حيدر عاشور - مظلةٌ مثقوبة.. قصة قصيرة

ها قد مضت ثلاثة أعوام دون أن يأتي كما وعدها واقسم لها... ثلاثة أعوام كأنها دهور ثقيلة من الأوجاع والهموم والذل اليومي ، وهي تنوء بعبء الأبناء الأربعة ... ولدان وبنتان كبراهما في الدراسة الإعدادية والثلاثة الباقون في المتوسطة والابتدائية ... من أين لها أن تلقم هذه الأفواه الأربعة وتشتري لهم الملابس أيام الدراسة والأعياد... وحاجيات البيت التي لا تنتهي ،وهي امرأة ... كان بكاؤها الليلي هو العزاء الذي تلجأ اليه ودمعها الساخن تبتل منه وسادتها البائسة ... امرأة في أيام عاصفة وكأن العيش سباق وحشي لا احد يلتفت فيه الى الآخر، وهؤلاء الأولاد الأربعة لا يعلمون شيئا فهم يطلبون ويحتجون ويمرحون دون أن يلتفتوا إلى تلك الأم التي تتمزق في كل يوم بل في كل ساعة وهي تلتقط المال اليسير مرة من أختها أو تستدين من الجيران، ولكن إلى متى تبقى تستنزف الآخرين ... سهى الابنة الكبرى تحاصرها دوما بالسؤال عن الأب الغائب وحقيقة غيابه هل هو مسافر أم ميت؟
كانت عيناها تغرورقان بالدمع وهي تجيبها بان أباها قد مات بالاحداث في قتال الشوارع والموت المجاني الذي هيمن كريح جهنمية فوق هذه الأرض . وحين تتحدث لابنتها عن موت أبيها الوهمي تتذكر القصة الحقيقية حين عاد اليها في تلك الظهيرة المشؤومة وطالبها بالمال وما تمتلك من المصوغات الذهبية لأنه وجد عملا تجاريا كبيرا في خارج الحدود، وسيعود خلال ستة أشهر لتصبح العائلة من أغنى عوائل المنطقة ، انها فرصة العمر وباب الثراء وقد انفتح بوجهنا ... كان يلهث بغضب وهو يمسك بها ضاغطا بأصابعه حول عنقها وكأنه قد فقد صوابه وهو يصرخ:
- اعطيني ما عندك ... الا تريدين مني ان اعمل وأوفر لقمة العيش لهؤلاء الأربعة ، لا عمل هنا سوى القتال والقنص والاختطاف ... لابد ان أضحي بكل شيء وأسافر لكي أوفر لكم ما تقتاتون عليه ... سأحوّل لك المال شهريا وبما يجعلك لا تحتاجين الى أختك زهرة وغيرها.
لم تجد وسيلة تتخلص منه وباتت وكأنها تريد ان تصدقه هذه المرة فلعله شعر بالهوان وذل العيش وربما وجد الخلاص في السفر والعمل في الخارج ... لم تسأله حينها عن العمل وطبيعته لكنها اكتفت بإخراج تلك القطع الذهبية ومبلغ من المال وقد احتفظت به لأيام السوء المشؤومة التي تنتظرها كما أوصتها أمها بالا تفرط بهذه المخزونات الا للأيام العصيبة لكنه بعنفه وعناده، جعلها تضعف وتمتد يدها بارتعاش الى ذلك الكنز الصغير لتسلمه له وهي تتطلع الى السماء ان يكون هذا الأب صادقا مع نفسه وفيا لها ولأولاده الذين ينتظرونه ، وهم لا يملكون في هذه الدنيا الصاخبة والدامية سواه وأم ضعيفة عاجزة عن كل عمل ،وفي بيت بائس مستأجر ... لا تدري كيف غامرت تلك المغامرة وأعطته كل ما تملك لعلها قارنت موقفه كأب يريد فعلا إنقاذ أولاده مثلما تفعل هي.. لكنه غدر بكل شيء وخيب ظنها وأطاح بها الى القاع مرة واحدة دون ان يهتز له شعور وهو يلقيها وأولادها الى هذا المصير المجهول ... الم يفكر بابنته الكبيرة من الانزلاق في أمور أخرى الم يفكر بأن ينحرف الأولاد أو تضعف الام وتبحث عن المال دون التفكير بمصدره ، وقد تبيع نفسها من اجل ان يبقى الأولاد يأكلون ويلبسون وتدفع إيجار البيت الشهري ،لم يعد أمامها سوى الاقتناع بالطريقة التي أخبرتها بها إحدى قريباتها بأن تتوجه لإخراج معاملة تثبت بها بأن زوجها قد قضي عليه بالاحداث وساعدها احد العاملين في المستشفى باستحصال ورقة وفاة مقابل مبلغ من المال ، وكل ذلك من اجل الحصول على راتب شهري كونها تعيل أيتاما ... وقد خفف عنها الراتب الذي بدأت تتسلمه شيئا من المعضلة المقيتة التي وجدت نفسها فيها بعد ان غاب الزوج هذا الغياب الغامض ، هل يعقل بأنه حي ولم يشعر بما يحدث لأولاده في هذا الجحيم اليومي الذي يعيشون بين نيرانه ؟... ركنت الى واقعها وبدأت تتناساه أو تهمل ذكراه بل اعتبرته ميتا بالفعل ، فالذي يموت ضميره هو في الحقيقة جثة تمشي على الأرض.
وبعد مضي الأعوام الثلاثة وما فيها من كمد وعوز وذل فوجئت في يوم ما وهي تسير في السوق بأن هناك من يتعقبها التفت فوجدته هو ... الزوج الغادر .. فقدت صوابها وهي تمسك به غير مصدقة ، امسكها بقوة ولاذ بها في إحدى الزوايا ووضع يده الخشنة على فمها ... قالت له صارخة لماذا جئت؟ وماذا تريد منا ؟ فالأولاد أيقنوا تماما بأنك قد مت يوم بعتهم وبعتني ولم تفكر بنا كل هذه السنين، ما الذي فعلته برحلتك اللعينة ... هز رأسه وقال:
- لقد خسرت كل شيء واستدنت حتى أجرة العودة. أرادت أن تصفعه بكفها لكنها ترددت أن يتطور الموقف.
- أرجوك ابق ميتا ولا تعد لنا.
- كيف .؟!. انا أريد أولادي ... وأريد الراتب الذي (تقبضينه ) كل شهر أليس الراتب بأسمي.
- يال وقاحتك لم أكن أتصور انك بالدناءة والخسة والضعة التي أنت فيها .
- اذا لم تمثلي وتعطيني المال الذي اطلبه سأخبر الجهات المختصة وهذا تزوير وانتحال ، وضميري لا يقبل مثل هذه الاعمال الشائنة.
كان يتحدث عن الضمير وقد أججه بها غضبا بركانيا ، فهو آخر من يحق له ان يتفوه بهذه الكلمات البراقة .. انه أب جاحد وغادر... قالت له:
- سأعطيك بعض المال شريطة الا ترينا وجهك الذي يشبه وجه الغراب .. إنني مستعدة أن ادفع لك الراتب لكي تبقى ميتا في نظرنا وللأبد.
ضحك بتفاهة وسار خلفها كالعبد الذليل .....


*حيدرعاشور
*قصة قصيرة من مجموعة (بوح مؤجل)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى