المقامات فاتن عبدالسلام بلان - عندما أعود طفلة.. مقامة

يا دَارَ الأَحبَةِ لكِ مني السَّلام
ماضٍ بينَ جنَباتكِ باتَ يُبكِينا
أَهْلوكِ ودّعُونا وقُلُوبنا بِسَلام
حَاضرٌ بِذكْراهم يُميتَنا ويُحْيينا
كُنتِ العَامرَةَ بالأمْنِ والسَّلام
بتِ وَحِيدَةً ولبرائتنا تُنَاديِنا
نِداءَ الطُّفُولَةِ والدَّوْحَ لليَمام
هَسِيسُ الصّوتِ بصداهُ يُسْلينا

.

من هُنا من هُنا من هُنا، قد كُنا يومًا هُنا، حينَ ابتسمَ العُمرُ لنا، راحَ يزيحُ العتمةَ عنّا ويسرقُ لنا السَّنا ..
- مابالُكِ تدمعين وتبكين؟ وبالكادِ تتلمَّسينَ الدربَ تخطينَ وتمشين ..؟
- صصصه صصصه، اصمت اصمتْ ياعقلي
صصصه اهدأ اسكتْ ولا تكُ عَقَّ لي .

.

على هذا الطريقِ على ذاكَ الرصيف، كانَ الشَّارعُ رفيق، والصَّيفُ رُصَّ على الرصيف .
آااهٍ آااهٍ على حُكمِ الحياة، غرقى همّنا أطواقَ النجاة، ضاعَ العُمرُ خلفَ حُلمِ مُناه، وتاهَ في مُرِّ ملحِ الآاااه ..

.

أيتُها الذاكرةُ هوّني هوّني عَليَّ، بحقِّ من بسطَ الأرضَ ورفعَ السَّماءَ العَلِيّ، وكُلّ منْ آمنَ بمُحمدٍ ويسوع الناصريّ والإمامِ المُكرّمِ عَلْي،
علّلي لي هذا الحنينَ وذاكَ الأنينَ
عّلني أستَكين فعلّلي علَّ لي .


١
يااااه أراهم الآنَ أمامي، يمشي أسعدٌ وفرحَان، جِهادٌ ونِضال، رنا ومنى، عَفافٌ وعِطاف، أرى أطيافهم تتراكضُ قُدّامي، وأسمعُ أصواتهم تتهامسُ خلفي ..

.

لا لا لا لاه، وكأنني أعودُ طفلةً صغيرة، ربّاه ربّاه ربّاه !!
أطفالٌ أبرياءٌ يتشاقون، يلعبونَ يمرحونَ ويشاكسون، أراني أركضُ معهم، جوقةُ مخرّبينَ وأنا بينهم، يكبروني بأعوام، أصغرهم بسنوات، أنا العقلُ المُدبّر وقائدتهم،
الفكرُ المُدمّر ومُهلكتهم ..

.

- يا كندا*:: أينَ أنتِ؟ تعالي تعالي، اصمتي واجيبي غايتي وسؤالي، رأيتُ ورودًا في حديقةِ داركم، وتشكيلةَ أزهارٍ ومايمنعني أسواركم، وأُمُكِ ياكندا تترقّبني خلفَ الشُّبَّاك، تفتحُ الأبوابَ وترمي لي بالشِّبَاك، هيا هيا اسرعي وحوّشي لي باقة، وإلا تعلمينَ ماسيحصلُ لكِ من عقابٍ وإعاقة .
وبعدَ الدقايقِ الخمس، أسمعُ صُراخًا لا همس،
لا إنه صوت كفوف، اتنصّتُ أتسمّعُ، ليس تصفيقًا إنها أصوات كفوف، ضرْبٌ وخبْطٌ ولبْط، وصوتُ كندا تقول :: التوبةَ يا أمي التوبة، وأمُها تصرخ : التوبةَ في كُلِّ نوبة، التوبةَ يا غشيمة يا حوبة !!

.

ياويلي ياويلي أم كندا السمينة المَهُولة، بيدها عصا تلك الغُولة، تقول لي : اقتربي أيتها الشيطانةُ العصا عُصيّ وعصا لمن عصى ياعفريتة، تتدحرجُ عن الدرجِ وتقع، وأنا أقعدُ وأقعُ من الضحك .

.

- خالتي أم كندا، أتحبينَ الياسمين؟ يا سمينَ يا سمين، أغمز لها بعيني، وهي تصرخ اقتربي يا ابليسة مني، وحتى لا أتعُبها وأتعب، وقبل أن تلحقني وأهرب، أضعُ أصابعي خلفَ أُذنيَّ وأمدُّ لها لساني، فتصرخُ ليتكِ ياجنيّة بينَ أسناني !!
ثم أقرعُ جرسَ بيتها، أهزُّ أرقصُ أصفقُ أدورُ أنطُ أنهزمُ وأهرب .

.

وبعدَ رُبعِ ساعةٍ يفوتُ أوانُ اللعب، ويحينُ وقتُ الجدِّ والضرب، وكُلّ ذاكَ الهزِّ والرقص هُناك، يقلبُ إلى عضِّ وقرصِ هُنا
- آاااخ آاااخ آااااخ يا وجهي
- كبّركِ اللهُ سوّدتِ لي وجهي ( تقول أمي )
الآنَ ياكندا عرفتُ لما الصياحُ لما الصُراخ، كانَ طعمُ الكفوفِ حارًّا ونكهتهُ لاذعة ولاسعة، وأيّةُ كفوفٍ هذي أيّةُ كفوف !!
ولكن أيهما أثقلُ بالضربِ، كفوف أم كندا الغولة أم كفوف أمي الحنونة ؟؟ سؤال حتى يومنا هذا لم أجد لهُ الجواب ..

٢
ياااااه ياااااه، الطقسُ كانَ سلسًا لطيفا، تبدّلَ تغيّرَ أصبحَ عنيدًا عنيفا، الريحُ تقلبُ كُلَّ شيء، قلّبتني هدوئي وقلبتْ قلبَ قلبي، ولم تتركْ من أيِّ شيءٍ شيء !!
- اتركيني اتركيني اتركيني، يامخبولة يامجنونة إلى أينَ تحمليني؟؟ أيتها الريحُ المهبولة أينَ أينَ أينَ تضعيني؟؟!!
أوووووه، وكأني كبرتُ قليلًا؟، الله الله شعري أصبح طويلًا !!، أممم هو عينه هو فستاني الأبيض، ماهذا أيضًا نفسه صندلي الأسود؟؟!!
يااااه يااااه وكأنني كبرتُ وما كبرت ..

.

هُناكَ هُنا، تحتَ فوق، صوبَ حدّ، بجانبِ بمحاذاة، باتتْ وباتتْ من الأطلالِ دارنا

.

أطلالُ الأحبّةِ طللٌ وأطلال
طَلَّ طَلُّ الطَلِّ والأطلالُ أطلال
أينَ رحلتمْ والسؤالُ السؤال
سَلْ سُلَّ السُلِّ سَلاني والسؤال

.

وكأني في دائرةٍ تتسعُ لحظات، وتضيقُ لحظات، حَلَقةٌ من الضياءِ لا أعرفُ منها الخروجَ أو البقاء !!
أطيافٌ تمرُّ مرورَ الكرام،
تجيءُ وتذهبُ، تظهرُ وتختفي، تأتي وترحل بالإبتسام، أرواحٌ ليست بأشباح، تدنو من علوّها، أجسادٌ تعلو من دنوّها، بعيدةٌ عن قُرب، قريبةٌ عن بُعد .
أين أناااا أين أنا؟؟ من معي هُنا؟؟ أأنا وحدي أم معي غيري؟؟
صباحٌ يهشُّ العتمة، نورٌ يكشُّ الظلمة، صوتٌ هاتفٌ من خلفي، وأصابعٌ تمسحُ شعري وتُمسّدُ كتفي، وكأني انسحبتُ في غيبوبة !! أرى الأشياء حولي مقلوبة !!
- بهمسٍ خافت :: فااااتن .. فااااتن .. فااااتن
- بتأتأةٍ وتعلّك :: نننعم اايوااا ننننعم
عينان لا يمسّهما الخوف، عينٌ أحبّت بصدق، وعينٌ دارتْ المُحب عن قصد .
- فاااااتن .. فااااتن .. فاااااتن
- آه ننننعم نعم ااااايواااا نعم
أبعدُ أقربُ من كُلِّ بعيد، أقربُ أبعدُ من كُلِّ قريب، يا وجهها، يا ضحكها، يا ثغرها، يا قدّها الأهيف الميّاس، يابعضَ بعضي وكُلّ كُلّي، يا أُنسي بعد وحشتي ياكُلَّ الناس ..

.

أمّي يا ملاكي،يا حبّي الباقي الى الأبد
ولا تزل يداك، أرجوحتي ولا أزل ولد
يرنو إلى شهر، وينطوي ربيع
أمي وأنت زهر، في عطره أضيع

.

أمااااه أأنتِ أنتِ؟ أم أنتِ لستِ أنتِ؟!
كُنتِ وما كُنتِ، ذهبتِ وما ذهبتِ !
أمااااه ها أنتِ تأتين هل سترحلين؟؟
ها أنتِ تجيئين هل ستلوّحين كعادتكِ وتودّعين؟؟

.

على جناحِ الشّوقِ والحنينِ إليكِ أعود، ياقُبلةَ اللّهِ على الأرضِ، لما السكونُ لما الصمتُ يسود؟؟، أنا .. أنا شابتْ ضفيرتي شحُبَ وجهي ونحُلَ العود، أماهُ يا أُماهُ أسمعُكِ تهمسينَ بإسمي يا حبيبتاه ، أشمُّ عطركِ و فوحَ خُبزكِ والتنّورُ ملاَهُ الغُبارُ أوّاهُ أوّاه، على هذا المقعدِ كُنتِ تجلسين، وعلى ذاكَ الكرسي كُنت تقعدين، هُنا تضحكين، هُناكَ تبكين، حزنٌ فرحٌ ، دمعةٌ بسمةٌ، واشوقاه واشوقاه، مُدّي لي يديكِ، يدٌ من أمانِ ويدٌ من حنان، خُذيني مني إليكِ، كُلّي ضائعٌ وبعضكِ أوطان، أُماهُ يا أماه، الباقيةُ الراحلة، الآتيةُ المُغادرة، العليلةُ الصحيحة آهٍ وآهٍ وآه، خيوطُ العناكبِ تُدثّرُ الزوايا، ضاعتْ ملامحُنا وتكسّرتْ المرايا، فحيحُ الماضي بوجعِ النوى يمضي، حفيفُ الحاضرِ بألمِ الإنتظارِ يُسلي، ماتتْ ضحكاتُنا خلفَ النوافذِ خلفَ الأبواب، قُتلتْ أحلامُنا أمامَ الغُربةِ أمامَ الغياب، في أيِّ مدارٍ أنت ِ؟ دارَ المدارُ دوّار وبالخرابِ نعقت الدار !!
بعيدةً أصبحتِ أبعدَ من كُلِّ مدى، قريبةً مازلتِ أقربَ من كُلِّ نفَس ، أنتِ نورسٌ هاربٌ شاردٌ تاركٌ روحي في دائرةِ الضباب، أقولُ للذكرياتِ مرحبًا مرحبا، ولكِ في قلبي شوقٌ مرَّ حبا، وتركتِ في روحي وجعٌ بمرٍّ حبا .

.

- ياطفلةَ العرائشِ ياصغيرةَ الكرومِ والعناقيد، الآنَ أنتِ أمامَ الأطلالِ وماضيكِ بعيد، ابكي اضحكي ارقصي تمايلي شُقُي ثوبكِ فالبعيدُ بعيد، من قالَ حينَ تأتين، وبصوتكِ تُدندنين، أنَّ الأحياءَ ما زالوا أحياء؟

ثكلتكَ أُمُكَ أيُّها الموت، لا حياةَ للأمواتِ ولا صدى و لا صوت، تكرجُ تتسابقُ تتساقطُ على خذيَّ دمعة، قد كانتْ في ليلةٍ عائليةٍ دمعةُ شمعة، أُماهُ قد عزَّ بيننا اللقاء، قد فرّقَ بيننا الفراق، ما فائدةُ الأشياءِ بعدكِ كلّ الأشياء؟ وما ضرُّ السُّمِ في جسدٍ ليسَ منهُ شفاء؟، وما نفعُ الطبِّ إن عُرفَ الداء ولم يُعرف الدواء؟؟

حنيني إليكِ نيرانٌ تكويني، واشتياقي يُتلفني ويُضنيني، يا ليتنا كُنا وما كُنا، جئنا وما جئنا، أطيافُنا ترحلُ وتنشدُ البقاء .. !!

٣
وكأنَّ صفعةً توقظني من حُلم؟، أأنا في حُلمٍ أم في علْم؟؟

وتُكرّرُ الصفعةُ صفعتها، والضربةُ ضربتها، أنتفضُ أرتعش، أتسمّرُ أتحرّك، مدهوشةً مشدوهة، كالمُخدّرةِ كالنائمة .

.

- صوتٌ من الخارج :: يا أهلَ الدار ، طرقتُ بابَ الدار، هل من أحدٍ في الدار !؟؟

- أجيبُ بقلبي :: أيًةُ دارٍ القديمة أم الجديدة؟؟ المهجورة الأحبّة أم المهجورة الذكريات؟؟

ها أنا أرجعُ من الماضي وذكرياته، إلى الحاضرِ وأحداثهِ و حكاياته، إلى فاتن اللتعشقُ الكتابةَ وفنونها، الحبرُ عيونها والأوراقُ جفونها ..

- يا أهلَ الدار، يا سُكًانَ الدارِ الخرساء، هل سأنتظرُ إجابتكم من الصبحِ حتى المساء؟

إليكم هذه، هذي فاتورةُ الكهرباء ..

- عن أيّةِ كهرباء يتكلّم هذا الأبلهُ المجنون؟؟ جُنَّ جنونهُ أم جُنَّ جنوني؟؟ أم كلانا في الجنونِ يتفنّنُ بالجنونِ ومجنون؟؟

وأعودُ إلى الواقعِ الليعتصرني، بين جمودِ قضبانهِ يأسرني، وعلى جُدرانِ ساعاتهِ يصلبُني ويُسمّرُني، هاهاهاهاها ذاك الأبله جابي الكهرباء، يقطعُ رحلةَ ذكرياتي بفاتورةِ كهرباء؟؟!!

رحمَ اللهُ أيامَ المصابيحِ والقناديلِ وهي بزيتها تتكلّم، وأعاننا اللهُ على حاضرنا التكنولوجي حينَ أصبحتْ الكهرباءُ تتحدّث ..

سأدعُ جابي الكهرباءِ لكهربائهِ، فقد كهّربَ سكونَ كهربائي بفواتيره المُكهّربة اللعينة

سأغمضُ عينيَّ لأضيعَ في أغنية العملاق سعدون جابر، أضيعُ حيث .. هُناك

وأصدح يا سعدون اصدح بيا طيور الطايرة

.

" ياطيور الطايره مُري بهلي "
ياشمسنا الدايره ضوي لهلي
سلميلي وغني بحجاياتنا
سلميلي ومُري بولاياتنا
وسلميلي ياطيور الطايره
وسلميلي ياشمسنا الدايره


فاتن عبدالسلام بلان


............

* كندا صديقة الطفولة البريئة الجميلة الحبيبة ، التي كنتُ أعاقبها إن لم تسرق لي الورود من دارها واشدّ جديلتيها الطويلتين
  • Like
التفاعلات: حيدر عاشور

تعليقات

كلمات لها روح حنينه، ممتلئة بالشوق والهيام ...ما بين البكاء والفرح منطقة لا يفهما الا الجزوع .. نص في غاية الجمال والانسانية ...موفقة بابداعك..ودام جمال انسانيتك.
 
كلمات لها روح حنينه، ممتلئة بالشوق والهيام ...ما بين البكاء والفرح منطقة لا يفهما الا الجزوع .. نص في غاية الجمال والانسانية ...موفقة بابداعك..ودام جمال انسانيتك.
الأستاذ حيدر عاشور ، الكاتب المبدع ، أسعدني هطول عطرك هنا ، أسعدني مرور نجمك ..
من دواعي سروري وبهجتي مصافحة حروفك ، لك مني أرق المنى والأمل ، تحياتي وكل السلام ..
 
أعلى