عبد القادر وساط - ابن علي يأمر باعتقال جميع الشعراء

جاء في كتاب ( المستفاد في أخبار مَنْ ظَلَموا العباد، منْ طُغاة تنجداد ) لأبي عبدالرحمن العطار:
لما أمرَ ابنُ علي بإخراج نُحاة البصرة من مجلسه وبوضعهم في السجن، مضوا وهم يرسفون في الأغلال. فلما بلغوا بابَ القاعة الفسيحة، التفتَ عبدُ الله بن أبي إسحاق الحضرمي إلى الطاغية وقال له:
- يابن علي، لعلك تَذكر قول الشاعر:
يا أيها الرجُلُ المُهْدي ضَواديَهُ = أبصرْ طريقَكَ لا يَطْمَحْ بك البَصَرُ
لا زلتَ حَرْباً و لا سالَمْتَنا أبداً = فما لديكَ لنا نفْعٌ و لا ضرَرُ
قال الطاغية:
- وكيف لا أذكره يا بن أبي إسحاق؟ هذا من شعر عَبْد بنِ حَريّ الأسَدي. وكان ممّا يرويه أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي. وقد حفظناه في الحماسة البصرية ونحن صغار. وكان الأصمعي يقول إن ( الضّوادي)، التي ذكرها الشاعر في بيته، هي الكلام الرديء، مثل الشتيمة والكذب. ويشهد الله أني لم أشتمكم يا نحاة البصرة، ولم أفْتَرِ عليكم الأكاذيب.
إثر ذلك، اقتيد نحاةُ البصرة إلى الخارج، ثم مال الشيخ الفراء على الطاغية وقال له:
- يابن علي، أرى هؤلاء القوم ومريديهم لا يستشهدون إلا بالغث من الأشعار. فقد بلغني أن سجين الرجز أشار، في رسالة من رسائله، إلى قول ابن خُفَاف البرجمي
( و إذا أتَتكَ من العدوّ قوارصٌ = فاقرصْ كذاك و لا تقلْ لم أفْعَلِ)
وسمعتُ أن الأديب المشهور أحمد بوزفور ذكَرَ هو أيضاً هذا البيت بالكثير من الإعجاب، كما أنه أفاض في شرح ( القَوَارص)، وهي كلمة تعني " الكلام القبيح " كما لا يخفى عليك...
قال ابن علي:
- فالقوارصُ إذن هي الضَّوادي، والضوادي هي القوارص ...
و بعد لحظة من الصمت، دعا الطاغية كبيرَ حُجّابه وقال له:
- ادعُ صاحبَ الشرطة وأبلغه قراري باعتقال جميعَ الشعراء الذين ذكروا كلمةَ ( الضوادي) أو كلمةَ (القوارص ) في قصائدهم، وابعثْ مناديا في الناس يُعْلمهم أنَّ من جاءنا بشاعر ذكرَ اللفظتين معاً في شعره، فله جائزة بالعُمْلة الرومية، قدرها عشرة آلاف أورو بالتمام والكمال. ومن جاءنا بشاعر ذكرَ إحدى اللفظتين فحسب، فله نصف هذه الجائزة، دون زيادة ولا نقصان...
قال أبو عبدالرحمن العطار، مؤلف الكتاب:
ولم تمض أسابيع حتى شاع الخبر بين الناس، فحدثت فوضى كبيرة في مجموع البلاد، من صحراء الكثيب إلى تنجداد، وصار الشعراء يهربون إلى الأصقاع البعيدة، خوفاً من الطامعين في أموال الطاغية.
فمما يُحكى عن تلك الفترة العصيبة أن جماعة من الفرسان قبضوا على الشاعر بشْر بن أبي خازم، بعد أن رشقوه بالسهام، ثم أوثقوه وجاؤوا به إلى ابن علي! فلما رآهم الطاغية بادَرَهم بالسؤال:
- من هذا الرجل ومن أين جئتم به؟
قال واحد منهم:
- يابن علي، هذا شاعر من الفرسان، كان يختبئ بجبال النسار، غير بعيد عن ديار بني عامر. وهو شديد البطش، لا يقوى عليه أحد، ولكن الله أظفرك وأظفرنا به، فحملناه إليك. فأنتَ تعرف أنه هو القائل:
( غَذَاها قارصٌ يَجْري عليها = و مَحْضٌ حينَ تُبْتَعَثُ العِشارُ )
فها هو فانظر في أمره ثم افعل به ما تشاء، ولا تحرمنا من الجائزة أبقاك الله .
فلما سمع ابنُ علي ذلك الكلام، ضحك حتى فحصَ الأرضَ بقدميه، ثم قال:
- ويلكم، خلوا عن الرجل! فالقارص الذي يتحدث عنه في البيت الذي ذكرتم هو الحامض من ألبان الإبل. وذلك في قصيدة من قصائده، يصف فيها فتاة ناعمة البال، تتغذى بهذا الصنف من اللبن. ألمْ تفطنوا لقوله قبل ذلك:
( و في الأظْعان آنسةٌ لَعوبٌ = تَيَمّمَ أهْلُها بلداً فسارُوا )؟
بعد ذلك، أمر رجالَهُ بفك قيود بشر بن أبي خازم، وباعتقال أولئك الذين جاؤوا به على تلك الحال. ثم إنه أجلسه إلى جانبه، وشرع يواسيه ويأخذ بخاطره ويقول له:
- يا أخي بشْر، هناك من يقول إنك ابن أبي حازم، بالحاء من غير نقط، وهو تصحيف. وعلى أية حال، فأنا أحبّ شعرك وخصوصا قصيدتك البائية على الوافر، تلك التي تَذكر فيها ابنتَك عميرة، وترثي فيها نفسك، بعد أن رشقك الغلامُ الوائلي بسهم قاتل:
أسائلةٌ عُمَيْرةُ عنْ أبيها = خلال الجيش تعترف الركابا
تُؤَمّلُ أنْ أؤوبَ لها بنهبٍ = و لم تَعلمْ بأن السهمَ صابا
فإنّ أباكِ قد لاقى غلاماً = منَ الفتيان يلتهب التهابا
و إنّ الوائليّ أصابَ قلبي = بسهم لم يكن نكساً لغابا
فرَجّي الخيرَ وانتظري إيابي= إذا ما القارظ العنزيُّ آبا
ولاحظ ابنُ علي أن الشاعر بشر بن أبي خازم لم يتحمس للحديث عن تلك البائية، التي تذكره بمصرعه، فقال مغيرا دفة الحديث:
- وأحب أيضا ميميتك على الوافر، التي تقول في مطلعها:
( أحَقٌّ ما رأيتُ أمِ احتلامُ = أمِ الأهوال إذْ صحْبي نيامُ)
ومن أبياتها البديعة قولك عن محبوبتك إدام:
( و قدْ تَغْنى بنا حيناً و نَغْنى = بها و الدهرُ ليس لهُ دوامُ)
وقولك في وصف الخيل:
( أثَرْنَ عجاجةً فخرجْنَ منها = كما خرجتْ منَ الغرَض السهامُ)
وقولك عن الأعداء:
( وقالوا : لن تُقيموا إن ظَعَنّا = فكان لنا و قد ظَعَنوا مُقامُ)
ثم فطن الطاغية إلى أن ذلك الشاعر الجاهلي القديم لم ينطق ولو بكلمة واحدة، منذ جيء به إلى المجلس، فأدرك أنه في حاجة إلى العناية والراحة، وعندئذ أشار إلى رجاله فحملوه إلى مستوصف القصر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى