ناصر الجاسم - جلاد الموتى.. قصة قصيرة

الماعز الجبلي بألوانه الزاهية يرعى جماعات ويأخذ لبّ الناظر إليه بوسامته الشبيهة بوسامة الغزلان الشاردة، وأشجار المانجو تطرح ثمارها الناضجة في أفواه القرويين الجوعى، والفراشات كإناث في حفلة عرس يتباهين بأزيائهن الملونة، والأعشاش المعلقة في أعالي الأشجار تداعبها الريح الخفيفة ولا تسقطها، وبذور الفلاحين غطيت بسيقان القصب للموسم الآتي فتكونت أهرامات الخوص الأفريقية، وصبية صغار يختِلون لها ويحلمون بإشعال النار فيها.

بينما كانت زوجته بجانبه مبتهجة بالنظر إلى قطيع القرود كان هو يحاول أن يعتلي بها المرتفع الجبلي ليسعدها أكثر إلا أن قوة محرك سيارته خانته فتقهقرت سيارتهما للوراء واستقرا في جوفها في حضن الوادي الأخضر ميتين، فيفزع قطيع القرود ويقف طابوراً على المطل متأملاً المشهد المروع ونادما ومتحسراً على الموزات التي كانت الزوجة تلوح بها له.

ما إن بدد هدوءَهم صوتُ تدحرج السيارة وانقلابها مرات عدة على مدرجات الوادي حتى هب الرعاة والمزارعون للنجدة ولاستطلاع الخطب الجلل تاركين المحاريث وعصي الرعي خلفهم، تلك المحاريث والعصي التي لا يتركونها إلا في الليل، أما الجنبيات فقد بقيت لصق خصورهم الضامرة بلونها الأبيض اللامع ومقابضها الفضية.

وجدوهما قد ودعا الحياة ودمهما النازف يروي نبتات فل وكادي صغيرات أزهرن لتوهن في أسفل الوادي، تمعنوا في وجهيهما وجسوا ما بقي فيه من دمهما فتبينوا القبيلة التي ينتسبان إليها فحملاهما إلى شيخ قبيلتهما الذي نادي من فوره على جلاد الموتى وزوجته، والمتوفيان لم ينزلا من على نعشيهما المصنوعين بعجلة من غصون أشجار السمر بالجنبيات، طلب شيخ القبيلة من الرعاة والمزارعين أن يدخلوا بالرجل المتوفى إلى بيت بني من الحجر واتخذ شكل دائرة في أحد المدرجات الجبيليـة وأن يدخلوا بالمرأة المتوفاة إلى بيت مجاور له حالت حدود الأرض التي بني عليها أن يأخذ شكل الدائرة فارتضى صاحبه بنصف شكل الدائرة لعل الزلزال إذا جاء لا يدمره كله، شكر شيخ القبيلة الرعاة والمزارعين الطيبين فعادوا إلى مزارعهم التي على السفوح وقطعان ماشيتهم المبذورة في الجبال عارفين وراضين بأن لا نصيب أكثر لهم في هاتين الجنازتين أكثر من الذي حصلوا عليه.

دخل جلاد الموتى غرمان على الرجل الميت والسوط يتقدمه متأرجحاً في الهواء أمامه، ودخلت زوجته بركة جلادة الميتات على المرأة الميتة والسوط يسبقها وذيله يلامس إحدى ركبتيها، لم تكن بركة راغبة في هذه المهنة أو محبة لها ولكن زوجها غرمان أجبرها على أدائها فتؤديها إرضاء له وطاعة لشيخ القبيلة، فكما تبعته في تابعيته تبعته أيضاً في الجلد، ولكن لا أحد من القبيلة يجرؤ على تعييرهما بهذه المهنة إنما يكبرون في شخصيهما هذا العمل العظيم ويغبطانهما على الأجر الذي يحصلان عليه من شيخ القبيلة، وعلى الأجر الأكبر منه الذي يظنان أنهما يحصلان عليه من الله!!.

جرد غرمان الرجل الميت من ملابسه كلها وأخذ يسوطه بلذة عظيمة، يسوطه على رجليه، وعلى صدره، وعلى ظهره، وعلى مؤخرته، يرفع السوط عالياً حتى يبين شعر إبطه ثم يهوي به سريعاً على الجسد الميت حتى يرتج من شدة الجلد المتعاقب، يفعل غرمان ذلك كله وهو ينظر بحقد إلى موضع سوأة الرجل الميت، وحين تجهد يده من السوط يكون قد اطمأن إلى أنه قد طهر الرجل الميت من ذنوبه فينزل السوط من يده ويمسك بيد الرجل اليسرى ويضعها من عند مرفقها على ركبته بحيث تكون لها متكأ ثم يكسرها كسراً يسمع فيه تهشم العظمة الرابطة بين الساعد والكتف ليتيقن أن الرجل الميت لن يتمكن من أخذ كتابه بشماله، ثم يغسل الميت ويجهزه للدفن وقبل أن يسلم الميت للمشيعين وللمصلين عليه يحث الخُطى إلى حفر قبر له، يحفر غرمان القبر ويزيد في سعته ولما ارتضت عيناه المساحة المحفورة، فتل صرّة البذور المتدلية من رقبته على صدره وبذر القبر ببذور الحب والشعير حتى أمست أرض القبر سجادة من بذور تكفي لأن يتلهى بها الدود ويشبع عن أكل جسد الرجل الميت، يأكل ويشبع ثم يموت وتنتهي دورة حياته قبل أن يدرك بأسنانه جسد الرجل الميت.

أما بركة فقد جردت المرأة الميتة من ملابسها وهالها منظر الحسن والبياض الذي في جسدها فبكت ورفعت السوط عاليا حتى وازت يدها شحمة أذنها وساط ذيل السوط أعلى ظهرها سوطة ناعمة وأخذت تهوي به على جدار الغرفة القريب من الباب خشية أن تشي بها النسوة المجتمعات في الخارج إذا لم يسمعن صوت التطهير فتكون عاقبتها طلاقها من غرمان، وحلول لعنة شيخ القبيلة عليها، وعدم زواجها من رجل آخر، وبقائها مطلقة حتى الموت كما بقيت رابحة سابقتها في المهنة.

جلدت بركة الجدار حتى نزّ عرقها من جبينها وتراقصت حلي الفضة على صدرها كثيراً ثم أغمضت عينيها عن موضع سوأة المرأة الميتة فتلمست بأصابع يدها اليمنى فتحة فرجها فغاصت بها هناك لتستخرج ما يمكن أن تجده من بقايا خلطة أعشاب عطرية يسد بها فرج المرأة بعد خروجها من رحم أمها وهي لتوها طفلة في المهد، خلطة أعشاب عطرية تتحجر هناك ولا تتفتت إلا في ليلة عرسها وربما لم تزل كلها إن نقصت فحولة الرجل في ليلة الدخلة أو في الليالي التي بعدها، دست بركة أصابعها حتى غارت يدها في الرحم فلم تعثر على شيء فأكبرت في سرها فحولة الرجل الميت وشرف المرأة الميتة، صنعت ذلك كله قبل أن تهم بكسر اليد اليسرى للمرأة الميتة، وصنعته كي تؤجل لحظة مهيبة قاسية على نفسها وما درت أن القدر أراحها فكسر اليد التي لوحت للقرود بالموزات، كسرها وهي تتقلب على المدرجات الجبلية المعشبة وحين اكتشفت بركة أن اليد اليسرى مكسورة ابتسمت مؤمنة بأن كسر القدر لليد علامة رضا ودليل صلاح وحسن خاتمة فغسلت المرأة الميتة وجهزتها للدفن وللصلاة وللتشييع وهي موقنة بأن زوجها غرمان قد حفر قبرها ووسعه وفرشه ببذور الحب والشعير ، وغير موقنة بأنها ستبقى في تابعيته، موقنة بأنه سيسقطها من تابعيته ذات يوم وسيشهد على ذلك شاهدان ربما كان شيخ القبيلة أولهما.
إرسال بالبري


* عن
جلاد الموتى- قصة قصيرة- ناصر الجاسم ~ القاص والروائي السعودي ناصر الجاسم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى