علي السباعي - شارع الهوى.. قصة قصيرة

إبان حرب الثماني سنوات، عشتُ حدثاً مروعاً فَتَح في قلبي جرحاً سوف يظلّ مفتوحاً ما حييتُ. إنني ما زلتُ أرى، رأي العين والقلب، ذلك اليوم القاتم من تاريخ بلدي الأكثرَ عنفاً ودمويةً وحزناً، حيث وقفتُ مهموماً وسطَ شارع الهوى سابقاً، والحبوبي حالياً في الناصرية، بعد خروجي من المدرسة وبرفقتي زميلٌ لي، عندما وصلنا ساحة الحبوبي التي يتوسطها تمثال الشاعر المجاهد محمد سعيد الحبوبي، مرّ رتل عسكري من اللاندكروزات والوازات والأيفات والفوانات يحملن الدبّابات وناقلات الجنود، والجنود يلوّحون لتلامذة المدارس والمارة المتعبين بعلامة النصر. شاهد زميلي مثلما شاهدتُ أمّه الشابة الجميلة زوجة الشهيد، وقد وقفتْ أمامها سيارة نوع تويوتا "سوبر" حمراء اللون يقودها ضابطٌ يضع على متنه ثلاث نجوم ذهبية، راودها، فصعدتْ إلى سيارته ونحن نتطلع مبهوتين بعيون سومرية سود تلتهب دماً، في أثناء مرور السيارة من أمامنا رمى الضابطُ عقب سيجارته بوجوهنا وراح عقب سيجارته يعربد في الهواء حتى تلقفته الأرض. أرض العراق، وحماة البوابة الشرقية يلوّحون بعلامة النصر لنا. سألتُ نفسي آنذاك:
- كيف أنحازُ وبشكلٍ مطلق لمحنة الإنسان أياً كان موقعه؟
فكانَ هذا السؤال ثيمةً جوهريةً في كتاباتي.
يومها حاولتُ أن تكون حياتي مثل حياة ناظم حكمت، من بدايتها حتى نهايتها كفاحاً مستميتاً دفاعاً عن المظلومين والمقهورين والمضطهدين، فكتبتُ أول قصة قصيرة في حياتي وذلك في الرابع والعشرين من نيسان عام أربعة وثمانين وتسعمئة بعد الألف، وقد وسمتُها بعنوان "عربدة عقب سيجارة الضابط العراقي". بهذه القصةِ أكون قد انتميتُ إلى الإنسانية بدلَ أن أنتمي لأعمامي وأخوالي، ساعة الانتهاء من إنجازها لم تكُ شهرزادُ حيةً لأعرضها عليها، فعرضتُها على والدي، بعدما فرغ من قراءتها.
قال لي:
- بُنيَ. لقد اخترتَ المهنةَ التي تجلب الفقر!
فبادرتهُ فَرِحاً:
- لقد اخترتُ المهنةَ التي تغيّر العالم.
عقّب والدي بحنوّ:
- ستبقى طوال حياتكَ تطارد خيط دخان.
فبكيتُ في سرّي، وقدْ لاحظ حزني وثباتي، فأوصاني مرغماً:
- بُني. هنالك كونٌ بديع من نورٍ خالُقُهُ اللهُ، وإن أرضَ العراق أرض الأنبياء والأولياء والأوصياء، إنها "أرضُ عبقر"، أرضُ نور، واعلمْ جيداً أن الظلمة دائماً ضد النور، والشر دائماً ضد أرض النور، أرض الخيرِ، أرض العراق، وإياكَ وأنتَ تكتب أن تُدير ظهرك للإنسانية.
لحظَتَها عرفتُ كيف أكون نوراً. لكنْ! حتى الآن لم أعرف لماذا الآخرون يصرّون على أن يكونوا شراً في أرض النور، وأقول إن ما يحدث من ويلات على هذه الأرض، أرضِ العراقِ هو بسبب النورِ الذي يشعّ فيها.
وهكذا يستمرُ انطفائي، انطفاء عمري قصةً بأثر قصة.
* * *
كبرتُ، كبُرَ همي، وأنا أقرأ، وأقرأ، وأكتب، فكانت الكتابة صمّام أمانٍ يفرغ ألمي وحزني وغضبي، وجعلتني الكتابة أقف على قدمي.
دخلنا الكويت بحجة أن الماجدة العراقية صارتْ بعشرة دنانير.
* * *
إبان الحصار كنتُ أنظر إلى الحمار وأحسدُهُ، وكان الحمارُ ينظر إليَّ ويشيح بوجهه عني يزدريني. أليسَ هذا بكافٍ لأن يجعلني أكتب؟
كنتُ أكتب واقرأ من أجل ذاتي. الآنَ صرتُ أقرأ وأكتب من أجل الآخرين. حاولتُ الكتابة َعن اقتناعاتي من دون خوف، فالعمرُ واحدٌ، والعمر قصير.
كنت أُحسّ الحياة، حياةَ الآخرين وأحقق ذاتي في الكتابة. نشرتُ أول قصة قصيرة لي في مجلة "الإتحاف" التونسية عام سبعة وتسعين وتسعمئة بعد الألف، موسومةُ بعنوان "عرس في مقبرة"، وموضوعها مستلّ من الحصار، إذ باع رجلٌ بناتهُ لبيت دعارة كونه لا يستطيع أعالتهن، فأصيبت أمهنّ بالجنون.
إن طول الحياة يعتمد على ثراء لحظاتها لا على طولها، ويستمر انطفاء عمري قصةً بأثر قصة. حاولتُ بكتابتي أن أجسد حوادث تجرح الإنسان العراقي في الصميم، في كرامته، حوادث حطمتْ إنسانية العراقي، وجرّدتْهُ من أبسط حقوقه في وطنٍ يعتريه الظلم والعنف والفوضى والعقم.
صدرتْ مجموعتي القصصية البكر "إيقاعات الزمن الراقص" عام ألفين واثنين عن اتحاد الكتاب والأدباء العرب، التي كتبتُها بصدق عن نبض ِواقعنا العراقي البائس وإنسانه المسحوق إبان فترة الحصار، الذي يشكل أغلبيةً جائعة، مريضة، جاهلة، مظلومة، تتفرج على همومها ليل نهار، وتنظر إلى الغد بعيون متشائمة ونفوس سوداوية لإنسانه الذي أضناه القهر.
استطعتُ التعبير عمن يعيشون على حافة الحياة في قاعها العراقي الساخن. استطعتُ منذ البداية أن أنتبه لخطورة القصة وأهميتها.
هذا هو التحدي!
القصة كائنٌ بدائي متوحش مثل الشعر إلى حد كبير. الشعر والقصة أجدهما يمثلان طهر الإنسان. لأنهما متمردان على الأعراف كونهما محبان للحرية، فجاءت ولادةُ "ابنتي الثانية"، "زليخات يوسف"، بعد سقوط من كتب على رحلات دراستنا وبالصبغ الأحمرِ الفاقع: "جيل الثورة" عام ألفين وخمسة عن "دار الشؤون الثقافية العامة" ببغداد.
* * *
أجدني أعيش إلا من أجل القصة. أعيش حياتي بكل تفاصيلها ولكنني لا أغفل عن القصة. كل تفصيلٍ في حياتي مضمخٌ بالقصة، وأنا اليوم أكثر ثباتاً على أن القصة هي خلاصي الأول في هذه الحياة لأني أجد فيها ذخيرة عمري كلّه، وينطفئُ عمري بأثر قصة. وما زلتُ إلى الآن أُطارد خيطَ دخان... وأنا الآن أسقط في النسيان.
قلتُ لها بمحبة:
- أموتُ لأجلك.
فزعت من نومي لان يوم أمس حبيبتي ذبحوها لأن اسمها بغداد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى