تماضر وداعة - أديب في أسطري المتواضعة..

أديب في أسطري المتواضعة.jpg

يا غيزن الفيحاء يا قلب تونس الخضراء النابض بالخير والعطاء ،يا مهد الذكريات ، يا مرفأ الحضارات ، يا موطن الفخر و الكرامة و الحريات . من هذه القرية الوديعة ذات الأصول الصّنهاجية الضّاربة في العراقة و القدم اخترت لكم قاصّا لامعا ، ذائع الصّيت (عبد الفتاح بن سالم القرقني ). هو رجل ثقافة، مسلم مولع بالأدب والمسرح. كان عضوا في بيت محمود درويش للأدب الكائن بالمركز الثقافيّ المتوسّطي في حومة السوق بجزيرة جربة ثم استقال منه عن مضض بسبب خلاف نشب بينه وبين بعض أعضائه حول طريقـــــــــة تسييـــره و تصريف شؤونه.
أغلب القصص التي كتبها كانت شبابية تتعرّض للعلاقات العاطفية عند أبنائنـــا و ما فيها من هزات و انتكاسات.
* كتب بقلم متمرّد ثائر على القيم ينفض حبره في صلف وتحد و كبرياء و عناد
و هذا في حدّ ذاته اختيار صعب لكن يجد فيه كثيرا من الإلهام والإبداع والحرية في الكتابة .
حسب نظره الحرية ليست تفسّخا أخلاقياّ أو فلسفة إباحية ماجنة إنما هي مرحلة فكرية هدفها تحرير العقل من التقاليد البالية و العادات الموروثة التي فقدت صمودها و بالتّالي شرعيّتها أمام عتوّ تيّار التطوّر و زخم تناقضات المجتمع و صلف الثورة التكنولوجية . و على أنقاض هذه الأطلال الكرتونيّة ، الهشّة نشأت قيم جديدة تتناسب مع تطور الفكر البشريّ الحديث و طموحات الإنسان و رؤاه الّتي ليس له آخر . و لا عجب إن أخطأ الإنسان و أساء التّقدير أو اعتراه فتور شديد و شيء من الانهزام و الإحباط فكلّ بني آدم خطاء و حياة الإنسان مبنيّة على المحاولة و الخطإ . على أيّة حال فبعد العسر يسر و بعد الظلمات نور و بعد العثرات ثبات و بعد التشاؤم تفاؤل يستحثّ الإنسان الكادج للمضيّ قدما إلى الأمام أين المجد و الرخاء و سهولة العيش و نقاوته .
حتّى لا تملّوا من الإطناب في التّحليل اخترت لكم أقصوصة رائعة عنوانها منيرة والبحر :
ذات أصيل مشمس ، نفضت منيرة بأناملها الرّقيقة ضريعا عالقا بصخرة مستوية ، كثيرة الثّقوب كأنّها إسفنجة و جلست عليها راجية أن تشعر بفيض من الرّاحة بعد يوم شاقّ على مقاعد الدّراسة بالجامعة . تفحّصت حذاءها الرّياضيّ الّذي هرّأه المشي و أبلاه الطّريق الفاصل بين منزلها و ميناء سيدي زايد ثم خلعته على مهل و وضعته بجانبها حتّى لا تجرفه المياه و ترحل به بعيدا و بعيدا .
ها هي تهيم في تأمّل البحر السّاكن ، الصّقيل كالمرآة بعينين مترعتين بالإعجاب و قلب طافح بالغبطة دون أن تغفل عن تحريك ساقيها البضّتين النّاعمتين في مياهه الصّافية ! ما هذا النسيم الرّقراق ؟ ما هذا الهمس الوديع للموج ؟ ما أروع البحر حين يطلّ عليه العشّاق وما أشد ظلمته حين تطلّ منه الذكريات وتنكسر على ضفافه الأحلام!. كم كانت تتمنّى أن يكون عشيقها خالد بجانبها يكسر شوكة وحدتها بمزاحه و مداعباتـــــــــــــه و ضحكاته الرّنّانة فهو ممراح ، طروب ، خفيف الظّلّ لكن مع الأسف الشّديد فهو بعيد عنها يشتغل تاجرا في سوق العطّارين قرب جامع الزّيتونة المعمور! .
انبرت منيرة تحدّق في البحر برومانسيّة ساحرة تترجم مدى شغفها بجمال الطّبيعة فلا غرابة أن تكون على هذا النّحو بما أنّ الله سبحانه و تعالى قد وهبها حسنا فائقا و قدّا ممشوقـــــــــا و خيالا خصبا و إحساسا رهيفا ، راقيا يؤهّلها أن تكون في يوم من الأيّام رسّامة بارعة ، متألّقة لها عبقريّة خلاّقة ، مجنّحة : هذه قوارب راسية على الشّاطئ تحوم حولها نوارس مزدانة ، شجيّة الأصوات ، لا تتوانى في البحث عن سمك يدفع عنها غائلة الجوع . و في تلك الأعماق قرب رأس الرّمل سفن شراعية سريعة الحركة على متنها بحّارة شجعان خبروا البحر و ألفوا الصّيد فيه دون كلل أو ملل يحدوهم صبر جميل و أمل نيّر . إن يحالفهم الحظّ تمتلئ شباكهم بالأسمــاك و تكتنز جيوبهم بالأرباح الطّائلة و إن يشحّ البحــــر و يقتّر عليهم الرّزق يعودوا بخفّي حنين جارّين أذيال الخيبة.
و بينما هي كذلك تتأمّل ذلك البحر الممتدّ أمامها في انبهار و هي تصغي إلى موسيقى عربيّة ، عذبة عن طريق هاتفها الجوّال إذ لاح لها صيّاد مديد القامة ، نحيف الجسم ، على ما يبدو من خلال ملامحه أنّ سنّه أناف عن الثّلاثين . نزل من زورقه الصغيــــــر و طفق يشقّ عباب البحر في ترنّح و هو مشمّر على سرواله المتهرّئ الّذي ابتلّت أطرافه . كان خفيض الرّأس ، بطيء الخطو ، يخفي في صدره أسى شديدا و يحمل على كتفه سلّة ملآى بالأسماك الطّازجة .
و ما إن أشارت إليه منيرة بسبّابة يدها اليمنى حتّى استجاب لندائهـــا دون تردّد و هو باسم الثّغر ، طلق المحيّـــا . و فور وصوله إليها حيّاها في أدب و بقي يسترق النّظر إليها و هو شارد الذّهن من خلال ثقوب مظلّته السّعفيّة البالية فبدت له فاتنة ممشوقة القوام ، ضامرة الخصر ، آية في الحســـــــن و قمّة في الجمال . لهذه الفتاة الهيفاء وجه مستدير كالبدر به مقلتان زيتيّتان و أنف دقيق شامخ في الفضاء و ثغر منبلج البسمات تطلّ منه أسنان مرصّفة ، ناصعة البياض كأنّها الثّلج . ليتها تكون زوجته تواسيه في الرّخاء و الشّدّة فيزول تبرّمه من الحيــــــاة و يرنو إلى الشّمس المضيئة ساخرا من فداحة الفقر و مقت الحرمان و تعثّر الطّالع و خيبات الأمل الّتي تلاحقه مثل ظلّه !
تفرّست منيرة ذات العشرين سنة في وجهه القمحيّ و عينيـــــه العسلتيــــــــــن و أطماره الباليــــــة دون اشمئزاز و هي تداعب بأصابعها النّحيفة خصلة صفراء متمرّدة فوق جبينها الوضّاح ثمّ شرعت في الحديث معه بكلّ تلقائيّة .إنّ على وجهها بشرا و في بريق عينيها فـطنة و على لسانها قولا جميلا ،ساسا ، عذبا قد يذكي انبهاره به و انفلات أحاسيسه النّاريّة المتوهّجة. .
– « هل كان الصّيد وفيرا هذا اليوم ؟ »
– « كما ترين يا سيّدتي فسلّتي و الحمد لله ملآى بالسّمك و الحبّار»
– « اجلس بجانبي لنيل نصيب من الرّاحة بعد عناء الصّيد »
– « بكلّ سرور لكن ما اسمك فأنا اسمي بشير »
– « اسمي منيرة و لكنّني بين أهلي و رفاقي أكنى بـــ « منّو» . من فضلك كم كتلة هذه الأسماك الطّازجة ؟ »
– « حسب التّقريب خمسة كيلوغرامات »
– « بعني إيّاها بأيّ ثمن تقترحه عليّ »
– « أيّتها الحسناء هذا السّمك سيكون هديّة متواضعة لك »
– « يا لك من جواد لكن أنا لا تسمح لي عزّة نفسي بأخذ هذا السّمك دون مقابــل »
أدارت منيرة يدها في جيب سروالها الأزرق فلم تعثر إلاّ على دراهم معدودة لا تفي بالحاجة في الوقت الحاضر . سكتت دقائق معدودة و هي منغمسة في تفكير عميق ثمّ أردفت قائلة و هي في أوجى تحسّرها :
– « مع الأسف الشّديد فأنا لا أملك الآن إلاّ بضعة دنانير فهل تقبل المقايضة ؟ »
– « ماذا تعنين بكلمة مقايضة ؟»
– « سأبادلك تلك الأسماك بهذا الهاتف الجوّال الأحمر اللّون من نـوع ( سمسونغ ) بعد تخليصه من شفرته و بطاقة ذاكرته فما رأيك في هذا الاقتراح ؟ »
– « اقتراح وجيه فأنا لا أجرؤ على مناقشتك فالمهمّ بالنّسبة لي أن تكوني مبتهجة ، سعيدة »
في الحين تسلّم بشير الهاتف الجوّال و أودعه في جيب قميصه و هو يكاد يطير من شدّة الفرح ثمّ احتسى كأسي خمر من قارورة «مرناق» كانت مدسوسة في القفّة تحت السّمك . امتعضت منيرة من وقاحته و استوت قائمة محاولة الفـرار و هي تنعته بأبشع النّعوت :
– « أيّها الحقير كيف تسمح لنفسك بشرب الخمرة أمامي ؟»
– « إنّها تجلّي عن النّفـــس الحزن و الكدر و تجلب إليها المسرّة و النشوة . هل أملأ لك كأسا من هذه الخمرة اللّذيذة ؟ »
– « لا و ألف لا . إن الهروب من الهموم والأحزان ليس حلاً ولكنّ الحلّ يكمن في علاج المشاكل بحكمة و رويّة . فيما يخصّ السّرور الّذي تجلبه الخمرة لشاربها فهو سرور مزيّف حينيّ يعقبه إحبــــاط و شجن و ذلّ و تحسّر »
– « لا داعي للوعظ و الإرشاد فنحن لسنا في جامع. هيّا استمتعي بجرعات من هذه الخمرة فهي لن تسكرك »
– « تبّت يداك أيّها الرّكيك فمتى كنت أشرب الخمرة فأنا لا أتحمّل حتّى النّظر إليها ؟ هيّا اغرب عن وجهي لأنّ رائحتك كرائحة النّسناس »
لم يتحمّل بشير المذلّة و الطّرد فانتفخت أوداجه واختلج جفناه و تطاير الشّرر من عينيــــــــــه و انفرجت شفتاه في عصبيّة:
– « ما هذا الشّتم المقذع ؟ الرّجل لا يهان لا يهان »
– « أعوذ بالله … أعوذ بالله … أنت شيطان رجيم تغويني و تغريني بأمّ الخبائث »
لوى لها يدها في عنف صارخ حتّى كاد يخلع كتفها و اختطف منها في طرفة عين قبلتين مرصوصتين في نكهة العسل و حاول أن يضمّها إلى صدره ضمّا شديدا للنّيل من شرفها لكنّها صدّته بكلّ ما أوتيت من قوّة و عفّة دون أن تستسلم لغرائــزه البهيميّة و نواياه الدّنيئة .
ها قد انتصرت منيرة انتصار الأبطال على هذا الوحش الكاسر الّذي سوّلت له نفسه تدنيس شرفــــــــها و نشب براثنه في جسدها الطّاهر. إنّها لطمته بأعجوبة مذهلة لطمة قاسية كادت تسقطه و ترحل به إلى عالم الأموات ثمّ طرحته أرضا و مرّغت وجهه في الرّمل و دسّته فيه كما تندسّ الأفعى في رمال صحرار دوز.
لم يستسلم بشير لليأس و لم يذعن إلى الهزيمة بأيّة حال من الأحوال بل استجمع قــــــــواه و انتصب واقفا كالصّلّ و هو يرغـــي و يزبد و يتوعّدها بالانتقام :
– « الويل لك لن تفلتي من قبضتي أيّتها الفاسقة ، العاهرة . سأمعّكك كما أشاء في هذه الرّمال الزعفرانيّة و أنال مبتغاي في منتهى اليسر و السّهولة ثمّ أشجّ رأسك بقاع هذه القـــــــــــارورة . و عند تيقّني من موتك أرمي بك في اليمّ لتكوني لقمة سائغة للحيتــان »
– « أيّها المجرم إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت . أنت فعلا وغد من الأوغاد هذا الزمان العاثر »
– « سأريك ما يفعل الرّجال يا بذيئة اللسان و عديمة المعروف و الإحسان »
و عندما سمعت منيرة هذا التّهديد الشّرس تحصّنت خلف سفينة حديثة الطّــــــــلاء لم يجفّ بعد دهنها الأزرق و الأبيض . حدجته بنظرات حادّة فيها كثير ا من التحــــــــــدّي و الجرأة .أمسكت حجارة مذبّبــــــــــة و همّت بتفضيخ جمجمته أفظع تفضيخ كي يكون عبرة لغيره لكنّها في آخر لحـــــــظة استعاذت بالله من كلّ شيطان رجيم و عدلت عن ذلك السّلوك الأرعــــن الّذي يمكن أن يشوّه سمعتها بين النّاس و يدخلها إلى السّجن .
من ألطاف الله صحا بشير من سكره فكظم غيظه و حنقه و استعــــاد توازنـــــــــه و هدوءه و افترّ ثغره عن ابتسامة عذبة . أزال العفر عن وجهـــه و دنا من منيرة بخطوات ثابتة خالية من الترنّح و التعثّر . كان يلوّح لها بيده مبتسما و هو ينطق بكلام معسول نابع من الوجدان الغاية منه العفو و تهدئة الخواطر:
– « هل تسمحين لي بأن أقبّل يدك »
– « لا فأنا أخاف من غدرك »
– « من الآن اعتبريني صديقا حميما »
– « لك ما أردت غير أنّني أنصحك بأن لا تكون فظّا غليظ القلب بالخصوص مع النّســاء »
– « هل عفوت عنّي رغم كلّ ما حصل بيننا في شجار و تناحر ؟»
– « نعم و أنت هل ستسامحني؟ »
– « بلى إِنَّ الله عُفُوٌّ كَرِيمٌ يحِبُّ الْعَفْوَ »
– « يدي ممدودة تنتظر قبلاتك النّقيّة فلا تكن نهما شهوانيّا »
– « ما أحلى هذه القبلات و ما أنبل العفو عند المقدرة »
– « هل تعرف أنّ المرأة كالنّحلة تصنع العسل إذا أحبّت و تلسع إذا كرهت ؟ »
– « لا أعلم بذلك و من الآن فصاعدا عليّ بالاستقامة حتّى أتجنّب لسعاتك المؤلمــــــــة . آن الأوان أن أودّعك أيّتها الصديقة الفاضلة ثمّ أنصــرف »
– « إلى لقاء آخر من وحي الصّدف فربّ صدفة خير من ألف ميعاد »
و جاء الغروب ليكمل تزويق اللّوحات الرّومانسيّة الّتي حاكها البحر بأمواجـــه و هو متربّع على عرشه . ها هي منيرة تتمعّن في الشّمس و هي تسعى إلى مغربها جارّة فستانها الأحمر في خجل . غاب قرص الشّمس في خيلاء مودّعا الأفق الجميل فانتشى الشفق بلون الورود و أمواج النّسيم . تسلّل الليل البهيـــــم إلى هذه الرّبوع الفيحاء و هو يتبختر في مشيته متباهيا بثوبه الأسود القشيب الّذي تناثرت عليه أزهار الفلّ و الياسمين . لقد أنبأت لحظات الغروب سميرة بأنّ النّهايات أكثر حرارةً من البدايات، وأنّ ساعات الوداع أكثر حرقةً من ساعات التهليل والاستقبال.
و ما إن أرخى اللّيل سدوله و سحب الظّلام في الكون ذيوله حتّى انتابت محمّدا حيرة شديدة فالتحق سريعا بابنته منيرة على متن سيّارته الفخمة . أبصرها تسير بخطى حثيثة على المسلك الرّياضيّ المحاذي للبحر و في يدها سلّة .أوقف سيّارته على قارعة الطّريق و دعاها للركوب و هو عابس الوجه ، مقطّب الجبين يكاد ينفجر من شدّة الغيظ :
– « عجّلي بالركوب أيّتها الحمقاء »
– « حسنا لكن يا أبتاه لو سمحت عليّ أوّلا أن أضع سّلّة الأسماك في صندوق السّيّارة »
- « عجّلي عجّلي فأمّك في انتظارنا عند باب الخوخة »
أثناء السّير سألت منيرة أباها في منتهى اللّطف و الرّقّة و هي منشرحة الصّدر تعلو وجهها علامات الغبطة و السّرور :
« هل أنّ كلّ فتاة تعود إلى بيتها في وقت متأخّر غبيّة ؟ » –
– « أنا واثق من ذلك تمام الوثوق لأنّ الأمن في بلادنا و البلدان المجاورة هشّ يستدعي المزيد من الحيطة و الحذر »
– « لن ألهيك طويلا بالحديث حتّى تحافظ على تركيزك أثناء السّياقة لكن سأكتفي بالقول لك أنّ الإرهاب في طريقه إلى الاضمحلال و الزّوال »
– « أعدّي لنا أنت و أمّك سمكا مشويّا و سلطة بالحبّار فعصافير بطنـــي تزقزق »
– « فأنا سأحقّق كلّ طلباتك يا أغلى أب بكلّ سرور ».
* * *
الاستاذ القاصّ عبد الفتاح بن سالم القرقني له سيرة ذاتية مشرفة لنتعرف على ابرزها :
* ولد عبد الفتّاح القرقني فجر يوم الأربعاء في غرّة سبتمبر سنة 1954 الموافق لـ 3 محرم1374 هـ بقرية غيزن ، جزيرة جربة ،الجمهورية التونسية .
* خوّلت له دراستة الابتدائية والثانوية أن يصبح معلّما .
* اشتغل معلّما طيلة 35 سنة و نيف : من 28 سبتمبر1978 إلى 15 نوفمبر2013
* درّس معلّما بعدّة مدارس ابتدائية ( مدرسة الملاّسين - مدرسة النجم بأمّ العرائس - مدرسة النّور بفاتو - المدرسة الابتدائية بغيزن ) .
* ألّف العديدة من القصص و الأقاصيص من بينها :
1- ذكريات مذهلة
2- شطحات
3- عند النّسّاج
4- منيرة و البحر
5- انتظار
6- رحلة عجيبة
7- إلى النّور فالنّور عذب جميل
8- حدّثت زيتونة قالت
9- من قنديل الذّكريات
10- و من وحي الدار القليّة
* * *
لعبت المرأة دورا هاما في مؤلّفات عبد الفتاح القرقني لأنه كان يعشقها و يحبّها فهي حينا أمّ رؤوم و حينا زوجة صالحة و حينا عشيقة فاتنة و حينا أخت عزيزة و حينا آخر صديقة حميمة تواسيه في الأفراح و الأتراح .
ظلت والدته منى دوس و بعض صديقات دربه و مطالعاته الثريّة لأغلب القصص و الروايات العربيّة و العالميّة حافزا له على الكتابة بنهم فريد و إلهام شديد لا ينضب معينه . كانت أمّه منى دوس رحمها الله امرأة صالحة يضرب بها المثل في السّلوك القويم و التّربية الموفّقة فهي الّتي غذّت روحه المرحة بالحبّ و الدّفء و سلّته في أوقات الضّجر بالخرافات و النّوادر و أغاني الأعراس و كلّ ما يطرب النفس و يهذّبها.
آخر أقصوصة ألّفها عبد الفتّاح القرقني من وحي الدار القبلية .هي أقصوصة تحكي عن والدته ( السيدة منى )رحمها الله فأديبنا إنسان عصامي لا ينسى فضل أمه الاستثنائيّ عليه ، حيث تربّى داخل أسرة قليلة ذات اليد محدودة الموارد الفلاحيّة.. في الرّابعة من عمره، توفّي أبوه سالم بن أحمد القرقني و تكفّلت أمّه منى دوس بتربيته مع إخوته عروسي النّاجــح و أحمـــد و فاطمة و عروسيّة والإنفاق عليهم من كدّ يمينها في كفاح مسترسل من الفجر إلى الغروب ،غزل الصّوف - خدمة الأرض - تربية الدّجاج و الأغنام... ) . لديه أيضا ثلاث أخوات أخريات لم يتربين معه ، تزوّجن قبل ولادته لمّا كان أبوه على قيد الحياة و هنّ ياسمينة و زبيدة و زهرة. ففي قصة من وحي الدار القبليّة استرجع ذكرياته داخل حجرة أمّه وتفقّد كل قطعة أثاث فيها بإمعان . و في ذكرى عيد ميلادها زارها زيارة روحيّة بالغة الأهميّة فأسرّ لها و هي مسجّاة في قبرها العطر بكلّ همومه و شكا لها و هو يذرف الدّمع الغزير حال الأمة العربية وحال ما وصلت إليه قضية فلسطين من انتهاك و تضليل و تعتيم .
*اخترت لكم مقتطفا قصيرا من أقصوصة « من وحي الدار القبليّة » راجية أن ينال استحسانكم فيستحثّكم للبحث عن أقاصيصه المنشورة الكترونيّا فهي جديرة بالقراءة و النّقد البنّاء .
« أنا متحسّر خلال هذه السّنين على تلك الحياة البسيطة الوديعة الّتي زال ألقها و انفرط عقدها و غدت أطلالا دارسة نتّكئ على أعمدتها الرّخاميّة للحنين و الاعتبار . لقد كانت الحياة بسيطة يسيرة حلوة لا تعقيد فيها و لا وهن و لا عجز و لا تكلّف و لا كثرة إنفاق . كان أجدادنـــــــــا و آباؤنا عظماء يأكلون ما حضر من الطّعام و يلبسون ما ستر من الثّياب و يفلــــــــحون الأرض من شروق الشّمس إلى غروبها دون كلل أو ملل لتوفيـــر مؤونتهم من خضـر و غلال و زيـت و تمر و شعيــــــر و عدس ... بعد العشاء كانوا يتسامرون في مســـــــــرّة و إمتاع ومؤانسة على ضوء القازة . هم لا يمتلكون وسائل الإعلام و التّرفيه الحديثة مثل المذياع و التّلفاز و الفيس بوك هم يمتلكون صلة الرّحـــــم و الدّفء العائلـي و التّماسك الأسري و خفّة الرّوح و نقاوة الابتسامة . كانوا تارة يردّدون في طرب و نخوة أهازيج شعبيّة و أغاني جربيّة من التـــــــــّراث و طورا يسردون خرافــــــــات ظريفة و نوادر طريفة فيها بحر من الخيـــــال و ضروب من المغامرات الجريئة . ما أجمل السّمر على ضوء » القازة « ! ما ألذّ الشّاي الأخضر المحلّى بالنّعناع و المرصّع باللّوز و هو يدار على الحاضرين في كؤوس طرابلسي فيترشّفونه على مهــــل آملين أن يجدّد نشاطهم و حيويّتهم كي يواصلوا السّمر هاشّين باشّين دون أن يداعب النّوم أجفانهم ! .
أمّاه إن ردّد الشّاعر محمود درويش أشعارا جزيلـــــة تترجم حنينه إلى أمّـــــــه و تتباهيه بها بين الأمّهـــــــــــات الفلسطينيّات المناضلات : أحنّ إلى خبز أمّي و قهوة أمّي و لمسة أمّي …فأنا أيضا من أوكد حقوقي أن أحنّ إلى وجهك الضّحوك و طلعتك البهيّة و بسماتـك الرّقراقــــــــــــــــة و أنفاسـك العطــــــــــــرة و دعواتك المشرقة في زمن أرعن صارت فيه الأخلاق في الحضيـض و ازداد فيه الوطن العربيّ انقسامــا و وهنا وازدادت شعوبه قهرا و عراء و ازدادت القوى الاستعمارية استنزافا لثرواته و خيراته فعــــمّ القتــــــــــل و الدّمـــــــار و تفشّى الحسد و الكـــره و الغدر و الاستهتار و غدت صلة الرّحم مغبونة موءودة في هذه الدّيار إلاّ ما رحم ربّي العزيز الغفّار . هل يعقل أن يهوّد القدس الشّريف و أغلب الحكّام العرب نيام لا يحرّكون ساكنا فالمهمّ بالنّسبة إليهم أن لا تزغزغ عروشهم و أن لا تقوّض أعشاشهم و بيوتهم العنكبوتيّة حتّى و إن كانت هشّة واهنة ؟ سحقا لهم و سحقا لتطبيعهم السّافر مع الكيان الصّهيونيّ الغاشـــم و تبّا لتواطئهم القذر مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة من أجل القضاء على أيّ نفس نضاليّ يبشّر بالصّحوة و تأميم الثّروات و تحرير فلسطين و عروس مدائنها القدس . النّصر للمقاومة الباسلة بقيادة حماس في غزّة و حزب الله في جنوب لبنان . النّصر للأحزاب التقدميّة و الشّعوب اليقظة المؤيّدة لها فـــــــي مشـــارق الأرض و مغاربها."
* * *
الاستاذ عبد الفتاح القرقني شلاّل متدفّق من الإحساس والبهاء والرونق ينساب على رفيف كلمات بوتر قلبه و وجدانه . الحنين في أقاصيص أديبنا يشكّل ترنيمة المغتربيـــــن و قوس قزح العاشقين الولهانين الّذي تتمازج ألوانـــــــه و تتناسق فتؤلّف طيفا لا يدركه إلاّ براق الإسراء
و المعراج أو زرقاء اليمامة ذات البصر الحادّ و البصيرة المتوقّدة .
أحدث عبد الفتّاح القرقني رؤية واعية لمعاناة النفس البشريّة وما يرافقها من عذابات الرحيل والاغتراب، فهو يثبت إحساسه عبر مشاعر الاسى والحزن، والدوران في متاهات الغربة والهروب عن الواقع تارة أو عن ذاته تارة اخرى أو الارتماء بأحضان ماض قد يخفف آلام الغربة، ولكن يبقى الاحساس بالاغتراب مرآة صادقة تعكس ما يجول في نفسه من ألام.
هذا هو الاستاذ القاصّ التونسيّ عبد الفتاح القرقني في اسطري المتواضعة . أرجو أن أكون قد أمتعتكم بالحديث عنه و شوّقتكم إلى مطالعة مؤلّفاته ذات الأسلوب السّلس و المضمون الرّاقي السابح في فلك الإنسانيّة الّذي ليس له آخر . ما آمله من أعماقي فؤادي هو أن يكون إبداعه بصمة فريدة من نوعها تسهم في رقيّ أدب الوطن العربيّ و لم لا يكون أدبه شمعة مضيئة تقدّم الإضافة إلى الفكر العالميّ المتحرّر من قيود الرّجعيّة و العبوديّة ؟.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى