حيدر عاشور - الطوقُ الضائع.. قصة قصيرة

كانت يتيمة الابوين وتعيش في كنف عمها وزوجته، صغيرة تقترب من ربيعها الخامس عشر، قرر ان يتقدم اليها وفي اعماقه تموج مشاعر احسان ورأفة ازاء هذه الفتاة الصغيرة في عالم لم يعد يتحمل احدا اذا ما غاب الاب والام، ومما شجعه على اتخاذ هذا القرار بعد عزوبية اقتربت من الاربعين، معرفته بابيها رشيد الموظف في عقارات الدولة.
في البدء جوبهت رغبة ستار بالزواج من تماضر برفض شديد لفارق العمر ولأن (تماضر) ترغب في اكمال دراستها وقد تلقى ستار الكثير من اللوم وعتب الاهل والمعارف والاصدقاء من قراره المفاجئ ولم يستطع احد ان يدرك المشاعر الحقيقية التي تحركه ازاء تماضر على الرغم من صغر سنها فهو في الحقيقة يريد ان يكون المنقذ، لا سيما وهو مولع بهذا الدور في حياته، ينطلق من روح صافية وايثار قل نظيره فلقد تناهى الى سمعه مكابد هذه الفتاة الصغيرة وكره زوجة العم لها ومعاملتها بقسوة وغلظة ويقال بانها اقدمت في احدى فورات غضبها على ان تمزق وتحرق كتب تماضر لكي تبقى في البيت كأية جارية تقوم بالغسل والكنس وشؤون المنزل الثقيلة الاخرى..
وبعد اسبوع من رفض الطلب بدأت الافكار تتداعى في الرؤوس: العم وزوجته وتماضر.. الاول في تخليص تماضر من معاناتها مع زوجته التي لا يستطيع كيف يعاملها فهي مجبولة على الايذاء والخبث لاسيما وهو غير متواجد في البيت بشكل دائم، اما زوجة العم فترغب في التخلص من تماضر وهي تفكر بتزويج ابنها من ابنة شقيقها وبتزويجها تماضر من ستار، قطع للطريق الذي قد يفكر به زوجها من بقاء البنت في البيت بصفة زوجة لابنها.
اما الضلع الثالث والاهم فهي تماضر التي راجعت الفكرة فالحياة عسيرة ولم يعد الزواج سهلا ً والحصول على فرصة الزواج صارت كالحلم في زمن تناقص فيه الرجال واكلتهم الحروب واقعدتهم عن الايفاء بالنفقات والظروف العصبية ومن الحصارات وتدني مستوى العيش وانعدام فرص العمل.. واصبحت النسوة في وضع حرج ولم تعد الشروط القديمة تتماشى مع الواقع العصيب..
ويقال ان الرجل الكبير اكثر نضجاً من الشاب النزق، والزواج من هذا الرجل هو خلاص من عذاب زوجة العم، ولا سيما وقد وافق على الشرط المهم في اكمال دراستها، فهي تجد حياتها كلها متوقفة على الدراسة ونيل شهادة عليا... هذا الطموح الجامح جعلها توافق في سرها على الارتباط بستار الذي يعمل سائقاً لسيارات الحمل الكبيرة لنقل البضائع بين المحافظات..
وفي مواجهة بين العم وزوجته وتماضر بدأت اطراف الحديث تسير باتجاه ستار وبدأت الكلمات اكثر تبريرا ونبرة القبول بدت هي المحرك للحديث وكل ادلى بدلوه.
وهجست تماضر بأن عمها وزوجته ينطويان على قبول دفين وشيئاً فشيئاً تكاشف الثلاثة وكل تدفعه رغبة لا تشبه رغبة الاخر وكل ينظر الى القضية من منظاره الخاص وحين ابلغ ستار بهذه الاخبار السارة لم ينم ليلته وكأنه حقق حلما طال انتظاره وبسرعة تامة بدأ يهيئ كل شيء واقسم للجميع بانه سيرعاها وسيوفر لها كل صغيرة وكبيرة من اجل رغبتها في اكمال دراستها ونيل الشهادة العليا لا سيما وهي ذكية وقد نذرت عمرها للدراسة والتفوق، وحين ضم السقف الجسدين قبّل ستار تماضر من جبينها وعاملها كطفلة مدللة، وفي خضم الاحاديث التعاريفية والهواجس الاكتشافية همست تماضر له: بانها تنهي كل شيء حين يمنعها من الاستمرار بدراستها.. فضحك ستار وافاض وجه بالانفعال الطفولي وهو يقسم لها بانه سيبقى مصمما على هذا القسم وسيوفر لها كل ما تحتاجه من اجل الدراسة وقرر ان يختار فتاة فقيرة لتساعدها في اعمال المنزل ولكي تتفرغ هي لدراسة فحسب.
ومثلما بدأت سيارة ستار الكبيرة تقطع عشرات ومئات الاميال بدأت الاعوام تترى وكلاهما غارق في عالمه.. ستار في عالم نقل انواع البضائع وعشرات السفرات من اقصى المدن الى اقصاها، وتماضر تستميت في الدراسة والحرص على نيل النجاح بتفوق مدهش، وقد اقام ستار حفلة للجيران والاقارب وصديقات تماضر بمناسبة مذهلة هي قبول تماضر في كلية الطب بعد جهد السنين والرعاية وتوفير كل ما تحتاجه من كتب وملازم وانتهاء بتوفير خادمة لها، ومنذ تلك اللحظات السعيدة بدأ ستار ينادي زوجته بالدكتورة تماضر ولم يطل الزمن حتى تحولت بالفعل تماضر الى اخصائية في الطب وجراحة العيون وبذل ستار كل بوسعه لحصول على عيادة لها في مكان مرموق واستقر الحلم في حدقات تماضر وحين جلست خلف منضدة الفحص تطلعت في اثاث العيادة التي اكتمل فيها كل شيء من اجهزة وادوات نهضت وتطلعت الى الافق البعيد عبر النافذة وشعرت بان شريطا من الذكريات المرة بدأ يتوامض امام ناظريها وهاهي تتوج كل الاعوام الكالحة بهذه النتيجة الحلمية وتسير بزهو فوق ارض صلبة لكن طرقات الباب القوية سحبتها من عالمها كان وجه ستار اول طالعها حين فتحت الباب دخل وفي وجه بشارة متوهجة وسعادة لا توصف ولولا الخجل لاحتضنها ولكن الزي الطبي جعله يفيق من رغبته الملحة، طلبت منه الذهاب وتركها تمارس عملها، لم يشعر ازاءها بأي شعور..
تركها وهو ينظر من بعيد الى لافتة علقت على جدار (الدكتورة تماضر حسن) شعر بزهو وسعادة كمن انتهى من صنع تمثال جميل وسار وفي عقله تتدعى كل تلك السنوات التي كابدها من اجل الوصول الى مثل هذا اليوم البهي.
لم يمض شهران على هذا الحدث الكبير والفاصل حتى شعر بان تماضر لم تعد تماضر لقد تغير فيها كل شيء حتى طريقة كلامها ومشيتها وطلباتها وقسوتها على الخادمة التي فرت من البيت دون رجعة.
لكن ستار لم يتغير ازاءها بل ازداد تعلقا بها وايقن ان ما حدث لها هو شعور طبيعي بفرحة الشهادة وانتقالها من عالم الى عالم اخر وكم كان بحاجة ان تتذكر تماضر تعبه وجهده من اجلها فهما الاثنان ساهما بالوصول الى هذه الحال من الرقي هي بدراستها وهو بماله وتضحيته فهو لم يعاملها كزوجة قط بل كأستاذة داخل البيت.
حين عاد في احدى الليالي من سفره البعيد وجد البيت فارغا والانوار مطفأة تلمس طريقه وسط الظلام وبدأ ينادي : تماضر.. تماضر ولكن دون جدوى.. اكتشف انها منذ ان سافر في سفرته الاخيرة انتقلت الى بيت عمها واعتبر الامر عاديا كونها شعرت بالوحدة خصوصا بعد طردها الخادمة.
ولم يستطع البقاء في البيت وحده اغلق الابواب توجه الى بيت العم وجلس لأكثر من ساعة مع العم وزوجته دون يظهر لها اثر..
استشاط غضبا في اعماقه وبدأ يلح بالسؤال عنها ازاء البرود واللامبالاة التي وجدها في الوجوه وتتوج هذا الموقف المؤذي له بان حدثته تماضر من خلف شباك داخل احدى الغرف من انها قدّمت في المحكمة دعوة تفريق بعد ان قررت الانفصال عنه.
وقف امام الشباك وهو يكيد بنفسه ويتماسك خجلا من السقوط وبدأ يطلب منها السبب وهل فعل شيئا لا يرضيها.. وهمس بحنان بانه سيجلب خادمة جديدة اذا تطلب الامر فلم يكن دفاعه بحنان بانه سيجلب خادمة جديدة اذا تطلب الامر فلم يكن دفاعه عن زينب الخادمة الا حرصا على وجود خادمة لها في البيت..
بدأت تماضر تحدث بحديثها وخشي العم وزوجته من تعبير تماضر عن غضبها وكلماتها الجارحة التي تفوهت بها قبل مجيء ستار.. واخذت تماضر توغل في رفضها العودة الى البيت فهي لم تعد قادرة على العيش فيه وهي مصرّة على الطلاق حتى لو دفعت كل ما تملك وقف ستار مندهشا وشعر بالتخاذل وبنكران الجميل وان هذا الكائن الجميل قد انقلب الى كائن اخر لا يمت للجمال او العاطفة بأية صلة.. ولكن كلمة اصطدمت بأذنيه وكادت ان تجعله يفقد عقله وصبره وايثاره حيث قالت له : الناس بدأوا يعيّروني بك.. لقد اصبحت عارا لي وعبئا يجب التخلص منه، كيف يمكن لطبيبة ان تكون زوجة سائق سيارة حمل.
لقد تهاوى كل شيء وانهار الحلم وهو يواجه كابوسا وامرأة شرسة بعيدة عن تلك الفتاة الحالمة.. اكتشف اللعبة الغبية التي كان هو بطلها.. امسك بهدوئه وخرج باتجاه الخارج مستعيدا رجولته لكنه تذكر شيئاً فعاد الى الشباك وقال بهدوء تام.
- انت طالق
خطا خطواته في الليل المليء بالنجوم وشعر بانه تحرر من لعنة مؤذية.


*حيدرعاشور
*قصة قصيرة من مجموعة(بوحٌ مؤجل)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى