عباس عجاج - الظليمة.. قصة قصيرة

(( ذات زمن منسي، عجز المؤرخون من رصد خباياه، و الوغول إلى فحواه، إلا من بعض نقوش أثرية، و طلاسم لرؤى تنبؤية، رصدها منجّم مغمور قبل الطوفان بمئات السنين ))

كان جدي الأول قد خرج شاهرا سيفه في وجه عذراوات المدينة، بعد أن أشاعت جدتي المغصوبة على الزواج منه نتيجة عادات، و تقاليد متوارثة، أنه ناقص الرجولة، أخذ على عاتقه ان ينتقم من كل النساء، و يستولدهن الشطّار، و الشقاوات، و البلطجية، و رؤساء الدول.

في أقصى القرية، حيث غدير الماء الجاثم على الأرض الملعونة ، بعد أن وطأها قوم لوط في ترحالهم الأخير، و توقف ركبهم ليمارسوا الخبائث؛

كانت الفتيات كطير القطا، يتعثّرن على وجوههن، و صراخاتهن تمضي في أفق ممتد حيث اللانهاية؛

" دلع " - كما دأبت النساء ينادينها -، سقطت على دبرها، فانكشف عما بين ساقيها، فكان لعاب جدّي يسيل، يملأ الوادي مختلطا بقطرات دم بكارة فُضّت للتو،

وحده جدي يفتل شاربيه، مزهوّا بطعم الانتصار،

في صولته العاشرة بعد المئة، تقدمت "دلع" برفقتها حسناء أخرى، تقدمها قربانا لفحولة جدي المهدورة، ليمارس عليها طقوس الطوفان، و يرمي بأعماقها لعنة الأحفاد، الذين ستكتظ بهم أرصفة الشوارع بعد آلاف السنين، و يحكمون البلاد ليعيثوا بالأرض فسادا، و يترنحون - ربي كما خلقتني - في أندية العراة، و ترفع لهم " دلع " رايتها الحمراء، ترفرف حيث تلتف حولها مئات الضحايا يتقدمن راغبات، نحو السيوف المسلولة من أغمادها، يحتفلن بمواسم الذبح، و يشعلن شموع الانكسار.

على مدى ألف عام أو يزيد، كان جدي شاهدا على كل أعواد المشانق التي نصبت في الساحات العامة، وفي مفترق الطرقات، وحاضرا أينما حلت فرقعة السيوف، وهرطقة سنابك الخيل، أينما كانت الدماء منابع تسقي الأرض، سواء من رقاب الشهداء، أو في ساحات الوغى، وحتى من بين سيقان النساء، تتبعه ريح صفراء مشبّعة برطوبة نتنة، كبقايا طيور نافقة محتبسة في قنّ عتيق.

أولئك الذين يكتبون التاريخ يتحاشون ذكر جدّي خشية أن تحلّ عليهم اللعنة كما حلّت بالسامريّ من قبل، لكنهم يستهوون حضوره كلما خلوا بأنفسهم في الحمامات الحجرية، أو في بيوت البغاء، أو الملاهي.

كما تستهوي النساء حضور" دلع " حينما تضرب لهن الودع، و تمسّد لهن أجسادهن ليصلن إلى درجة الشبق، فتطفأ من لوعة النار المشتعلة فوق تلك النتوءات والأغوار،

ما كان جدّي سوى خطيئة البشر، لم يأمر قابيل بقتل أخيه، ولم يدفع أبناء يعقوب لرمي يوسف بالبئر، لم يكن شاهدا معركة الجمل، و لم يسوّل للاسلامبولي بقتل أنور السادات، كان البشر يظلمون جدّي، و يلفّقون له التهم المنسوبة ظلما، كما فعلت جدّتي من قبل، و البعض تمادى بالظليمة فقال: هو الشيطان، وقد خُلق الشيطان من نار، و جدي من طين.

ظليمة جدي تشبه ظليمة " دلع " التي كانت ضحية لفورة الانتقام، وتخلّي الصبايا عنها حين وقعت فريسة بيد ذئب جامح، فتركنها تعاني لذة الألم، دون أن تشبع الرغبة التي حلّت عليها بلعنة جدّي، فدأبت تستكشف النشوة في شواطئ النزوات، و مكامن الرزايا، فكانت سببا لسقوط القسطنطينية، و محرضة لضرب هيروشيما بالقنابل النووية، و صاحبة فكرة قدّ القميص من دُبُر.

- هل أشارت "دلع" على "هند" أن تأكل كبد " الحمزة "؟

- لا... "هند" كانت ملعونة، و أراد الله للحمزة مكانا رفيعا.

- قلت أنهما ليسا من الجانّ؟

- لا... لا... لم يكونا من الجنّ، بعض الأمور عليك أن تدركها، لا أن تعلمها.

- وإن لم أستطع إدراكها؟

- يجب عليك أن تُسلِّم بها، إن كانت حقيقة فقد حالفك التوفيق، و إن كانت وهما ما يضرّك منها شيئا.

- لا تزال الأمور غامضة.

- هل تعرف لغة الصينيين؟

- لا.

- إذا ذهبت للصين هل ستعيش، و تتعايش معهم، أم ستموت؟

- بالتأكيد سأعيش و أتعايش، و قد أتزوج هناك بامرأة صينية عيناها صغيرتان، و أنفها أقطم، و بيضاء كالجبن.

- يسعدني أن يكون لنا أبناء عمومة يمارسون اليوغا، و الكيك بوكسينج... هكذا تفسّر الأمور، يمكنك أن تتعايش مع ما لا تعرف.

سيظهر لك جدّي دون أن تراه، حين يجد فيك رغبة صادقة لاستكشاف فحولتك في نزوة عابرة، أو أخذ ثأر لحظة ثورة دامية، ليس مهمّا أن تكون على حق أو على باطل طالما أنك تمتلك الرغبة في تحقيق هدفك، يكتفي أحيانا بقدرتك على تحقيق الأهداف المرجوة، و أحيانا أخرى يرسل إليك من يساعدك في تحقيقها، وإن استدعى الأمر سيتدخّل مباشرة،

إنه لا يمثّل الشرّ،

ولا يهتم أن يكون سببا للخير.

فتلك الأمور تجاوزها منذ أمد بعيد، نحن البسطاء نحمل لها أهمية، و نصنع منها معضلة، حسب إدراكنا المحدود.

أخذ عهدا على نفسه ألاّ يكون لقوم دون قوم، أو لأرض دون أرض، ما يتمتع به من كرامات لم ينلها هباء، كانت التضحية جسيمة، و الثمن باهظ، و ما ترافقه من لعنة ما هي إلا كرامة حظي بها دون سواه.

" دلع " لم تطأها اللعنة، فقد أصبحت جزءا منها، أرضها خصبة معطاءة، تلفّ عباءتها حول خصرها، تجدها سباقة في كل مأتم و عزاء، تمنح النسوة النشوة في شقّ الصدور، و لطم الخدود، و بيارقها لا تنفد، فرايتها الحمراء ترفرف فوق سفارات الدول، و على أوكار الدعارة، و على الشواطئ حيث تتمدد ذوات اللحم الأبيض بلباس البكّيني تحت أشعة الشمس تُمنّيهن بلون حنطي يصبغ جلودهن الباهتة، هي الأخرى لا تمثّل الشر، ولا تسعى للخطيئة، فما كان خلاص شهرزاد إلا بمكيدة سافرة من لدنها، كسرت بها شوكة شهريار الذي صنعه جدّي من قبل.

وقد ساهمت باستعادة هيبة الدولة في زمن المقتفي لأمر الله، فقد وضعت له خطط تفكيك وحدة السلاجقة في العراق، فأشغلتهم في اللهو و شرب الخمر، و أثارت بينهم الفتن و الصراعات، فجعلتهم يضربون ببعضهم البعض، فأنكسر نفوذهم، و عادت هيبة العرب.

إنهما لا يتدخلان في مسيرة الحياة إلا من حيث تقتضي الحاجة، و يستلزم الناموس، و مع مرور الزمن سيندرس الأثر، و تبقى العبر، أنهما زناد لقدح شرار الغضب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى