حيدر عاشور - سلوفان.. قصة قصيرة

ها قد عبرت فوق عشرات المدن والأنهار ، وكل أنواع التضاريس ووشمت بخطواتي كل الحدود ، ودفنت روحي في صالات الانتظار في مختلف مطارات العالم، فمنذ خمسة وعشرين عاما وأنا اصلب في الأجواء والترحال الدائم حتى أصبح جسدي حقيبة عتيقة احملها رغما عني بحثا عن المجهول.
عالم مصنوع من السلوفان.. مدن باذخة وجسور عملاقة.. غابات من النساء وانهار من العطور.. وكل ما تتمناه تجده مغلّفا بورق من السلوفان ، وقد تبدو الأشياء في المدن البعيدة مثل قطع مصنوعة بحذق، لكنها تفقد شيئا ما أو طعما ما لا تجده إلا في أرضك وقيامتك القديمة ، لقد شبعت من رائحة المطارات وتأشيرات الدخول والخروج ... المشكلة في مدن الرفاه والعجائب انك برغم الجنائن تشعر بغربة أنفاسك وتعب روحك ، وان الزمن يمضي خارج إحساسك ، فجسدك المحمول على شكل حقيبة مجهولة هو جزء من ارض تئنّ في داخلك وتسحبك منك بقوة خفية الى مداراتها.
لقد فوجئت أنا قبل أي شخص أخر بقراري المباغت بالعودة الى مدينتي القديمة ، وركلت أرصفة الغربة وأنا أسير في مدينة مصنوعة من الزهور والقرميد ، والشوارع الخضر، ومن الصعب في هذه المدينة المخملية أن تميّز بين الليل والنهار ، وليس في الأزقة والزوايا سوى الموسيقى والرقص الأزلي والفرح الكرنفالي يشع بألقه في كل الوجوه النضرة ... ورغم كل هذا التراكم المصنوع من الشهد .. نعم قررت أن أعود دون سابق إنذار ودون ان ابلغ أحدا أو أرسل رسالة أو برقية تنبئ بعودتي المفاجئة ، شعرت بأن أكفا تحاصر روحي ، وحاصرني شعور غريب في الأيام الأخيرة وأنا في صالة السينما أو أعوم على الشواطئ الزرق ان قلبي قد يتوقف فجأة فأموت بعيدا عن ارضي القديمة بعيدا عن أمي وأبي وأشقائي وأصدقائي.. بعيدا عن مدرستي القديمة وأروقة كلية الهندسة التي قضيت فيها أجمل سنوات عمري، ولمّا لم أجد وظيفة قريبة تليق بشهادتي قررت الرحيل باتجاه المجهول.. لكنني والحقيقة تقال تعبت من بذخ المدن والسهر وعدم الشعور بالحاجة الى اي شيء.. عالم من الأزرار ما ان تضغط عليها حتى تحصل على كل شيء،وتتحول الحياة هناك الى حلم ليست له نهاية.. لكن روحك البعيدة تشيخ مبكرا وسط التسكع والتخلي عن الذاكرة القديمة.. كل هذا الترف الدنيوي والمطارات والبنوك والسواحل لم تستطع ان تسكت هذا الأنين الذي يتصاعد في داخلك كأنه صراخ وحنين لا يمكن إسكاته بعد ان تخثّرت الأنفاس وأصبح العالم الذي خلّفته هو طفولتك المؤجلة تستعرض في كل ليلة ما حدث لك وكأنك مطرود من الجنة الموعودة.. هل ثمة سحر للأمكنة؟ كنت أهزأ بما أسمعه من مرض (الهومسنك) أو الحنين الى أرضك القديمة، لكنني سقطت هذه المرة تحت اعراض هذا الهوس .. الغربة مثل عاهة مستديمة لا يمكن علاجها الا بالعودة ،وها انا ذا قد قررت العودة دون ان اهتم بمصالحي وقيمة الزمن الذي يحرك كل العوالم والاحداث فكل شيء تحت إحصاء الدقائق والساعات.
ها انا أتطلع من نافذة السيارة التي تقلني من ارض المطار باتجاه الاحياء ، باتجاه بيت الذاكرة القديمة.. بدأت روحي تنتفض بقوة وعيناي تلتهمان الصور والاشكال وفي أعماق رأسي المتعب تندلع المقارنة بين الذي كان وبين الذي أراه شاخصا امام ناظري. تجمهر الجيران والمعارف والأهل حولي وهم يحيطون بي ويدققون في مظهري وشكل شعري وكأنني كائن نزل عليهم من كوكب بعيد واعرف أنهم يتهامسون في أعماقهم بشتى الأفكار والوساوس.
- جاء المهندس سالم ابن الحاج رزاق بعد عشرين سنة من السفر.
- يقال انه قد جلب معه ملايين الدولارات.
- لماذا عاد .. هل هناك من يترك جنة السفر .
- لقد سمعنا انه يعاني مرضا من امراض الدول البعيدة .
- ربما عاد ليتزوج ويأخذ زوجته معه.
- ان الدول بدأت تتخلص من اللاجئين .
- ربما يعود..
- ربما لا يعود..
- ان عودته فيها سر لكن الأسرار لا تبقى على الدوام أسرارا.
دارت في عقلي هذه الهمسات والنظرات المتفحصة له وشعرت بأنني أعود اليها بعد فراق، فالفرق ان في البعيدة لا احد ينظر اليك بهذا الهاجس الميكروسكوبي ولا احد يصيبه الفضول لاكتشاف ما تفكر به.. اما هنا فالمسألة تختلف تماما فالآخرون يتلصصون عليك بكل دقة وهمة ويتابعون شؤونك وكأنهم دائرة رقابية خفية.
بعد أسبوع من التجمهر والحكايات وانا في كل جلسة أعيد ما حدث لي خلال الزمن الذي أمضيته في غربتي والمدن التي زرتها والاعمال التي عملت بها وكم ضقت ذرعا بهذه الإعادة المملة وفعلا فكرت في ان أسجل حكايتي على شريط وأوزعها على الأهل والمعارف وأتخلص من هذا التحقيق والأسئلة التي لا تنتهي .. تطلعت في الوجوه.. أمي وقد ابتلعتها الشيخوخة وهي تكاد لا تعرفني.. أبي يعاني أيامه الأخيرة وقد تكالبت عليه أمراض غريبة.. أخي هشام لم أره لأنه يسكن في محافظة بعيدة حيث لم يجد له سكنا في بغداد..اما الأصدقاء فلقد تفرقوا وأخذتهم الحياة في أمواجها العاتية.. تسلل الملل الى أعماقي وبدأت غربة مقلوبة تنهش جسدي وأدركت انني لم استطع الانسجام مع هذه الأمكنة التي شاخت وأصابها الخراب وقد تبدل الناس وشحبت وجوههم وغابت فيهم الحماسة ، اختفى العبق الذي كنت انتظره .. وبعد أيام حتى الأسئلة والدهشة حول ترحالي انتهت.. تطلعت من نافذة بيتنا العتيق الذي لم يتغير فيه شيء بل انهار وتساقط منه الكثير وما الذي سأعمله في هذا العالم الذي بدا لي غريبا عني هو الآخر؟ وحاصرتني الوحدة من جديد بعد ان أصبحت كائنا مألوفا وتبخر السحر والدهشة التي شعرت بها وانا أقدم إليهم من غياهب الغياب ، وأيقنت بأن الغياب والمجهول يصنعان منك صورة خيالية تقترب من الأساطير ولكن ما ان تنزل من أعتاب الخيال حتى تتحول الى شخص عادي مرة أخرى ، وما أقسى الغربة الجديدة في أرضك القديمة فأرضك لم تعد أرضك والوجوه لم تعد ملكا لذاكرتك القديمة.. كل شيء تغير وتبدل وارتدى ثيابا ممزقة حتى المدرسة القديمة قد هدمت وأصبحت مكانا للنفايات وفجأة اشتعل في رأسي هوس الترحال من جديد ويبدو ان السفر نوع من الإدمان لا تستطيع التخلص منه وقد نوهم أنفسنا بأننا نريد الخلاص والعودة ولكن العوالم التي تغيرت والذاكرة التي مسخت تجبرك ان تمسك بحقيبتك باحثا عن نفسك من جديد وستبقى مصلوبا بمسامير خفية بين الغربة والعودة ، وقد بدأت لا أميّز بين الغربة والعودة .. أيهما أكثر غربة طالما ان الصور قد اختلفت ومن الصعب ان يسير الزمن الى الخلف بهذه السذاجة .
لم أجد علاجا سوى الحصول على تأشيرة والتوجه الى المطار في قرار مفاجئ جديد بحثا عن المجهول الذي أصبح سري الداخلي.


*حيدرعاشور
*قصة قصيرة من مجموعة (بوح مؤجل)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى