خالد حوير الشمس - اللغة تقنيةُ أداءٍ في المنجز القصصي لعباس عجاج..

من هو عباس عجاج؟

قبل البدء بالتحليل لخطاب عباس عجاج السردي في مجموعتيه القصصيتين: (شظايا ) قصص قصيرة، و(رقصة الموتى) قصص قصيرة جدا، المطبوعتين في سنة 2018 في بغداد عن دار المتن للطباعة والنشر والتوزيع، أود أن أذكر التكوين السيري لعباس عجاج من محورين.

المحور الأول: متمثلا باسمه عباس عجاج لفتة من مواليد الكويت 1970مسيحية. نشأ في عراق المحبة والخير، وعلى ضفاف نهر الفرات جنوب العراق في مدينة الحضارة والدفء مدينة الناصرية بقايا أور، وسومر، وأورنمو، بدأ تحصيله الدراسي في دولة الكويت حتى وصل إلى مرحلة الإعدادية. وبعد رجوعه إلى العراق لأنه من أصول عراقية، وحالت الظروف السياسية، والاجتماعية دون بقائه هناك، فبدأ يمارس الكتابة في وقت متأخر بحسب معرفتي به، وبدأ يطلع، ويتعرف، على حيثيات التنمية البشرية الوافدة إلى العراق بعد 2010 تقريبا، فأسس منظمة تعنى بها سماها منظمة إدراك للتنمية البشرية. إلا أن هذا التعريف لا يوقفنا على كنه الكاتب وقفة حقيقية، إذ له ذات أخرى غير سطحية.

المحور الثاني: وهنا ما أميل إليه، وأتبناه، أن تؤخذ السيرة للأديب من نصوصه، وأحسب أن تلك هي الهوية الحقيقية التي تفيدنا بأمرين. الأمر الأول تجاوز مقولة المركز الاجتماعي والانتقال إلى وجود الهامش الذي ينتصر لمقولة ليس الفتى من قال أبي، وإنما الفتى من قال ها أنا ذا. والأمر الثاني هو إعطاء الهوية الحقيقية للفرد أو الأديب لأنه يعكس كل ثقافته، وشخصه في كتاباته، وهذي هي السيرة الحقيقية أو السلوك الحقيقي للفرد لأن النص حجة كما يرى بعضهم، أو بتعبير آخر أن النص هو الكاتب، أو هو ذات الكاتب، وهنا سيرة تستشف من النصوص، يتأولها المتلقي، أو الناقد إذا صح التعبير.

فعباس شخصية من جنوب العراق، حاول أن يعكس التعثرات الحاصلة في تلك البيئة الجنوبية، فكان شخصا ينبذ التشظي في الواقع العراقي أولا وفي البؤرة الجنوبية ثانيا، حتى اختار عنوان شظايا لقصصه القصيرة حتى يقود المتلقي للاطلاع على حجم التشظي الذي يحيط بكل فرد جنوبي أو عراقي، لاسيما وأنه يحاول أن يبث فلسفة الانكسار في تلك النصوص التي سجلها.

حتى وصل به الامر أن يقدم استفهامات عن الاقتتال الحادث بين أفراد المجتمع: لماذا نقتتل، أو على ماذا نقاتل أو حتى إلى متى؟ ولعله ينبذ الانهزامية في المجتمع، وتأكيد الشجاعة والانتصار متخذا نموذجا حيا وهو موقف الإمام الحسين عليه السلام في قصته نزيف النهر: ((حين سقط فارس من صهوة الجواد مذبوحا من القفا، يشخص ببصره نحو غد بعيد، وصدى صوته يشق عباب الزمان يصدح: ألا من ناصر ينصرنا)).

تعكس قصة الطوطم التي سجلها في قصصه شظايا الواقع الذي اطلع عليه عباس عجاج وتصويره واقعا، بدائيا، ريفيا يؤمن بالخرافات والأساطير: تقول الأسطورة إن في كل ليلة قمرية يسمع الناس [شاب] وفتاة يسامران)).

كان عباس حالما بعوالم منها التخلص من الفقر، والبؤس، وطبائع الحروب، وكثرة الضحايا، والحلم بعالم الطفولة الوردية، وعدم تحملهم المسؤولية منذ صغرهم، ((الأطفال الذين فقدوا طفولتهم يحملون على أكتافهم علب المناديل الورقية يجوبون الشوارع الخاوية بحثا عن عرق ينساب من جبين من خلف النوافذ المغلفة للسيارات العابرة بجنون)). ويضل يعبر عن تلك الأحلام المسروقة في مجموعته رقصة الموتى: ((جثوت على أوجاعي، تشبثت بسراب النهار، تغشاني الليل، كل ما حولي خواء، الأشياء تتبدد)).

حتى أخذ يتحسر على أنقاض الحرب التي خلفتها بسبب السياسات الخاطئة في قصته صنف: ((أرسل القائد ضفادع بشرية، انتهت الحرب، وما زالوا ينقنقون)).

وما دام ينتمي إلى بيئة سومر وتراثها، فهو متنعم بهذا التكريم الذي لا يليق للطارئين على فلك الحضارة ((كتبت نصا بخط مسماري، اعترض المحكمون، سومري عتيد منحني درجة كاملة، تصدرتُ مؤخرة النتائج)). وهذا الاعتزاز المكاني يعكس حجم هويته الجغرافية التي تمثل اصوله الأولى قبل ذهاب أهله إلى الكويت التي نشأ شبابه فيها حتى تركت أثرا طيبا فيه أخذ يسجل دمارها على يد الحكومة العراقية في تسعينيات القرن العشرين، وكان ذلك في قصة (رذاذ عطر البنفسج).

يصور عباس حجم الزيف الذي انتاب مبدأ الحب في أيامه في قصته زائرة الليل: ((مضى زمن طويل، مذ دخلت محرابي بلا استئذان، ابيضت لحيتي، وما زالت تتمرجح على مقلتي)).

وبقي عباس يوظف التقنيات الحديثة والالكترونية في كتاباته ومنها في قصته تاريخ: ((افزعني مقطع فيديو لعملية جز الرقاب، أعدت المقطع مرة أخرى تسارع المانشيت كثيرا، رأيتهم يذبحون الحسين من القفا)). ثم يستمر ليوظف علامة +18 ((دهشت حين سألني الصغير عن دلالة تلك العلامة أجبته تعني للكبار فقط، قال: الآن عرفت لم لا تكتب على القبور)).

دلت نصوص عباس التي وقفت عندها سيريا على هويته الذاتية، والاجتماعية، والمكانية، ونزوله إلى تصوير واقع العراق عامة أو واقع الجنوب خاصة.

الواقع القصصي في ذي قار:

ينتمي عباس عجاج إلى بيئة أدبية، بل معجونة بروح الأدب، والتراث، والحضارة، بيئة محفزة على الكتابة، من جهة الطابع المجتمعي الذي تعيشه، ومن جهة تركة الحرب، وفتك الساسة، وتسارع الأحداث، وتنامي الوعي الالكتروني، والايمان بالحداثة والتجديد لدى الفرد العربي او العراقي، وهذه هي البواعث التي تبعث على كتابة القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا.

وإذا أردت التأريخ لظهور الفن القصصي في ذي قار، فبرز الكتاب القصصيون الناصريون بمدة وقريبة من بروز هذا الفن في العراق تقريبا، ومن اولئك القاص صبري حامد في خمسينيات القرن العشرين المنصرم كما يرى الكاتب داوود سلمان. ومع تقدم الحياة والظروف ظهر الكبير عبد الرحمن الربيعي، فكتب القصة القصيرة. ومع دخول السبعينيات كتب مجموعة من الشباب ومنهم أحمد الباقري، وجاسم عاصي، وبلقيس نعمة العزيز، وضياء خضير، ومحمد سعدون السباهي، وداود سلمان الشويلي[1].

ثم جاء جيل آخر مثله علي السباعي الذي خلق تجربة خاصة به، فكتب قصصا قصيرة، ومنها: بنات الخائبات، وايقاعات الزمن الراقص، وكذلك كتب قصصا قصيرة جدا، منها مدونات ارملة جندي مجهول، فضلا عن كتابته للقصة وسجل لنا قصصه المشهورة (زليخات يوسف).

وفي وقت متأخر نشط شباب ذي قاريون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكثرت المسابقات، والمباريات القصصية القصيرة، والقصيرة جدا، فكتب بعض القصص القصيرة جدا الشاب اثير عبد الزهرة الغزي، فنشر على موقع الحوار المتمدن قصة ثرثرة، ووسيلة، واستلاب، وفاز ببعض منها.


قيمة اللغة بوصفها تقنية نصية أدائية:

تثار بعض الأسئلة المهمة في هذه الورقة بوصفها محركات توصل الفكرة للمتلقي، الأول ما معنى الأداء، وما معنى التقنية، وما معنى اللغة؟

اذ يدل معنى الأداء على الطريقة التي تؤدى بها الحقائق او المفاهيم او الأفكار[2]، اما التقنية: فتعد الصفة الفنية او الكيفية التي تتقن العمل وتحكمه، وقد انتقلت او استعيرت في مجال الكتابة دالة على الطرق المستعملة في معرفة الكاتب وتصويرها في النصوص وهي هنا تقترب من الأداء لتكون وسيلة من وسائل الأداء الادبي، حتى عدت التقنية أسلوبا لدى الشاعر او الكاتب ولكل كاتب تقنياته الخاصة به[3]. وقد تتعدد التقنيات الكتابية في جنس الكتابة النثرية، فمنها تقنية السرد، وتقنية اغراء العنوان، فجاءت العنوانات متنوعة متوسطة بين احتياجها لاشغال دائرة التأويل وعدم احتياجها، وكذلك تقنية الحوار بينه وبين السارد، كما في قصة عصفور الشمس التي حاور بها الحاج يونس، وتقنية التناص واستدعاء النصوص السابقة ومدى اجادة توظيفها في كتاباته، وتقنيات اخر حتى نصل الى تقنية اللغة والإفادة من ايحاءاتها استنادا الى بوصلة التأويل.

واللغة بؤرة الحديث هنا، فلها دلالات كثر أهمها أنها وسيلة تأثير يستعملها الكاتب على المتلقي بعدما كان ذلك التأثير صورة ذهنية مرتبطة بفكرة ما. وقد أشار ابن جني الى وسيلة التأثير حينما صرح بأنها يعبر بها كل قوم عن اغراضهم، ولا يتحقق العطاء اللغوي الا بمزاولة بعض الفضاءات ومنها الأفكار، والبناء النحوي، والصرفي، والصوتي، والمعجمي، والتطورات الدلالية ذات الايحاءات والثقافات التي تمر في العصر او بتعبير اخر التطورات الواردة في سياقات الثقافة التي يعيشها الاديب، فحينما يعرض الاديب تجربته الإنسانية يسلمها ذمة الى اللغة، وهي الحكم في جعلها شعرا أو نثرا، او نصا او لا نصا حتى يقول جان كوهين: ((والذي ينبغي قوله هو أن الأشياء ليست شعرية الا بالقوة، ولا تصبح شعرية بالفعل الا بفضل اللغة، فبمجرد ما يتحول الواقع الى كلام، يضع مصيره الجمالي بين يدي اللغة، فيكون شعريا ان كانت شعرا، ونثريا ان كانت نثرا))[4]

عباس واحد من الذين استعملوا اللغة لخلق التأثير على المتلقي- شأنه شأن أي أديب آخر-، ذلك التأثير الذي يمكن أن أفسره بتفسيرين، الأول الإقناع وتغيير القناعات، حينما يحمل النص الادبي شحنات فكرية او آيديولوجية وهنا خرج الشعر عن وظيفته الأساس، والتفسير الثاني الامتاع والدهشة الذي يكون وراء الفن للحياة او للفن.

لست بداحض للتفسير الأول ولا الثاني، بل اترك الحديث عن هذا الامر لأسلط الضوء على المفاصل اللغوية التي وردت في كتابات عباس عجاج السردية، ويكون ذلك عبر سبيلين الأول تطبيق قاعدة النظام اللغوي، والأخر خرق قاعدة النظام اللغوي، باعتبار أن اللغة نظام.

يندرج في قاعدة النظام اللغوي، تطبيق القاعدة النحوية، والدلالة الوضعية، والتعبيرات الحقيقية. ويندرج في خرق النظام اللغوي اللعب اللغوي او الاسلوبي وهنا يكمن قياس الاديب ومدى تأثيره واستعمالاته السحرية التي تؤهل نصه ليكون نصا يفاوض النصوص الأخرى ويباريها ليكون أولا او يكون آخرا.

- تطبيق النظام اللغوي: النظر الى اللغة وتراكيبها على أنها نظام لغوي قد يكون نظرا في غاية الدقة، لان هناك مؤهلات النظام في اللغة، واولها ووجود القواعد والمعايير التي يمثل الخروج عنها انحدارا في التواصل، والتفاهم بين المتكلم والمتلقي، حتى أن النظام النحوي ((أصبح الأداة الفاعلة في تشكيل الصياغة من جهة، والكشف عن جمالياتها من جهة أخرى))[5] فلا اريد الاطالة في هذه الجزئية مكتفيا بنتيجة مفادها ان الكاتب حاول ان يلتزم بالقواعد النحوية في كتاباته الا النزر اليسير مما يحسب على الطباعة والطباع، ومنها فتح همزة بل في قصة المتوحد القصيرة: ((لا احد يعرف ماذا يكتب، ولمن يكتب.....بل [أن] الأوراق الممزقة التي يرميها بعد الكتابة...))[6]. وكذلك فتحها بعد مقول القول: ((قيل أن أحدهم بصق في رافد النهر))[7].

وقد ورد اسم إن منصوبا في قصة المتوحد القصيرة، وقبل ذلك أدخل الألف واللام على (بعض)، وقد الفاعل بلا مبرر، وكذلك استعمل لغة اكلوني البراغيث في الفعل المضارع، وهذا ما ورد في نص واحد من القصة نفسها : ((البعض يظن أنه أحد رجال الأمن المتربصين بالمكان، وآخرون يعتقدون أنه مريضا نفسيا...))[8].

تحقق النظام اللغوي بطريقة الدلالة الحقيقية الا أن طبيعة القصة القصيرة جدا تؤمن بالمعنى الأول لكنها لا تريده بل تريد معنى المعنى او المعنى الثاني ومثالنا القصة القصيرة جدا (لقاء) : ((كان مجرد حادث سير بسيط جدا، ما غير موازين الأحداث أنني أرى ملك الموت للمرة الأولى))[9].




- خرق النظام اللغوي:

اتباع هذه الالية في الأداء النصي او الأداء اللساني في نصوص عباس عجاج يصنف ضمن الانزياحات التي يعول عليها المسبار الاسلوبي او منهج التحليل الاسلوبي في الدرس النقدي الحديث والقديم أيضا، وكذلك يلتصق بدوره ضمن استراتيجيات التخاطب التداولي الذي يروم التأثير بالمتلقي، ويحقق مقاصد يريدها الكاتب يبثها في قصصه عبر هذه التقنية اللسانية الجمالية ليحقق وظيفة الارتياح النفسي عند المتلقي، والولع بنصه[10]

أول مفاصل تجاوز النظام كسر الدلالة المعجمية الى دلالة مجازية أخرى، ومنه أن لفظة استقبل (استفعل) من اقبل، تدل في المعجم على القيام بالمجيء، وثم الزيادة الصرفية اعطتها معنى الترحيب والحفاوة، وهي هنا تكون من الاحياء لاشك، الا أنها وردت في القصة القصيرة جدا (-1) مسندة الى الموتى ((اكتملت مراسيم الدفن، استقبلني الموتى بحفاوة، أنهيت الاختبار المهول، أخذت نفسا عميقا، تفقدت جسدي...))[11]، اذ القارئ يجزم بعد إرادة المعنى الحقيقي من التركيب او المعنى القاعدي الصوري، ويعطيها معنى تواصلي؛ اذ من غير المعقول أن يستقبل الموتى الموتى!

ومن تلك الخروقات اللسانية الاخر في تعبيراته في قصة شذوذ: ((أم تحتضن أولادها، تلتهمهم فردا فردا، منسوب الشبق يبلغ درجة الجنون، الناجي الوحيد قال: أمي ليست أمي))[12]. اذ يدلل على شدة الحنان التي تمتلكه الأم، لكن ما يريد بالأم هنا في هذه البوتقة النصية؟ هل هي الام الحقيقية ام الوطن هو الذي يحتضن افراده؟ تبقى الام مادة خاما امام الدلالة الاحتمالية.

ومن الوقفات التواصلية الأخرى في قصصه القصيرة جدا التشبيه، تشبيه الفتيات بطائر القطا: ((كانت الفتيات كطير القطا، يتعثرن على وجوههن، وصراخاتهن تمضي في أفق ممتد حيث اللانهاية))[13]. اذ يصور في تشبيهه هذا دلال النساء وغنجهن حتى يكادن يتعثرن كما يتعثر طائر القطا المعروف حينما يفزع من وكره فيكون طيرانه متعثرا. اذ يقع الفهم الحقيقي خارج افق التلقي ويحاول المتلقي صناعة معنى جديد يفرضه السياق التركيبي عبر أداة التشبيه الكاف المذكورة في فضلا عن ذكر طرفي التشبيه.

والسؤال المهم هو لماذا ولج الكاتب ميدان الطبيعة لاحضار هذه الصورة من دون غيرها؟

اظن أن وضوح الموقف لدى المتلقي، وتشبع الكاتب بهذا الموقف، وبساطة الرؤية دعته الى مراعاة اطراف العملية التواصلية وتحقيق المعنى التداولي وتحقيق القصد الذي يريده، وهو إقرار دلالة العذراوات او الغواني في العصر الحديث حتى أن سياق القصة يعد هذه الموضوعة بؤرة يتحرك في ضوئها النص، فصارت البنت دلعا، بل صار شعار الدلع شعارا يوميا وساعاتيا، ودقائقيا، حتى غدون الدلوعات ان لا يراعين الحشمة والستر في ملابسهن: ((دلع كما دأبت النساء ينادينها، سقطت على دبرها، فانكشف عما بين ساقيها، فكان لعاب جدي يسيل))[14].

وكان للبعد الكنائي وظيفة تواصلية بوصفه وسيلة تعبير، وبوصلة من بوصلات الانزياح الاسلوبي أفاد منها عباس في قصة ارتجال القصيرة جدا، في سياق نقد الحاكم، اذ كنى عن ظلمه بقوله: ((ارتقيت المنصة، ألقيت قصيدتي في حضرة الرئيس، مطلعها: الله أكبر ...الله أكبر ؛

نظرت بوجه معاليه، أكملت الشهادتين))[15].

اذ دل اكمال الشهادتين على الظلم المتوقع من لدن الحاكم العربي في أقل تقدير، لاسيما وأن الواقع، والمتحصل، والمتوقع يؤكد عدم تقبل الحاكم النقد والحرص على ممارسة حرية التعبير في زمن ادعت فيه السلطات العربية او العراقية الحرية في دساتيرها، وبناء دولتها. وكذلك يؤكد الأسلوب الكنائي في أدائه وخطابه على تصدي الاديب للواقع السياسي او سعيا وراء رصد ترهلات الحكام والبحث عن العدالة الاجتماعية، ومدى الظلم الذي يؤديه الحكام عند سماعهم ردود الفعل، او حتى عند عدم اكمال سماعهم وهذا ما يحدث في اطار التوهم او عدم الفهم الكامل بان عباس لم يصرح ما قوله سوى بدايته بالتكبيرة لمرتين، ليدل على ان الخطاب الديني خطاب موجع للحاكم الزائف لاشك.

وتعد بنية التوزاي التركيبي بنية ذات حضور مكثف في كتابات عباس عجاج لما لها من أثر في جعل المتلقي متابعا، او مستوعبا مثاليا عند تحاوره مع النص، من جهة الموسيقى، والدلالة، والصيغة، وقد يتوزع التوازي على أبواب النحو العربي كافة بحسب قدرات الكاتب، افاد عباس منه في النوع الفعلي تحديدا في قصته القصيرة جدا (رقصة الموتى) بصيغتي الفعل المضارع، والماضي، بلحاظ الفاعل الواحد او المتحد بتعبير أدق في التكرار المضارع او التوازي المضارع ، وبلحاظ الفاعل المتعدد في تكرار او توازي الفعل الماضي: ((اعتادوا في مثل تلك الساعة أن يحتفلوا بالقادم الجديد، قام أقدمهم يركل العظام، ينفض التراب، ويصرخ بالجثامين البالية؛ ارتعدت القبور، اهتزت الشواهد، وتراصفت الجثث لتفسح المجال لأولئك القادمين من تحت أنقاض مدرسة قصفتها نيران صديقة))[16].

الإحالة الغامضة او الإحالة الخارجية على مجهول ممكن النظر اليها بتفسيرات عدة، أجلاها عندي في اقل تقدير بحسب أن هذه القصة قد سمى بها مجموعته واختارها عنوانا وثريا، فيكون تفسيرها الافراد العراقيون المهملون على مسيرة عقود، ثم زوال غبرة لم يكن يتوقعوا زوالها في وقت محدد، حدده عباس باسم الإشارة (تلك) متضايف مع لفظة ساعة (تلك الساعة)، فجاء الفعل المضارع الدال بصيغته على الحدوث والتجدد على امل الخلاص من الزمن العاثر، فحضر الأفعال المنتمية الى حقل الانتهاء، والابعاد، والتخلص فكانت: يركل، ينفض، يصرخ. وبعدما انهارت الاحلام، وخابت الظنون، فقل العطاء، وكثر الموتى، إضافة الى موتى سابقين، انتفضوا، راقصين احتجاجا على الفعال السابقة: فارتعدت القبور، واهتزت الشواهد، ثم تراصفت مستسلمة للامر الواقع مرحبة بالموتى الجدد بفعل خيانة القريبين او النيران الصديقة كما يسميها الكاتب او يستعيرها من الاعلام. وفي اخر المطاف أن هذه الأفعال المتراصفة او المتوازية بزمنين ماض وحاضر لخصت مشوارا عراقيا ضخما، لخصت جيلين او حقبتين، او حكومتين اذا صح التعبير.

وظف عباس تقنية الاستعارة لتوصيل ما يدور في نفسه من نقمة على بعض تصرفات المجتمع في الأيام الأخيرة في قصته القصيرة حفيد الانوناكي، لاسيما أصحاب المال الكثير، والسيارات الفارهة لدى أصحاب المال الوافر: ((كغيري من الناس، أصابني الجشع، وحلمت بتلك الأموال التي هطلت على المدينة بعد أن كثر أصحاب السيارات الفارهة))[17].

الاستعارة في لفظة الهطول، المستعملة على وفق قانون المصاحبات اللغوية مع المطر، بتركيب المتضايفين (هطول المطر)، ولوجود علاقة المشابهة بين هطول المطر بصفة غير متوقعة او ربما وجود عنصر المفاجأة في هطوله، فأصبحت الاستعارة (هطول المال) وذلك عدم توقع توافر المال عند بعض الناس، وعدم استيعابهم لذلك الثراء، وعدم توظيفه بالشكل الذي يرضي الباري، ويحافظ على ماء وجه الفقراء، فيفسر هذا هطولا، وقد يكون له تأثيره النفسي على الاخرين، حتى أن أحد الفقراء وهو السارد، أخذ يحلم بما حصل عليه أولئك المظهريون، والمتبرجون بسياراتهم الفخمة. ويفسر ذلك الحضور الاستعاري في موضوع الاستعمال الخاطئ للمال الوارد بطريقة سريعة تفسيرا احتجاجيا، وذلك الاحتجاج وصل حد المبالغة عبر الاستعارة والتشبيه بين هطول المطر وسرعته ومباغتته وبين كسب المال.

وتعد إيقونة الحذف ملمحا اسلوبيا، وتقنية لغوية توصل صورة الضياع والحرمان التي يعيشها الفرد في الأوطان مسلوبة الرفاهية، والعيش الرغيد، حذف المبتدأ في القصة القصيرة جدا (حقوق مشروعة)، والتقدير (هذه حقوق مشروعة)، الا أن اسم الإشارة يشير الى معلوم، ولو ذكر لكان اعتراف من الكاتب بوجود هذه الحقوق وتوافرها، وهذا لايريده النص، بل يريد عدم انتفاع الفرد بحقوقه المشروعة له، فترك الامر غامضا، مبهما، بتقنية حذف المبتدأ. ثم ألحقه حذف الفاعل في النص نفسه (يقف قرب الدفة)، اذ حينما يشعر الفرد بالاجحاف، والتمهيش، والطرد، يضطر الى المغادرة، ووداع ذلك الوطن، فيصور هذا المشهد المؤلم، وحيرة ذلك المواطن المهمش، حتى أنه يهم بالمغادرة، وبالبقاء حينما يرى العجائز او الأمهات يتوسلن بأولادهن، ليمنعنهم عن المغادرة لان الوطن في حوج لهم: ((ترتفع الاشرعة معلنة ساعة الوداع، يقف قرب الدفة ينظر الى أمواج البحر فتأخذه الى حلمه في وطن جديد.

وتارة أخرى تعيده الى الشاطئ، حيث كانت تقعد عجوز حرى تستحلفه البقاء))[18].

ويرتبط ترتيب المكونات اللغوية او الجزئيات النحوية بالمقاصد، ويحمل دلالات أولها الاهتمام، وهذا ما اقره سيبويه في قوله المشهور الذي مفاده والعرب يهمون بتقديم الأهم، والأعنى، وكذلك للتركيز على المتقدم وجعله بؤرة الدلالة، والمركز في التركيب؛ لينصرف المتلقي الى المعنى في المقدم دون غيره، فحينما سرد عباس قصة البطلين عادل ونهاد في قصة (رذاذ عطر البنفسج)، وبعد فراقهما الطويل وعودتهما للاتصال والتواصل التقيا فكانت ((لغة العيون تسمو فوق كل الكلمات...))[19].

فتقدم الفاعل على فعله جوازا، للتأكيد على حجم اللوعة القادمة من الفراق الطويل، بسبب الحرب العراقية على الكويت او بسبب غزو العراق على الكويت ليسوق من خلال ذاك المشهد القصير الاعتداء السافر على الدولة الكويتية مسقط رأسه، بوصفها مكانا ينتمي اليه، ولا تفارق مخيلته، وهنا ارتباط نفسي يستحضره الكاتب على المتلقي ليحمله شحنة حجاجية عاطفية.

الان يأتي السؤال المهم: ماذا أراد أن يوصل عباس عجاج عبر اللغة بوصفها تقنية؟ او ما هي الشحنات الدلالية التي حملتها اللغة عند عباس ليتبع أداء معينا ينضوي في صحيفة القواعد الصورية او الخروقات اللسانية التي تدرس في ضوء المسبار التواصلي او التخاطبي؟

الإجابة تكون ما هي وظيفة القصة القصيرة أولا وما هي وظيفة القصة القصيرة جدا باعتبار أن مادة الدراسة تنتمي الى هذين الجنسين او النوعين النثريين السرديين، ثم أسلط الضوء على الهدف الكلي أو الفعل النصي الكلي الكامن وراء هذه النصوص التي أوردها عباس عجاج في قصصه.

اعتقد أن الوظائف الأساسية للفن القصصي، سواء أكان قصة قصيرة او القصيرة جدا هي وجدانية الأدب، وتغطية مستجدات العصر، والأحداث اليومية او العصرية، بلغة عالية، بعيدة عن الوضوح، والإطالة، ويكون ضمن ذلك اشباع الحاجات الاجتماعية، والسياسية[20].

عباس أراد أن يسجل او يصور ما يعيشه الفرد العراقي أولا ، أو الفرد الجنوبي ثانيا عبر الخلجات التي راودته، فهذه الخلجات او التمتمات او تتوزع على المفصل السياسي، والاجتماعي، أو الديني، وفيها تفاصيل متعددة. وفيها تداخل كبير أيضا حتى تتمازج تلك الرؤى الثلاثة ويكون الثاني نتيجة للأول!

فما ألحقته السياسة بالمجتمع جاء بسبب تمادي السلطان، واستسلام الفرد، ومنه ما جاء في قصته ارتجال التي مر تحليلها المقتضب في الصحف السابقة، وهذا الفعل السياسي الوزغ يزرع اليأس والقنوط في أرواح المجتمع ونفوسه، فيكون عبئا مجتمعيا له نتائجه الكثيرة، من جوع، وفقر، وحرمان، وبؤس، وضياع، وسرقة أحلام حتى جاءت احدى قصصه بعنوان (سرقة حلم): ((جثوت على أوجاعي، تشبثت بسراب النهار، تغشاني الليل، كل ما حولي خواء، الأشياء تتبدد))[21]. فكانت الحرب، والمرأة، والصديق، والزوجة، والوطن، كلها مؤثرات حفزت عباس على الكتابة والابداع في هذا المشوار، والسعي الى نسجها عن طريق الخيال، واللغة، والسياق، وهذا التصور في نصوصه جعلها تنتمي الى الاتجاه الواقعي القائم على تصوير الحياة الاجتماعية[22].

السؤال الأخير : هل بات عباس عجاج مؤثرا عبر اللغة وادائه اللساني والسحر المفرداتي؟ هذا جوابه متروك للمتلقي لانه هو الذي يقرر الدلالات وهو الذي يحلل النصوص، ربما متلق لا تسحره كلمة بينما تسحر اخرَ الكلمة نفسها.



* المصادر:

- الادب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية، الدكتور عبد الاله أحمد، منشورات وزارة الاعلام- الجمهورية العراقية، 1977م.
- الانزياح في التراث النقدي والبلاغي، دكتور أحمد محمد ويس، منشورات اتحاد الكتاب العرب، سوريا، 2002م.
- بنية اللغة الشعرية، جان كوهين، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر.
- رقصة الموتى، عباس عجاج، دار المتن، بغداد العراق، 2018م، ط1.
- شظايا، عباس عجاج، دار المتن، بغداد العراق، 2018م، ط1.
- في النثر العربي، قضايا وفنون ونصوص، الدكتور محمد يونس عبد العال، مكتبة لبنان ناشرون، الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان، 1996م، ط1.
- قضايا الحداثة عند عبد القاهر الجرجاني، الدكتور محمد عبد المطلب، الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان، ط1، 1995.
- لسان العرب، ابن منظور،
- مدونة الكاتب داوود سلمان الشويلي على الانترنت.
- المعجم الفلسفي، الدكتور جميل صليبا.


[1] مدونة الكاتب داوود سلمان الشويلي على الانترنت.
[2] لسان العرب: مادة أدى.
[3] ينظر: المعجم الفلسفي: 1/ 330.
[4] بنية اللغة الشعرية: 37.
[5] قضايا الحداثة عند عبد القاهر الجرجاني: 51.
[6] شظايا: 95.
[7] شظايا: 16.
[8] شظايا: 95. الصواب يظن بعضهم أنه.. ويعتقد آخرون أنه مريض نفسي..
[9] رقصة الموتى: 19.
[10] الانزياح في التراث النقدي والبلاغي: 65.
[11] رقصة الموتى: 18.
[12] رقصة الموتى: 25.
[13] شظايا: 58.
[14] شظايا: 58.
[15] رقصة الموتى: 10.
[16] رقصة الموتى: 21.
[17] شظايا: 31.
[18] رقصة الموتى: 98.
[19] شظايا: 77.
[20] ينظر: في النثر العربي، قضايا وفنون ونصوص: 227.
[21] رقصة الموتى: 79.
[22] الادب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية: 187.



دكتور خالــــد حــوير - الشمس جامعة ذي قار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى