 2005، ص 85.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى