دريني خشبة - 1 - الشعر المرسل والشعر الحر

(إلى الأستاذين الشاعرين، أبي الحديد وباكثير من رواد


التجديد في الشعر العربي، أهدي هذه الفصول)

الشعر المرسل هو الشعر الذي لا قافية له، واسمه بالإنجليزية

والشعر الحر هو الشعر الذي لا يتقيد بعدد التفعيلات في البيت الواحد، فقد يتركب البيت فيه من تفعيلة واحدة، وقد يكون تفعيلتين، وقد تصل تفعيلاته إلى ثمان أو عشر أو اثنتي عشرة، وذلك في القصيدة الواحدة. والشعر غير مقيد في أبياتها بعدد من التفعيلات يتمها في كل بيت، بل هو يرسل نفسه على سجيتها، فتارة يقول تفعيلة واحدة يودعها إحدى خوالجه، وتارة يقول خمس تفعيلات تعبر عن خالجة أخرى، وطوراً تصل التفعيلات إلى ثمان أو أكثر أو أقل، حتى تتم القصيدة أو الملحمة، وهذا هوال ويتفق الشعر الحر والشعر المرسل في التحرر من القافية، وهما في ذلك يختلفان عن الشعر الغنائي الذي لا تتم موسيقاه إلا بها

ولا يتقيد الشعر الحر بالأوزان العروضية الرسمية، فللشاعر أن يبتكر أوزاناً جديدة إن استطاع؛ وقد غلا شعراء الشعر الحر في ذلك حتى لا تلتفت إلا الأذن الموسيقية وحدها إلى (غنائهم المكتوب) كما يعبر مؤرخو الآداب الأوربية

وكان أول ظهور الشعر المرسل في إيطاليا في أوائل القرن السادس عشر، حينما كتب به الشاعر ترسينو مأساته سوفونسبا وذلك سنة 1505، ولا يعرف تاريخ الآداب العالمية شعراً مرسلاً أقدم من هذه المأساة. وقد أنشأ الشاعر جيوفاني روشلاي (1475 - 1525) منظومته (النحل) بعد ذلك، وهو الذي أطلق على هذا اللون من ألوان الشعر اسم (الشعر المرسل) أو كما سماه الإنجليز

وما كاد هذا النوع من الشعر يظهر في إيطاليا حتى قابل النقاد والمتأدبون بأعنف صنوف السخرية والاستهزاء. . . وكانت أخف صفات التحقير من شأنه هي: غث. . . كلام فارغ. . . هراء. . . هذا عبث. . . ذلك إجرام في حق الشعر الإيطالي. . . لا شك في أن ترسينو يهذي. . . إلى آخر تلك السلسلة الصارمة من ألفاظ الهجاء. . .

إلا أن ترسينو ما فتئ يلح على مزاج أمته ويغازل ذوقها حتى استجابت له، وحتى أقبلت على مآسيه تستخفها وتسيغها، ثم تنسى بها المآسي المنظومة بالشعر الغنائي المقفى وتنسخها نسخاً

ثم نظم بالشعر المرسل فحول الشعراء الإيطاليون بعد ذلك، وفي مقدمتهم أريوستو الذي نظم به ملاهيه الرائعة كلها، وتاسو وجواريني وغيرهم

وقبل وفاة ترسينو بقليل، انتقل الشعر المرسل إلى إنجلترا، وذلك في أواخر عهد هنري الثامن، حينما ترجم هنري هوارد جزأين من إنيادة فرجيل إلى الإنجليزية بهذا الشعر

ثم استعمل الشاعران ساكفيل ونورتون الشعر المرسل لأول مرة في الدرامة الإنجليزية حينما ألفا درامتهما المشهورة (جوربودك التي لخصناها للقراء في فصولنا السابقة عن نشأة الدرامة الإنجليزية. ولم يكد ينتهي القرن السادس عشر حتى كان الشعر المرسل يستعمل استعمالا عالمياً واسع النطاق - إلا في العالم العربي طبعاً! - وفي جميع الأغراض المسرحية، وذلك بعد أن لقي في كل دولة من الدول الأوربية نفس ما لقي في إيطاليا من السخرية والاستهزاء. . . إذ ناهض النقاد الإنجليز مناهضة قاسية، ومع ذاك فقد هيأ الله له فيها شاعراً شابا فخم الديباجة حسن السبك مشرق البيان نقي الأسلوب، لا يلتوي ولا يغمض، ولا يتعمل ولا يغرب، فاستطاع أن يكبح جماح النقاد، وأن يرغمهم على احترام الشعر المرسل. . . ذاك هو مارلو العظيم الذي ألمعنا إلى جهوده الأدبية في كلماتنا السالفة؛ مارلو صاحب القريض الفريد أو أل: كما دعاه النقاد الساخرون أنفسهم فيما بعد

ثم تهيأ للشعر المرسل شكسبير الخالد، وذلك عندما أشرفت حياة مارلو على نهايتها، فقد نظم (سيدا فيرونا): ثم أردفها بروائعه المسرحية التي بهر بها الدنيا جميعاً حيث تجلت فيها مزاياه التي أكسبت اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي والشعر الإنجليزي ذلك التفوق الذي سوف يخلد على وجه الزمان. أما هذه المزايا فأهمها الكمال والمرونة والتنوع أضف إلى ذلك الموسيقى التي لا تعرف القلق، ولا يعتريها النشوز أو (النشاز) بمعناها الاصطلاحي تلك الموسيقى التي لا غناء لأي نوع من أنواع الشعر عنها، لأنها روح الشعر ونظرته وجماله في الأذن وفي القلب معاً. . . ثم أضف إلى ذلك أيضاً افتنان شكسبير وتمكنه من اللغة، وبصره بألفاظها، وذوقه الرفيع الناقد الذي كان أقدر الأذواق على تنخل هذه الألفاظ وتخيرها في غير التواء أو تقعر. هذا إلى خيال خصب وبيان متدفق ومقدرة فائقة على التنقل، وإلمام عجيب بالأصول المسرحية التي تنبع أول ما تنبع من البديهة العبقرية قبل أن ترتكز إلى مواضعات علمية

وقد لا يسر القارئ، بل ربما يضايقه جد المضايقة أن نخوض به في شيء من معميات العروض الإنجليزي، ذلك العروض السهل البسيط الذي لا يصح أن نقيسه إلى عروض الشعر العربي، ذلك العروض الصعب المعقد، إلا على الشعراء.

وبحسبنا هنا أن نذكر أن العروض الإنجليزي، بل كل أنواع العروض في اللغات الأوربية، إنما أساسها التفعيلة وليس أساسها الأبحر كما في العروض العربي

وبحسبنا أيضاً أن نذكر أنهم حينما يبدأون الكلام عن العروض الإنجليزي، أو عروض أية لغة أوربية، يقولون إن أشهر التفعيلات عندهم أربع. . . أربع فقط، في حين أن التفعيلات التي تتركب منها بحور العروض العربي كثيرة لا حصر لها؛ فمنها مستفعلن ومتفاعلن وفاعلن ومفاعلن وفاعلاتن وفعلن وفعولن ومفاعيلن ومفاعلتن. . . إلى آخر هذه الثبت الطويل الذي ليس فيه شهير وغير شهير، والذي يمد الشعر العربي بموسيقى لا نظير لها في أي من عروض أية لغة من لغات العالم من حيث الدقة في ضبط الميزان والمحافظة على النغم؛ فلدينا ستة عشر بحراً غير مجزوءاتها ومشطوراتها كل منه له موسيقاه ورقته وعذوبته. ونستطيع أن نجعل هذه الستة عشر بحراً ألفاً وألفين إذا أردنا ذلك، وهذا بتأليف نغم أساسه بعض التفعيلات التي اتفق عليها عروضيو العرب بحيث تتم لنا بحور جديدة موسيقية إن كان لابد أن نزيد في عدد البحور الموجودة عندنا

ولسنا الآن بسبيل الموازنة بين العروض العربي وألوان العروض الأوربي، ولهذا نعود إلى العروض الإنجليزي فنقول: إن نقاد الشعر من الإنجليز يقررون أن اللغة الإنجليزية تجري سهلة لينة طيعة حينما تنظم شعراً في البحر الأيامبي (أنظر الحاشية بأسفل الصفحة) وهو ذلك البحر الذي يتكون من خمسة تفعيلات إيامبيت - وقد اختار الشعراء هذا البحر لنظم الملاحم والدرامات لأنه متوسط الطول فهو يتألف من عشرة مقاطع (5 تفعيلات مقطعين)؛ وقد فضلوه على البحور القصيرة التي تتألف من ثمانية مقاطع مثلاً لأنها تكون قصيرة النفس ولا تنهض بأعباء الحوار في الدرامة، ثم هي لا تسعف الشاعر في أداء المعاني الطويلة في الملحمة؛ وكذلك فضلوه على الأبحر التي تتألف من اثنتي عشر مقطعاً وعللوا ذلك بحاجة تلك الأبحر إلى القافية لتتم الموسيقى ويستقيم النغم ويسلم الميزان

وقد أثار الشاعر الأمريكي لنجفلو على هذا التقليد، فنظم قصته البديعة من أطول بحر عرفه العروض الإنجليزي (ستة عشر مقطعاً!)، كما أنشأ منظومته الطويلة الجميلة من أقصر بحور هذا العروض (ثمانية مقاطع فقط!)

وقد نجح لنجفلو في إفانجلين نجاحاً عظيما. ولن أنسى قط تلك الدموع التي ذرفتها بعد قراءة تلك المأساة الغرامية الباكية المليئة بالعواطف الجياشة والخيال الخصب والوصف الشائق الأخاذ

أما في هياراثا، فقد فشل الشاعر العظيم وانحط عن الأفق السامي الذي ارتفع إليه في درته السالفة. على أنني أحسب أن تفاهة الموضوع هي التي ذهبت بروعة القصة، وليس البحر القصير الذي يشبه المتدارك في العروض العربي، وللمتدارك موسيقاه الحلوة التي لا تنسى ومنه

(اشتدي أزمة تنفرجي) و (يا ليل الصب متى غده)

وبفضل بعض الشعراء البحر الإسكندري نسبة إلى الإسكندر الأكبر والقصائد التي نظمت فيه من هذا البحر. ويؤثر شعراء المأساة الفرنسيون النظم من هذا البحر إطلاقاً وهو يتكون من اثنتي عشر مقطعاً (ست تفعيلات إيامبية مقطعين)

ولم يزل الشعر المرسل يتأرجح بعد شكسبير بين العلو والسفل حتى جاء ملتون العظيم فنظم به طرفته الخالدة (الفردوس المفقود) التي وصف فيها الحرب بين عيسى (الخير) وبين الشيطان (الشر)، وكيف تم الفوز للمسيح آخر الأمر. . . تلك الطرفة التي بلغ فيها الشعر المرسل قمة الإجادة. . . ومن العجب أن يفشل ملتون في منظومته الثانية (الفردوس المعاد) في المحافظة على ديباجته التي بلغها في الفردوس المفقود، ولعل للسن حكمه في هذا الانتكاس

ومما يؤثر أن ملتون استطاع أن يتجنب كثيراً من العلل التي كان يتورط فيها شعراء عصر إليزابث أو التي لم يكونوا يرون غضاضة في وجودها في أشعارهم، وقد أبت على ملتون بصيرته النقادة أن يقع فيما وقع فيه أسلافه، أو أن يبيح لنفسه تلك الضرورات الشعرية السخيفة التي لا يلجأ إليها كل شاعر لم تنضج شاعريته بعد

ثم ركد الشعر المرسل مرة أخرى بعد ملتون حتى عاد إليه شبابه - بعد النهضة - وذلك على أيدي أتواي ولي ودريدن

واستعمله في القرن الثامن عشر شعراء عظماء فأتوا فيه بالمعجز والمطرب، ومن هؤلاء طومسون وينج

ثم استعمله الشعراء المحدثون (شعراء القرن التاسع عشر) أمثال بيرون وشلي وسوبترن وكيتس وتنيسون، وإن لم يستحدثوا فيه شيئاً جديداً، إلا أنهم نظموا فيه الغرر المشجية وأمدوا الأدب الإنجليزي بثروة لن تبيد

وقد فهمت من حديث لي مع بعض الأدباء المصريين أنهم يعتقدون أن الشعر المرسل قد انتهى زمنه، وهذا رأي خاطئ، فقد نظم به رديار كبلنج نصف إنتاجه تقريباً كما نظم به برنردشو درامته العظيمة ' التي أعدها للمسرح عن قصته التي تحمل هذا الاسم، والتي اعترف هو نفسه بأنه إنما لجأ إلى نظمها بالشعر المرسل لأنه أيسر عليه أسهل من النثر!

وسنعرض في مقال آخر إن شاء الله لشعراء العصر الحاضر الذين لا يزالون يستعملون الشعر المرسل في تأليف قصصهم المنظومة ودراماتهم. وسنرى ما كان يلقاه بينرو المتوفي سنة 1934 والذي أتى في الدرامة المنظومة بما يضارع ما جاء به شكسبير إن لم يتفوق عليه أحياناً من عنت نقاد الأدب الإنجليزي الحديث وسخفهم

أما الشعر الحر فلم يقرر المؤرخون على وجهه التحقيق متى بدئ استعماله، ولم يهتدوا إلى مبتكره الأول. وقد حاول ملتون في منظومته عن شمشون محاولة بارعة في الشعر الحر، كما شاع استعماله بين الشعراء الفرنسيين. وقد نظم به لافونتين في القرن الثامن عشر، ولكن على قواعد العروض اليوناني، وكذلك استعمله ماثيو أرنولد كثيراً فأجاد

هذا، وقد تفنن الشعراء في ابتكار الأوزان الجديدة لهذا الضرب من ضروب الشعر فأتوا فيه بالأعاجيب. . . على أنه لم ينتشر انتشاراً عالمياً إلا قبيل الحرب الكبرى (الماضية)؛ وتسمى الشعراء الذين آثروه واستعملوه بكثرة باسم أي الذين يصورون صور الأشياء بالشعر الحر كما يصور الفنان صورها في ذهنه بألوان من نور، ومن هؤلاء عزرابوند وفلنت ولوول ود. هـ لورنس الشاعر والكاتب الروائي الماجن وريتشارد ألدنجتون، ونرجو أن نوفق للكتابة عن مذهبهم الشعري بتوسع قريباً

(يتبع)

دريني خشبة

مجلة الرسالة - العدد 538
بتاريخ: 25 - 10 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى