جمال الدين علي الحاج - فقاعة صمت.. قصة قصيرة

( لا أحد غيرك يرتب هذه الفوضى). قال وهو يرمي بالملف على طاولة مكتبي; رفع السبابة وأضاف ( لا تنسى أنك من طلب عمل إضافي).
آه لو عرف ماذا فعل بي؟
لقد هز أركان روحي وهدم ذاتي.
بعد خروجه مباشرة; انهمكت أقلب أوراق الملف الصفراء الباهتة. ثمة رسومات مبهمة وخطوط كنتورية لتضاريس مخيلة مجنونة.
يقتضي عملي متابعة أمر ازالة تلك البيوت التي قررت اللجنة بجرة قلم محوها من على الخارطة. مباني عتيقة هزت كيانها حركة العمران المتسارعة; فبدت مثل رجل فقير معدم وجد نفسه فجأة وسط صالة بورصة عالمية تعج بالثروة الصاخبة. (تلك البيوت القديمة عار على النهضة العمرانية. لقد شوهت وجه المدينة تماما). هكذا رد المهندس رئيس لجنة التخطيط على سؤال المذيعة المتأنقة عن القيمة التراثية لهذه البيوت; وعينه تستقرأ أفكارا فاحشة.
كنت أرى البنايات الزجاجية تقف بخيلاء على قارعة الطريق; و تنظر إلى بيوت البلدة القديمة من عل بإشمئزاز. وأسأل نفسي من أين لهم كل هذه الأموال؟
في زيارتي الأولى للحي المحكوم بالفناء; أمر على البيوت; أتلو قرار اللجنة عليها ككاهن أو مفتي و هي تقف صامتة تحضن بعضها; و ترمقني النوافذ بغبن العاجز أو المحكوم عليه بالإعدام في جريمة لم يرتكبها; وكانت كل الأدلة المادية والظرفية ضده. برتابة أضع سهما باللون الأحمر على صدرها ثم أعود بعد مدة; بعد انقضاء المهلة; ومعي كتيبة الاعدام; أتكئ على جدار اللامبالاة وأرقب الآلات المفترسة وهي تقضم أوصال البيوت كقطع البسكوت بتلذذ. أقراص من الذكريات الهشة المحشوة بطبقة من الأصوات الناعمة; وطبقات من الحنين تلتهمها الآلة النهمة المفجوعة في قضمة واحدة; تذوب الألفة بين فكيها في لحظة هي بمقدار بلع الريق ومد اللسان لتذوق طعم الفاجعة في شفتي صاحب الدار اليابستين المشققتين. لحظة بطول الحياة وعرضها; تستحيل فيها ذكرياته إلى ركام وتراب وغبار; ولا تكتفي الآلة القاسية بذلك وحسب; تجمعها في كومة كبيرة; كومة من الحجارة المصبوغة بالأحلام والآمال والدموع ورسومات طفولية; تحملها الشاحنات إلى مقبرة التاريخ حيث تتحلل وتذوب في تربة النسيان.
كنت أضع السهم الأحمر من جدار إلى جدار وكأنني أرقم بضاعة رخيصة تالفة; وأخبئ عيني من النظرات خلف نظارة شمسية سوداء. نظارة قاتمة علها تحجب ملامح الإنكسار والصدوع التي كنت أراها في تلك البيوت قبل وجوه أصحابها. تلك الوجوه البائسة كانت ترمقني بنظرات حزينة; وهي ترى حيواتها تتهاوى تحت أقدامها وكأنها لم تكن; و تظل الحسرة محبوسة بفقاعة الصمت لاتتفجر بهمسة. ما بال هؤلاء الناس; لماذا لا يصرخون; يسبون أو يستعطفون؟
لو رفعت كفي وأنزلتها لتهاوت ذكرياتهم تحت قدمي ولو تركتها مرفوعة في الهواء ينمو حاضرهم ويزهر ; ولكنهم لا يفعلون.
هل الكبرياء يمنعهم أم أن قلة الحيلة غطت قلوبهم وفاضت وتدفقت كما مياه الصرف التي تحاوط بيوتهم من كل الأركان؟
عندما فتحت الملف وظهر اسم الحي بحروفه المموهة بالخط الأحمر; شعرت بنقزة في كبدي; رحت أقرأ الأوراق; أنقر بطرف عيني أسماء الشوارع والأزقة كما غراب حط على الشاطئ في شباك ممتلئة بالأسماك وكان الصياد غافلا في بطن القارب. الكلمات نبتت بيوت والأسطر تمددت أزقة والفواصل استراحت لنواصي. أحاول أن أخبيء عيني بين الأزقة ولا أقدر; أنفاسي لاهثة وقلبي يدق. زقاق البحر; السوق; أبو علامة صارت بذهني طبقة شفافة من الثلج سرعان ما تذوب عندما تسطع عليها شمس الصباح; توقفت عيناي عند المخبز البلدي الذي يسد الزقاق كقاطع طريق كريم; خارت قواها; أسبلت جفنيها; أصابتها رجفة متقطعة والدموع كما العرق تسيل. أراد المدير مكافأتي ولكنه يعاقبني بهذا العمل. مسحت دموعي; أغلقت الملف وخرجت مسرعا.
وأنا أتجول في الحي القابع في فؤاد البلدة القديمة; أتطلع إلى الشقوق والصدوع ليخرج منها صوت صديق طفولة يناكف أمه قبل الاستحمام. وتلك النوافذ السليمة والمكسرة ربما يطل منها شبح حب قديم. وأتساءل.
كيف يمكنك أن تنحي شهوة إجترار الماضي وأنت أمام طبق ملآن لشفتيه بخبز الذكريات الشهي الساخن؟
كيف ستقنع نفسك أنك تمضغ بخيالك أحداثا طفولية مضحكة؟
وهل ستترك لك قوانين لعبة الحياة مكانا لتمارس فيه مراهقتك أم سيأخذك قلبك وسط كل هذا الضجيج إلى عوالم من السحر اللامتناهي؟.
يندلق فوق رأسي الصوت العذب من الشرفة كماء بارد ( حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي). أتلكأ في عبور الطريق; تتجمد حواسي كليا. وأنا أتتطلع إلى وجه البدر من ثقوب الشرفة; أخاله يبتسم لي; يضيء فلوات بقلبي ظلت معتمة لفترة طويلة; أبلع ريقي الجاف ويخفق قلبي كحلق ضفدع أفاق من بيات شتوي ليجد الشمس ساطعة. وددت لو أسألها; هل أنا ذلك الحبيب الذي تتغنين بحبه من الشرفة المطلة على البحر في كل الفصول؟
ومع علمي أنها كانت ستحرجني لو قالت نعم وتجرحني لو قالت لا ولكنني لم اكن لاكترث. أكتفي بالاجابة الرمادية لعل; أضع كفي المتعرقين في جيوب بنطالي الوحيد وأمضي نشوان وأنا أدندن بالنغمة الحلوة; وأستلف سحر فيروز; فيخرج صوتي كالتيس الصغير; يغازل معزة تفوقه في الطول.
أخيرا وصلت إلى الدار الذي ولد فيه جدي الرابع. دخلت من الباب المشرع; أبي طامح فوق أريكته في الصالة وبجواره براد الشاي; أنفاس طبخ أمي عابقة من المطبخ; احتضنني بشوق وأجلسني بجواره وصب لي الشاي; قلب الأم حدسها; فأتت مهرولة تحمل سنواتها الستين وقرونا من اللهفة. قبلتني واشتمت عنقي وتحسست وجهي وصدري وساعدي وصرخت( لماذا أنت هزيل ألا تصنع لك ابنة نجار المراكب الطعام؟). وهرولت مهمهة إلى المطبخ. قلت.
- أبي..
- لا تقل شيئا لن أترك داري.
ولكن يا أبي..
قاطعني بكفه المرفوعة.
- يا ولدي; قم بعملك واياك أن تتراجع; ونحن في الحي لنا كلام ثاني.
بعد مدة حضرت ومعي كتيبة الاعدام و كانت الصحافة وقنوات التلفزة حاضرة; والشمس في رابعة النهار وقفنا كجيشين متقابلين في ساحة سوق النسوان وكان الترقب سيدنا القاسي الذي لا يغمض له جفن; أبي يتوكأ حفيده ابن شقيقي ويتقدم الحشد; النساء أطلن من فوق الشرفات وأطلقن الزغاريد.
و كان ذلك آخر صوت نقلته القنوات الفضائية قبل أن ينقطع البث المباشر لنقل وقائع جلسة البرلمان.
  • Like
التفاعلات: حيدر عاشور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى